رواية «أخف من الهواء»: حكاية العجوز القاتلة
كيف يمكن للضحية أن يكون فجأة جلادًا؟ وهل يمكن أن تكون الحكاية شفاءً للراوي فعلاً كما يقولون؟ يبدو أن الحكايات والقصص التي لم نروها تجثم على حياتنا وتؤثر علينا حتى إذا وجدنا من يسمعها لا يسعنا إلا أن نلقيها عليه هكذا دفعة واحدة. وهنا يثور سؤال آخر مبني على ما نسمعه من حكايات ومواقف وأخبار؛ أين تكمن الحقيقة بين كل هذا؟ وهل يمكن أن يتسرب الخيال إلى تلك الحكايات بشكلٍ واعٍ أو غير واعٍ؟
كل هذه الأسئلة وغيرها بالتأكيد سيثور في عقل القارئ ووجدانه، بمجرد الشروع في قراءة هذه الرواية البسيطة الآسرة، بكل ما تحمله من صراعٍ خفي بين قوى غير متكافئة على الإطلاق، امرأة عجوز تحتجز شابًا كان ينوي سرقتها، قاده سوء الحظ إليها، ليقع في شر أعماله، وتبدأ العجوز حكايتها.
هكذا مباشرةً تبدأ الرواية، ولا أظن أن قارئًا سيتخيّل أن الرواية والحكاية كلها ستبدأ وتنتهي عند هذه الحالة وفي هذا المكان المحدد، بين الحمام الذي احتجزت فيه العجوز ذلك الشاب السارق، وبين منزلها البسيط وحركتها فيه.
استطاع الكاتب أن يجعل القارئ متشوقًا لمواصلة القراءة ومتابعة تفاصيل الحكاية، وذلك من خلال عدد من التقنيات الذكية والبسيطة التي اعتمد عليها في كتابته، فمن ذلك انتقال السرد بين الماضي والحاضر، تلك التقاطعات الزمنية المتتالية تمنح السرد حيويّة من نوعٍ خاص، بالإضافة إلى تغيير نبرة الخطاب التي تتحدث بها الراوية/الساردة نفسها بين لهجة الاستعطاف، إلى لهجة الأمر والصوت القوي العالي، إلى لهجة الوصف المجرد للمواقف والحكايات والتي تميل إلى الضعف والاستسلام.
بدا رسم شخصيات الرواية رغم حيويتها أحاديًا إلى حدٍ كبير، ذلك أننا لم نتعرف إلا على الجوانب التي حكتها العجوز/الساردة سواء في حكايتها الخاصة، أو أبطال حكاياتها الأخرى التي تحكيها لذلك الشاب، الذي بقي حبيسًا ولم نعرف عنه إلا ما ذكرته العجوز كذلك. وهي طريقة مثيرة في السرد، تدفع القارئ إلى المزيد من التفكير في الخلفيات والدوافع التي ربما لم تفصح عنها الحكاية، وتظهر بين الحين والآخر في ثنايا الكلمات التي تطلقها الساردة. تلك التي تؤكد طوال الوقت أن ثمة حكاية أخرى قد تكون هي الأصدق، وأن خيالها يتدخل ليبني ما تحكيه.
لا يقتصر الأمر على الحكايات بكل تأكيد، فهناك بين طيّات العمل إدانة واضحة للموقف من المرأة على وجه التحديد، وكيف يتم التعامل معها بقسوة وعنف، كان ذلك في الماضي من خلال حكاية الأم، وإذا به يتجدد مرة أخرى في حكايتها هي الشخصية، ويبدو أن أثر تلك المواقف كلها لم يزل باقيًا ومؤثرًا في نفس العجوز التي لم تجد وسيلة طوال حياتها لكي تعبّر عن مشكلاتها إلا ذلك الشاب البائس.
بالرغم من واقعية الرواية وحكاية العجوز وتفاصيلها الدقيقة الحياتية العادية، إلا أن الرواية أيضًا لا تزال مفتوحة للتأويل، إذ لابد أن نفكّر من هذه العجوز المتسلطة؟ كيف استطاعت أن تحجز شابًا قويًا في الحمام لمدة أربعة أيام، لم يتمكن من كسر الباب أو الفرار بأي طريقة؟ ما مدى خطورة الحكايات التي حكتها له إذا كانت كلها عن الظلم والقهر والاغتصاب؟ ما الذي تعرفه العجوز عن الشاب السارق، وتريد أن تعالجه منه بهذه الطريقة؟
هكذا تنتهي الرواية، مع المفاجأة التي سيكتشفها القارئ، هنا فقط يمكنه أخيرًا أن يلتقط أنفاسه، ويستعيد تلك الحكاية الأصلية والحكايات الفرعية الناتجة عنها، مع قدرٍ كبير من الشعور بالمتعة ولا شك، رغم ما كانت تبدو عليه بداية الحكاية من ثبات. ولعل أحد مواطن البراعة والجمال أن الرواية لم تعتمد بشكلٍ أساسي على كشف السر في النهاية أو التشويق المجرد، وإنما كانت تفاصيلها وطريقة انتقال البطلة بين حكاياتها، بين ماضيها وحكاية أمها، هي مصدر المتعة الأساسي في الرواية، وهو ما يمنحها خصوصيتها وفرادتها.
تجدر الإشارة إلى أن الرواية جاءت في ترجمةٍ رشيقة وحيّة جدًا قدمها محمد الفولي، الذي استطاع بمهارة أن ينقل روح العمل بكل تفاصيله ليبدو وكأنه مكتوب بالعربية، وهو بهذه الترجمة يقدم للعربية كاتبًا مهمًا ومميزًا، كما فعل في ترجماته السابقة «حكاية عامل غرف»، و«استسلام» وغيرها من الأعمال التي يختارها بعناية.
حصلت رواية «أخف من الهواء» على جائزة كلارين للرواية عام 2009، وهي أول الأعمال التي تنقل للعربية للروائي الأرجنتيني «فيدريكو جانمير» صادرة مؤخرًا عن دار مسعى.