ليبيا: حلبة جديدة لمصالح القوى الكبرى
«بناء على طلب من حكومة الوفاق الوطني، أجرى الجيش الأمريكي ضربات جوية ضد أهداف تنظيم «داعش» في «سرت»؛ لدعم القوات التابعة للمجلس الرئاسي للحكومة»، كانت هذه كلمات الناطق باسم البنتاغون «بيتر كوك» يوم 2 أغسطس/آب 2016، تعليقًا على توجيه القوات الأمريكية ضربات جوية ضد «داعش» في ليبيا، والتي تعاني منذ ثورة فبراير/شباط 2011 من تدخلات دولية وإقليمية تصادمت فيما بينها وهو ما انعكس سلبًا على الداخل، حيث أصبحت البلاد تتنازعها حاليًا ثلاث سلطات: حكومة الوفاق الوطني والتي حظيت باعتراف دولي منذ ديسمبر/كانون الاول 2015، والحكومة المنبثقة عن برلمان طبرق، وحكومة الإنقاذ في طرابلس الصادرة عن المجلس الوطني. ذلك التشرذم، الذي أدى إلى تزايد حالة الضعف الداخلي ووجود مطامع خارجية، مهّد لتدخل القوى الدولية تحت ستار محاربة الإرهاب؛ مما كان وستكون له تداعيات على مستقبل الدولة وتحولها لبؤرة نزاع وتوتر جديدة في المنطقة ومسرح جديد لحروب الوكالة بالمنطقة.
كلٌّ يحارب إرهابه الخاص
دعا رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق «فائز السراج» في أبريل/نيسان 2016 لإطلاق عملية «البنيان المرصوص»، وهي عملية عسكرية ضد «داعش» لطرده من منطقة «سرت» التي سيطر عليها في يناير/كانون الثاني 2015. وفي 12 مايو/ آيار 2016، أطلقت مجموعات مسلحة من مدن ليبيا الغربية على رأسها «مصراته» العملية العسكرية، واستعانت في ذلك بالضربات الأمريكية إذ وجهت واشنطن ضربات جوية لمناطق تواجد التنظيم في أول أغسطس/آب 2016، وقبل ذلك تم الكشف عن تواجد قوات فرنسية وبريطانية في ليبيا تعمل على دعم الفريق «خليفة حفتر » قائد ما يعرف بالجيش الوطني الليبي والذي تدعمه حكومة طبرق برئاسة «عبد الله الثني»، كذلك تدعم مصر والإمارات «حفتر» بزعم محاربته للإرهاب إلا أنه يستهدف بجانب ذلك جماعات إسلامية وخاصة في المنطقة الشرقية.
تتصارع أجندات القوى الكبرى في ليبيا، فكل دولة لها أهداف محددة رغم الاتفاق على مخاطر الإرهاب، فالولايات المتحدة تسعى لحماية مصالحها في ليبيا خاصة تلك المتعلقة بمنابع النفط وموانئ تصديره عن طريق دعم حكومة الوفاق الوطني – التي تكونت إثر الحوار الوطني الليبي الذي عقد في مدينة الصخيرات المغربية – لفرض سيطرتها على الأرض والقضاء على الجيوب المتمددة لتنظيم «داعش»، حيث أوضحت قيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم) أنها نفذت 62 ضربة جوية ضد مواقع «داعش» في «سرت» منذ انطلاق العملية وحتى 17 أغسطس/آب2016. يأتي هذا تصحيحًا من الولايات المتحدة لضعف دورها في ليبيا منذ حادثة قنصليتها في بنغازي؛ الأمر الذي ترك الساحة لدول أخرى وخاصة فرنسا.
