رضوى عاشور: إذ تُشكِّلُ التاريخَ حكاية
في ديسمبر/ كانون الأول 2014، نكّس عجوزٌ وشابٌ رأسيهما أمام تابوت امرأة؛ الأول باعتبارها محبوبته منذ خمسة وأربعين عامًا، والثاني باعتبارها أمه. كانت السيدة رضوى عاشور، الأستاذة الجامعية والكاتبة الروائية، التي لعب التاريخ دوره في حياتها، فجسدته حكاياتٍ وحيواتٍ في رواياتها.
هكذا تساءلت رضوى، السيدة الستينية ذات الشعر الرمادي اللامع، التي لم تَقِل جمالًا عن رضوى الفتاة العشرينية بعينيها البراقتين، هي عنفوان الحياةِ متجسدٌ في قوةِ شبابها وحتى في ضعفِ مرضها الأخير.
بتأنٍ وصبر، سافرت في رحلتها الأدبية التي ترحلت فيها بين النقد الأدبي، والترجمة، وكتابة الرواية والسيرة الذاتية، رحلة شكلتها فسيفساءُ تنقلاتها في الزمان والمكان، تعيش في مآسي التاريخِ وغَضَباتِه، وتتقمص أدوار ضحاياه لتنقل حيواتهم إلى جيلٍ رافقته، وأجيالٍ أخرى لن تلتَقِيهم ولكنها سترافقهم بلا شك.
الحياة في التاريخ
اهتمام رضوى الخاص بالتاريخ في رواياتها لم يَكُن وليد صُدفة، إذ إن الأحداث الكبرى التي عرفها العالم العربي بعد الحرب العالمية الثانية –التي وُلِدت رضوى بعد انتهائها بعامٍ واحد-، لم تؤثر في فكر رضوى فقط؛ وإنما شكلت مجرى حياتها.
فزوجها مريد البرغوثي -الفلسطيني الذي أحبته رضوى في سنوات دراستها الجامعية- لم يستطع العودة إلى بلاده إبان نكسة 67، وتم ترحيله من القاهرة عام 1977 تزامنًا مع زيارة الرئيس السادات للكنيست الإسرائيلي، تاركًا رضوى وابنهما تميم ذا الخمسة أشهر، والذي سيتم ترحيله هو الآخر عام 2003 عقب اندلاع حرب العراق.
خروج رضوى من رحم التاريخ وتأثير الأحداث عليها بدا واضحًا في كتاباتها، ودفعا للقول إن: «الحكي هو نتاج نظرتها وتجربتها معًا»؛ فالتاريخ لم يَغِب عن أحداث رواياتها؛ إذ جسدته في «ثلاثية غرناطة»، وأعادت صياغتَه حكايات تتنقل خلال مئة عامٍ في زَمَنِ سقوط الأندلس، تنطلق من اليومي لترصد مأساة أُمة تلاشت، وفي قرارةِ نفسها كانت تُسائل علامات التاريخ التي تتكرر وتُعاد.
هكذا تحدثت رضوى عن دوافعها لكتابة روايتها الأشهر، التي أصبحت فيما بعد أيقونةً لكل من أراد الاطلاع على أندلس ما قبل الضياع. تَلَتها «قطعة من أوروبا»، التي جسّدت فيها القاهرة وأحداثها الكبرى خلال مئتي عام، وعايشت تحولات المجتمع المصري مُتنقلة بسلاسة من جيلٍ لآخر، ثم «الطنطورية» لترسم فيها مآسي الشتات الفلسطينية من خلال عائلة واحدة، تتساءل بصمتٍ عن المعاناة، وتعرض بقلق خوفها من الاندثارِ والضياع.
صناعة الحاضر
رضوى التي صارعت مرض السرطان خمسةً وثلاثين عامًا، حاربت بالموازاةِ سرطانَ الفساد، إذ ساهمت في إنشاء اللجنة الوطنية لمكافحة الصهيونية في الجامعات المصرية حين سعى الرئيس السادات للتطبيع مع الكيان الصهيوني، ثم ساعدت في إنشاء مجموعة 9 مارس للمطالبة باستقلال الجامعات عندما تدخلت حكومات حسني مبارك في الحياة الأكاديمية.
وشعرت بالحزن والاستياء حين أقعدتها العمليات الجراحية عن المشاركة في أحداث الثورة المصرية عام 2011، إلا أن ذلك لم يمنعها من تتبعها حتى وهي على فراش المرض، وعاشت مع شباب الثورة خزي الهزيمة والضياع بعد عام 2013، وقالت في إحدى رسائلها الأخيرة للجيل الذي أحبها وأحبته:
الوداع
بهذه الكلمات رثاها زوجها ومُحبها لأكثر من خمسةٍ وأربعين عامًا، الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي، مُخاطِبًا كُل من أثقله رحيل رضوى، إذ لم يُنكِّس مريد وتميم فقط رأسيهما ذلك اليوم، بل جيلٌ كامل، تركت فيه رضوى بصمتها ورَحَلَت، مُتمثلةً في صنيعها قول أمير الشعراء: