في بيتنا مكتبة
على عكس العنوان، لم يكن في بيتنا مكتبة، ولكن كان لديّ أخت بمثابة مكتبة متحركة، هي ليست قارئة بالمعنى الحرفي، ولكنها بارعة في خلق القصص والحواديت وإسقاطها على الموقف الحاضر. مهما نسيت من ذكريات الطفولة لم يغب عني أبدًا القصص بصوتها والمغزى منها؛ حكايات عن عقوبة الكذب والسرقة والتنمر والكره. زرعت داخلي بذور الحب والصدق والأمانة دون أن تذكرها مباشرةً. لقد تعلّمت من الحواديت والحكايات أفضل مما سمعته في عمري كله من محاضرات عن الصدق والأمانة والحب.
هل ينقص بيوتنا مكتبة؟
عندما تسأل هكذا سؤال يأتي الرد حاضرًا وجاهزًا: ومن يهتم ويقرأ؟!
الأولاد على «الآيباد» والكبار على «التليفون» ولا أحد يمسك كتابًا ويقرأ.
الأولاد يا سيدتي لم يتعرّضوا للكتب بعد ولم يدخلوا عالم القراءة، أتيحي لهم مكتبة وبعدها نحكم.
ففي مقابلة مع الفنانة هند صبري ذكرت جملة قالها أبوها عن المكتبة:
كنت في المرحلة الإعدادية وأهداني أخي الأكبر كتابًا عن المراهقة، لا أعلم من أين أتى به، ولكنني قرأته في وقت ما قبل دخول الإنترنت إلى بيتنا، قرأته عدة مرات وكان سببًا من أسباب مرور فترة مراهقتي بسلام دون أي تجارب أندم عليها لاحقًا.
شعرت في أغلب الليالي بأن الكاتب صديق لي يُحدّثني عمّا يدور في بالي من مشاعر لم أمر بها ولم تختبرها نفسي من قبل كالحب والجنس، وتقلبات مزاجية وتغييرات شكلية وجسدية، كل ذلك كان الكاتب يصفه ويتحدث عنه باستفاضة، في وقت لم أجد أحدًا في أسرتي يحدثني بها.
في مقال منشور للدكتورة «فيرن شومر تشمابان» على موقع الطب النفسي الشهير «سيكولوجي توداي» عن أهمية القراءة بالنسبة للأطفال، حيث ذكرت أنه يمكن للقراءة أن توّعي الطفل بمشاعره من خلال اختبار مشاعر أبطال القصص التي يقرأها ولم تأته الفرصة لاختبارها في الواقع. وتسمح له برؤية العالم من خلال عيون شخص آخر، وتعلم كيفية التعامل مع المواقف الصعبة.
يومًا كنت أشاهد وثائقيًا عن الكاتب الكبير «توفيق الحكيم»، حيث قال إن والدته أُصيبت بمرض جعلها ملازمًة للفراش لمدة طويلة، ولم يُخفّف عنها الألم سوى القراءة، تقرأ له من قصص ألف ليلة وليلة. وقال إن هذه اللحظات والحكايات هي ما وضعت به بذرة الحكي والخيال.
وما كان عجيبًا، ولله المثل الأعلى، أن أغلب القرآن الكريم مُنزّل في هيئة قصص، لعلم الله بقدرتها وتأثيرها على الإنسان.
في هذا العام أتممت ما يقرب من عشرة أعوام منذ أول يوم أمسكت فيه بكتاب، أنظر لشخصيتي حاليًا، وأذكر ما كنت عليه. لقد تعلّمت من الكتب والقصص أضعاف ما علّمني إياه أهلي ودراستي حتى الجامعة. بدايًة من التفكير المنطقي والنقدي في الأشياء مهما قال عنها الناس. النظرة العميقة في كل ما يدور حولي وقراءة ما وراء السطور.
صرنا اليوم في عالم التصنيفات، أنت مع أو ضد، ولم تعد النظرة الموضوعية سائدة بين الناس، ولكن القراءة تجعل الشخص أهدأ وأكثر قبولًا للاختلاف مع الآخر عمّا ذي قبل. الحكمة من تجارب لم أعايشها قط ولكني قرأتها على يد كُتّاب عظام، فاكتسبت تجارب عديدة.
عزيزي الأب وعزيزتي الأم، إن أفضل هدية يمكنكما تقديمها لطفلكما هي قضاء بعض الوقت معًا لقراءة كتاب أو قصة، وستلاحظان تحسنًا سريعًا في لغته وفكره، وعلاقته ستصبح أقوى معكم وأكثر ترابطًا.
القراءة للطفل بمفرده تُثريه، ولكن بوجود أحد الوالدين تُتيح نقاشات وأسئلة يمكن أن تفتح آفاق خياله على تجارب لم يعايشها بعد، ومشاعر لم يختبرها، وتجعل بينه وبين والديه حالة من الدفء والإدراك لمشاعره المعقدة.
بعد التعوّد على القراءة، عليك إشراك طفلك معك في اختيار كتاب يناسبه، لتتعرّف على اهتماماته وميوله وتكوين ذوق خاص به يناسبه، واكتسابه لأحد أهم أركان شخصيته فيما بعد.
كنت أتمنى أن يكون في بيتنا مكتبة، ولكنه قدر الله، ولكن بالتأكيد سيكون في بيتي أكثر من مكتبة.