وبتدخل واشنطن هذه المرة بدعم حكومة الوفاق يؤكد أنها ستتخلى عن دعم «حفتر» والذي فشل في هزيمة ما أسماه بالجماعات الإرهابية منذ إطلاقه عملية «الكرامة» في مدن بالمنطقة الشرقية من ضمنها «بنغازي» و«درنة» والتي بجانب استهدافها لجماعة «أنصار الشريعة» الموالية لتنظيم «القاعدة» إلا أنها تستهدف أيضا فصائل إسلامية أخرى. إذن ستتجه واشنطن لتثبيت حكومة الوفاق وإن بشكل مرحلي لمحاولة إيجاد فصيل قوي يستطيع توفير حد أدنى من التماسك وإن اقتصر على المناطق النفطية وهو ما تريده حاليًا، بجانب السعي لمنع تنظيم «داعش» من إقامة بديل له في ليبيا بعد توالي هزائمه أخيرًا في سوريا والعراق.
المشاركة الأمريكية في محاربة «داعش» ستزيد من التعقيدات الداخلية، فمثلاً أيّد برلمان طبرق العمليات الفرنسية ضد التنظيم والتي كانت في الأساس لدعم نفوذ «حفتر»، في مقابل رفض رئيس حكومة الوفاق الوطني التدخل الفرنسي عندما أعلنت باريس مقتل جنودها الثلاثة علنًا، وذلك بخلاف عملياتها السرية قبل ذلك وخاصة في «بنغازي».
رغم إعلان اقتصار الضربات الأمريكية على «سرت» إلا أنها لن تكون محدودة وستحاول استهداف مناطق أخرى، ويؤكد ذلك ما أعلنته مصادر من المجلس البلدي لمدينة «بني وليد» أن طائرات يرجح أنها أمريكية نفذت عدة غارات، جنوب شرقي المدينة، يوم 21 أغسطس/آب الجاري، وهذا سيؤدي لإضعاف موقف حكومة الوفاق التي قد تضطر للقبول بتوسيع واشنطن ضرباتها العسكرية مما سيزيد من حدة الإنقسامات الداخلية.
تعتبر إيطاليا من الدول المتورطة بشكل فعلي في الصراع في ليبيا، وهذا ما كشفته وثيقة صادرة عن الحكومة الإيطالية نصت على أن قوات خاصة تشارك في العمليات العسكرية في ليبيا، رغم تأكيد وزير الخارجية باولو جنتيلوني بأن بلاده لا تنفذ أية عمليات قتالية في ليبيا، وأن دورها مقتصر على السماح للولايات المتحدة باستخدام قواعدها في تنفيذ ضربات جوية ضد «داعش»، وأن سياسة بلاده تركز على دعم حكومة الوفاق الوطني، ومساعدة الفصائل الليبية في التوصل إلى توافق، والحفاظ على موقف دولي موحد بشأن التوصل إلى تسوية سلمية للأزمة، واعتبر أن الأولوية بالنسبة لإيطاليا هي تحقيق الاستقرار في ليبيا لوقف عمليات المهاجرين والقضاء على الإرهاب.
ولهذا مع تنامي العمليات الإرهابية أخيرًا في أوروبا وزيادة وفود المهاجريين غير الشرعيين تتخوف إيطاليا من تداعيات ذلك عليها لذا ستعمل على إيجاد حد أدنى من التوافق في ليبيا أو حكومة تقدر على التصدي لهذين الخطرين بجانب دعم مصالحها الاقتصادية وخاصة استثماراتها النفطية.
الرهان على حفتر
تتخوف العديد من الدول العربية وخاصة المجاورة لليبيا من تداعيات ضعف الدولة عليها، فمصر تتخوف من وجود قوي لـ«داعش» على حدودها الغربية بجانب وجوده في سيناء وهو ما سيمثل ضغطًا كبيرًا عليها، إضافة لتخوف النظام المصري من قيام حكومة مناوئة له مثل حكومة «الإنقاذ» التي يشارك فيها «الإخوان المسلمون». لذا تعمل القاهرة بالتعاون مع أبو ظبي على منع أو إضعاف دور الجماعات الإسلامية وخاصة «الإخوان» من المشاركة في حكومة تعمل على إعادة ترتيب الأوضاع، ولهذا ما زال النظام المصري يدعم «حفتر» لكنه مع انشغاله بأوضاعه الداخلية الصعبة وتراجع دور مصر الإقليمي لحساب قوى أخرى بجانب وجود توجه دولي لإنهاء دور «حفتر» أو إقصائه مؤقتًا فإن مصر لن تسطيع تقديم المزيد له.
