عن «الضوء الذي لا يمكننا أن نراه» لكنه دومًا هنا
تأخذنا المشاهد الأولى من رواية «كل الضوء الذي لا يمكننا رؤيته»، لـ «أنثوني دوير» التي طوّعها «ستيفن نايت» للاستخدام التلفزيوني إلى مشاهد اعتدنا على رؤيتها للمدن الثكلى. مدينة يملؤها الحطام وهواؤها رمادي اللون والجثث تزين المشهد كإكسسوارات. يمكننا سماع صوت القصف وقد يُهيأ للبعض منّا في العام 2023 أن ما نراه هو آثار العدوان على مدينة غزة، لكن يُكتب على الشاشة: أغسطس/ آب 1944 – مدينة سان مالو في فرنسا. فعجباً للقدر الذي يتكرر.
سيحملنا المسلسل ذو الأربع حلقات إلى عالم شاعري موازٍ لعالم الحرب والدمار. فها هي «ماري» تتمسك بالتحدث إلى والدها -الذي غادرها منذ عام وأكثر- عبر المذياع، وتخبره أنها تسمع صوته حتى لو لم تكن تراه، لنعلم في ما بعد أنها لا ترى بالفعل. وفي تصاعد الأحداث ننسى هذه الحقيقة، فهي ترى ضوءاً آخر يُمكِّنها من البقاء متمسكة بالحياة، حتى لو كانت وحيدة بملابس رثة وطعام معدوم ومنزل تحطمت نوافذه. تبدو القصة مألوفة بشكل كبير صحيح؟
ما لا يمكن قتله
نتعرّف في ما بعد على «وورنر»، شاب ألماني يمتلك روحاً مرهفة وعبقرية لا تُقارن بما يخص المذياعات. يحمله القدر على الالتحاق بالجيش الألماني الذي يحاول السيطرة على فرنسا في هذا الوقت. كأي طفل صغير يبحث «وورنر» عن الحقيقة، ليجدها في صوت «الأستاذ» على إذاعة ممنوع أن يستمع إليها أي ألماني وإلا ستكون عقوبته الإعدام.
لكنه الحظ الجيد يُنجِّي «وورنر» من القتل بهذه الطريقة. وأيضاً الحظ الجيد يأتي على صورة الموجة 13.10 التي يتحدّث فيها «الأستاذ» عن ظلمة الروح وعن الضوء الحقيقي الذي يجب علينا البحث عنه كبشر. يتلقّى «وورنر» التعاليم من أستاذه كما تلقّى موسى الوصايا العشر. يتعرّف على العالم الحقيقي بعيداً عن الحروب والتعاليم التي ينشرها «الأخ الأكبر»، يتعرّف إلى الموسيقى، الشعر، الكلمات التي تضخ الحياة في الروح.
يقترف «وورنر» العديد من الخطايا وجرائم الحرب في ما بعد، لكن صوت «يوتاه» أخته يظل يتردد في روحه: «حافظ على روحك في التردد الصحيح ولا تفقدها». وفي شاعرية مُضمرة، يعثر «وورنر» على «ماري» على الموجة 13.10. يعلم أنها تبث رسائل مشفرة ضد الجيش الألماني، لكنه لا يخبر قائده عن ذلك، ويظل يدعي أنه لا يوجد أي نوع من البث في «سان مالو». يتعلق بصوتها، ينتظرها كل مساء بروح منهكة وقلب طفل صغير، يود أن تنتهي الحرب بأي ثمن. يبتسم عندما يجدها تُردَّد مقولات مما كان «الأستاذ»، يقوله ليكتشف أنهما يتشاركان الدوران في مدارات القيم ذاتها.
يُعلمنا «وورنر» أنه حتى لو خسر مبادئه، فهناك شعلة ضئيلة خالدة وهي المعنى الحقيقي لكل منّا. لذلك عندما كان عليه أن يختار بين أن يقتل «ماري» لعملها الجاسوسي أو يُصوِّب رصاصته تجاه قائده، فعل ما يمكن لأستاذه أن يفعله واختار بقاء الضوء.
