الحياة في صمت جميل
لن تعرف أهمية الكلام في التعبير والتواصل، بل في الشعور بذاتك ككيان متكلم، إلا حين يُفرض عليك الصمت، فما بالك لو كان الكلام مهنتك وحرفتك.
أصابتني نزلة برد قوية لم تمنعني من التدريس الذي هو هواية ومهنة ومسئولية في آن واحد، ثم تطور الأمر نتيجة الجهد إلى التهاب في الحنجرة ثم الأحبال الصوتية. لم أذهب للطبيب إلا حين شعرت أنني أواجه أزمات من السعال لا تسمح لي بالنوم ليلًا، وتم تشخيص الحالة باعتبارها التهابًا في الحلق والجيوب الأنفية، لكن طبيب الأمراض الصدرية طمأنني أن الصدر سليم ولا توجد به مشكلة. بعد أسبوع من المعاناة وعدم التحسن حدد لي صديق موعدًا مع طبيب أنف وأذن، قال إنه بارع جدًّا ومشهود له.
ممنوع الكلام
فتح الطبيب فمي وحاول أن ينظر إلى باطني وفشل مرة لشدة السعال، ثم نجح نصف نجاح في الثانية في أن يرى جزءًا من الحنجرة، اختبر الأذن والأنف ثم قام وجلس على مكتبه ونظر إليَّ وكتب قائمة من الأدوية، ثم ختم تذكرة العلاج بثلاثة جمل مكررة: راحة الصوت، راحة الصوت، راحة الصوت.
تململت وأخبرته أنني أعمل بالتدريس، قال في حسم: التهاب في الأحبال الصوتية.. ممنوع التدريس لأسبوع.. وأراك بعد أسبوعين. إذا لم تلتزمي فسيسوء الوضع وقد نحتاج جراحة!
نزلت من العيادة وأنا أفكر.. كيف يمكن أن ألغي محاضراتي.. هذه مسألة معقدة، تستلزم تعويض الطلاب بما يعني البحث عن موعد ملائم لهم ومكان متاح، وهو أمر صعب للغاية في ظل ندرة الأماكن في كلية هي من أصغر كليات جامعة القاهرة حيزًا.
طلبت من زميلة تحمل بعض المحاضرات، لكن انقطاعي عن الطلاب يسبب لي أنا ألمًا شديدًا، فأنا أحب طلابي بشكل إنساني وأفتقدهم حين يغيبون أو أغيب. كان الحل ببساطة هو تأكيد معنى أن العملية التعليمية شراكة بين الطالب والمعلم، وأن الجامعة ليست مدرسة ابتدائية، بل مكانًا للبحث والتفكير والنقاش.
أعطيت الطلاب في محاضرة أسئلة ليفكروا فيها في مجموعات ثم تعرض كل مجموعة أفكارها، وفي محاضرة أخرى قرأنا سويًا نصًّا عن الحرب والعنف واستعادة التمدن، وتحمل الطلاب الكلام واكتفيت بإدارة النقاش، وفي محاضرة ثالثة استضفت خبيرًا في موضوع المحاضرة ليتحدث وناقشوه مناقشة رصينة وخرج معجبًا بعقليتهم ووعيهم.
أدركت أن كلام الأستاذ يكون بالخصم من فرصة الطالب في الحديث، وحين تكلموا رأيتهم يتفتحون كالورود.
على صعيد الجبهة الداخلية توقفتُ مرغمة عن الصياح في البيت، ساد هدوء نسبي وقل التوتر، واستعنت بجرس صغير أشبه بالذي يعلقه الأوروبيون في رقبة الماشية في المراعي الطبيعية كان والدي يرحمه الله قد أحضره كتذكار سياحي من سويسرا، وضعته بجواري حتى أستخدمه إذا أردت أن أنبه الأولاد لشيء لعجزي عن النداء.
تكلم الأولاد أكثر، مع بعضهم البعض ومعي، وأصبح لديهم مساحة أوسع للتعبير.. والاحتجاج بالطبع، استمتعوا بواقع أن ماما لن تستطيع أن ترد أو تصرخ واستغلوا ذلك أسوأ استغلال ممكن. لا بأس.. قليل من الحرية لا يضر.
عبقرية الصمت
أفادني الصمت حين توجّب عليَّ أن أذهب لتقديم واجب العزاء في زوجة أحد الأصدقاء التي توفيت في ريعان الشباب بعد صراع مع مرض السرطان، وتركت له طفلين صغيرين. تدثرت بالصمت؛ لأنني لم أكن لأجد كلمات أواسيه بها على أي حال، فأتاح ذلك له أن يتكلم هو عنها، عن صبرها وصراعها مع المرض، عن تسليمها ورضاها بالقدر، وعن محبتها له ولأبنائها وتحاملها على نفسها لتسعد من حولها في أيامها الأخيرة، ورحيلها في هدوء وسلام.
الصمت الإجباري أراحني من استخدام المحمول الذي تسلمته ابنتي لتعتذر لمن يطلب بأن «ماما ممنوعة من الكلام بأمر الطبيب»، نصف المكالمات يمكن تأجيله، والربع يمكن تجاهله، والربع الباقي تم حله بالرسائل التي قضت الأمر ووفرت الوقت.
في الشارع كان عليَّ أن أستخدم لغة الإشارة، وهي مسألة صعبة في ثقافة تحب الكلام والتعاطي بالألفاظ، وأدركت كم نتكلم إلى أن يتآكل الفعل.
ما آلمني هو أنني في عيد الأم لم أتمكن من تهنئة من أدين لهن بالفضل، ولم أستطع أن أهنئ بالمولد النبوي كل الأصدقاء، وها أنا أكتب: «كل عام وأنتم بخير وسعادة».
لكن الكلام قد تغني عنه لفتات أبلغ من الكلام، أحد الأصدقاء الأوفياء أرسل لي باقة ورد بمناسبة عيد الأم تقريبًا في حجمي.. وجاري المسيحي الذي يدير الصيدلية التي تقع أسفل العقار أرسل لي باقة من الورد بمناسبة المولد وعيد الأم متمنيًا الصحة، وابنة أخي التي تشبهني أكثر من بناتي أهدتني باقة ورد أسعدتني فقد تصادقنا مؤخرًا بعد أن دخلت الجامعة، وأكبر هدية كانت قبلة من أمي وهي تدعو لي بالشفاء.
هناك لمسات ولفتات أبلغ من الكلام. وحين استيقظت اليوم أدركت أن بيتي قد تحول لحديقة ورد كبيرة هي الأجمل؛ لأنها روضة مشاعر ثرية وغنية.
بدأت أهمس اليوم، وأتمنى أن يعود لي صوتي قريبًا.. لكن أعتقد أنني من الآن فصاعدًا سأتكلم أقل وأسمع أكثر وأتأمل أفضل.