ومن أجل محاولة تثبيت أو استغلال «حفتر» كورقة ضغط أخيرة عقدت اجتماعات سرية في القاهرة بين عدد من المسؤولين المصريين والليبيين والإماراتيين يومي 26 و27 يوليو/تموز 2016؛ بهدف بحث قدرة المجلس الرئاسي وقوات «حفتر »على مواجهة ثوار «بنغازي»، واقترح الجانبان المصري والإماراتي أن تكون هناك مهلة زمنية لـ«حفتر» تقدر بشهر لإنهاء الحرب في «بنغازي» بالقضاء على مجلس «شورى ثوار بنغازي» و«سرايا الدفاع عن بنغازي» المناوئين له ولعملية «الكرامة» التي يقودها.
يأتي هذا التحرك لإدراك البلدين أن «حفتر» أصبح عبئًا، بجانب استمرار هزائمه وعدم قدرته على حسم الصراع، بل إنه يتجه للتصعيد مع حكومة الوفاق، فمثلاًهددت القيادة العامة للجيش الليبي التابع لـ«حفتر» يوم 21 أغسطس\ آب الجاري بإسقاط أي طائرة تقترب من قاعدة «الوطية» الجوية والتي تقع أقصى غرب ليبيا على الحدود مع تونس، وحذرت من أنها سترد على أي عمل عدائي أو استفزازي في المنطقة من قِبَل من أسمتها الجماعات الخارجة عن شرعية الدولة وذلك بعد قيام طائرات تابعة للوفاق بطلعات استطلاعية فوق المنطقة.
مستقبل الصراع في ليبيا
تؤشر الأوضاع الحالية أن الأوضاع في ليبيا ستتخذ قدرًا كبيرًا من عدم الاستقرار. فحتى الآن لم تحظَ حكومة الوفاق بموافقة برلمان طبرق؛ إذ رفض مجلس النواب يوم 22 أغسطس\آب الجاري منح الثقة لحكومة الوفاق، وسبق أن رفض في 25 يناير/كانون الثاني 2016 تشكيلة حكومية تقدم بها «السراج»، وتكرر ذات الأمر في فبراير\شباط، وهذا مؤشر أنه ما زال هناك عدم توافق داخلي على حكومة موحدة.
رغم انتصارات حكومة الوفاق الأخيرة على «داعش» في «سرت» إلا أن حالة الانقسام ستعطي التنظيم فرصة للبقاء فترة ليست بالقصيرة، حيث من المؤكد أن يتجه للسيطرة على مناطق أخرى وخاصة في الجنوب، فالخلافات ستؤخر حسم مصير «داعش» وهذا ما سيعطي مبررًا لاستمرار التدخلات الدولية والتي بينها تنازع في الأجندات وهذا ما سيؤثر على مستقبل وحدة ليبيا.
وبالنظر إلى الدور العربي فإنه تراجع لحساب القوى الكبرى، حيث فشلت حتى الآن في إنهاء الانقسامات الليبية بل ساهمت فيها بدعم طرف على حساب آخر وخاصة مصر والإمارات وكذلك قطر والسودان؛ الأمر الذي ينذر بتحول ليبيا لمصدر تهديد آخر للدول العربية من خلال عودة تواجد القوات الأجنبية وتعاظم نفوذ الجماعات الإرهابية، والسؤال حول مستقبل وحدة الدولة الليبية.