وأنت الأمل في العيون
في كتابه «البحث عن المعنى»، كان «فيكتور فرانكل» دوماً ما يوضح أن الأمل الوحيد الذي جعله متمسكاً بحياته هو صورة حبيبته. وعلى بساطة هذه الصورة فإنه وجد فيها عزاءً ودافعاً للبقاء على قيد الحياة، وما يُميِّز الأمل أنه متاح حتى للأشرار. فها هو «رينولد» يأمل في العثور على جوهرة نادرة لتشفيه من مرض عضال أصابه ونزع منه روحه، لنرى حتى نظراته لا ضوء فيها كأنها عيون زجاجية. رغم ذلك، يبكي كالطفل الصغير مُستجدياً «ماري» أن تنقذه، ليفقد حياته في نهاية المشهد على يد المراهقة العمياء، التي تؤمن أن لكل الأشياء صوتاً، فعلينا فقط أن نستمع.
في الرواية، كان الدور الذي تلعبه الجوهرة مُختلفاً عن الدور في المسلسل. لكن الرمزية واحدة، فها هي الجوهرة المُسماة ببحر اللهب تُوحي بالتناقض البشري المتأرجح بين قيم ومغريات. فحتى «دانييل» حارس الجواهر في المتحف الوطني بباريس، لم يسلم من الإغراء بلمس الجوهرة الملعونة، ليُصيب العمى محبوبته الصغيرة «ماري».
تمثل الجوهرة أيضاً النفيس الذي يجب الحفاظ عليه من تاريخ وموروث، لأنه الجوهر الحقيقي للأوطان، مثل شجرة الزيتون التي قال عنها درويش: «لا تبكي ولا تضحك. هي سيدة السفوح المحتشمة». بالأمل أيضاً أعاد أهل «سان مالو» إعمار المدينة رغم الدمار الهائل الذي لحق بها.
الهرب.. إلى أين؟
في مشهد مألوف أيضاً، نرى سكان باريس ينزحون خارجها. يغادرون بحثاً عن مكان للسكن والسكون. يشعرون بالألم، لكنهم يكملون في طريقهم رغم ذلك. «دانييل» أيضاً يشعر بالألم لكنه يُؤثِر الهرب بالتخيل والتندر على الوضع، فيحاول إقناع «ماري» أنهما في فندق فاخر، لا حظيرة لا سقف لها، وأن نظام التدفئة رائع رغم برودة الهواء التي لم تفلح النيران في تقليلها. تنجح هذه الخطة في إشعارها بالأمان فتنام. لكن من ناحية أخرى لا يمتلك «إتيان» رفاهية الهرب تلك. فحتى عندما يمسك المذياع ليتحدث إلى متعلميه، يتذكر الحرب وأهوالها ويرى نفسه في خندق لا مهرب منه.
هل الألم أقوى من الحب؟
لم يعلم «الأستاذ» وهو ينشر تعاليمه عن الضوء خلال المذياع أنه يتحدث عن الحب. ذلك الضوء الشفاف الذي يفوق كل الأسلحة قوة. ذلك الضوء الذي منح «ماري» فسحة في قلب «إتيان» العجوز لتعيده إلى الحياة، وتُخرِج النمر من قفصه، بعد أن أنهكته الصدمة التي مر بها خلال الحرب وهو شاب.
ذاته الحب الذي جعل «إتيان» -فرنسي الأصل- يُدافع عن «وورنر» الألماني، ويرى فيه ابناً له رغم الحرب الضروس بين وطنيهما. هو أيضاً الضوء الذي جمع بين «وورنر» و«ماري» في رقصة أذابت الحدود بينهما وكأنهما فرعان لشجرة واحدة. ورغم أن «رينولد» كان يمثل الشر في القصة فإنه أراد معرفة إجابة السؤال: هل الألم أقوى من الحب؟ والإجابة التي علّمها له «دانييل» أنه «لا»؛ فالألم لا ينتصر على الحب، والجسد مهما مرّ بعذابات فهو يسمو فوقها، ويتجلّى بنور الحب. فحتى لو غادر «دانييل»، فإن «ماري» ستظل تراه وتسمع صوته.