النُّطف المحررة: فصل من فصول النضال الفلسطيني
عام 2018 وضعت سامية مشاهرة، زوجة الأسير فهمي مشاهرة، مولودها الثاني، وقبل 5 سنوات من ولادة عيد كانت قد ولدت عزيزة الطفلة الأولى لها ولزوجها، والابنة الأولى للعائلة التي تُولد عبر النُّطف المهربة. عيد وعزيزة هما سفيران جديدان للحرية أضيفا للنضال الفلسطيني عام 2018، ويُطلق الفلسطينيون لقب سفير الحرية على كل طفل وُلد عبر النطف المهربة.
كانت بدايات النطف المهربة بدايات خجولة، حلم يتناوله بعض الأسرى في جلساتهم الودية باقتضاب وبكلمات خجولة. لكن كان المناضل عمَّار الزبن هو من نقل الدعوة لتهريب النطف من المرحلة السرية إلى مرحلة الجهر. عمار اعتقلته القوات الإسرائيلية منذ عام 1998، ويقضي في السجن عقوبة تبلغ 27 مؤبدًا. بعد أن قبع في السجن 14 عامًا نجح في تهريب وترتيب نقل نطفته لتحمل زوجته بابنهما الأول مهند عام 2012. وبعد عامين أعاد الكرَّة ورُزق بمولوده الثاني صلاح الدين عام 2014.
لا يمكن القول إن الأمر بدأ بعمار الزبن تحديدًا؛ لأن إرهاصات حلم الإنجاب من خلف القضبان عبر النطف المهربة شهد عددًا من المحاولات في فترة التسعينيات، لكن لم يُكتب لأيٍّ منها النجاح. لكن بعد عام 2012 وحتى عام 2018 أشارت التقارير المختصة بشئون الأسرى أن 65 سفيرًا للحرية أُنجِبوا عبر تلك الطريقة، ومن خلال نجاح 51 أسيرًا في تمرير نطفهم. وبحلول عام 2020 كان العدد قد وصل إلى 80 أسيرًا، أنجبوا 84 طفلًا.
تعكس تلك الأرقام نجاحًا من جميع الجهات، أولها الجهة العلمية. فنقل النطف يحتاج وعاءً خاصًّا ودرجة حرارة مناسبة، وتُجمَّد في درجة حرارة منخفضة كي تظل الحيوانات المنوية حيةً لفترة أطول ريثما تتم عملية التلقيح المخبري. كما أنها تعكس نجاحًا في قدرة أجهزة الضفة الغربية، حيث تجري معظم عمليات التلقيح وزرع الأجنة، على إتمام عمليات دقيقة بهذه الصورة. ورُقيًّا مجتمعيًّا استطاع أن يكوِّن حاضنة اجتماعية تتقبل، بل تفتخر، بالزوجة التي تقبل بالعملية، وتهدي فلسطين سفيرًا جديدًا للحرية.
الإنجاب رغم السجن مدى الحياة
كذلك تُعتبر عملية تهريب النطف صفعة للاحتلال وانتصارًا نفسيًّا للأسرى الذين يوجهون رسالتهم للاحتلال بأن الحياة سوف تستمر. وأن الأمل فلسطيني المولود، والصبر لا ينضب في أرض فلسطين. فالأسير بقدر ما يفرح بانتصاره على السجان، بقدر ما يعاقبه السجان على تلك الفعلة.
وليد الدقة، أسير فلسطيني من مدينة باقة الغربية، في العزل الانفرادي. جميع كتبه وأوراقه صُودرت، حُرم من الزيارة ومن شراء احتياجاته من مقصف السجن، ممنوع إدخال الطعام والدواء له. كل ذلك لأن الرجل البالغ 59 عامًا أنجب طفلته الأولى. لم يعتدِ على سجانه، لم يحاول الهرب من السجن، لم يُضرب عن الطعام، كل جريمته أنه أحب الحياة، وأراد روحًا تحمل شعلة المقاومة من بعده، فأنجب ميلاد في فبراير/ شباط عام 2020 عبر تهريب سائله المنوي.
الدقة محكوم عليه بالسجن المؤبد لـ 37 مرة منذ عام 1986. ممنوع، كباقي الأسرى، من حق الخلوة الشرعية مع زوجته. فلم يكن أمامه بد من أن يبذر بين أشجار الزيتون زيتونةً جديدةً تحفظ أرض فلسطين، وتكون أول زيتونة تُولد في الداخل الفلسطيني المُحتل منذ عام 1948 بطريقة النُّطف المهربة.
لا يحصل سفير الحرية، طفل النطف المهربة، على أي اعتراف رسمي بالحياة. ولا يحق لآبائهم أن يطالبوا برؤيتهم، فمنعهم من زيارة آبائهم مدى الحياة أبسط ما يعاقب به الاحتلال الأسير وطفله. بل تُمنع الأسرة بكاملها كما حدث مع إيمان زوجة فهمي أبو صلاح. أبو صلاح اعتُقِل عام 2008، بعد زواجه بأشهر بسيطة، وحُكم عليه بالسجن لمدة 22 عامًا. ولما يئس من لقاء زوجته لجئوا للنطف المهربة، فأنجبا طفلهما الأول أسعد عام 2014. ولا يعرف أسعد شكل أبيه إلا من بعض الصور القديمة على هاتف والدته، كما تروي إيمان.
انتفاضة الديموغرافيا
النطف المهربة ثورة على الغطرسة الإسرائيلية. كلما كرَّس الاحتلال قواته وأدواته لمعرفة كيف تتم عمليات التهريب، يبتكر الأسرى أساليب جديدة. لكنها جميعًا تحرص أن تبقى في نطاق الشريعة الإسلامية، فلا يتم تهريب أكثر من نطفة في المرة الواحدة لقتل أي احتمالية في تبديل النطف.
وتصل النطفة إلى زوجة الأسير في وجود أفراد من عائلته، وبعض علماء الدين، والمحامين والقضاة أحيانًا. ويُنشَر خبر وصول النطفة بين جميع السكان كي يعرف الجميع من أين أتى الحمل، حفاظًا على سمعة الزوجة. كما يحلف 4 شهود أن تلك النطفة تعود للأسير المُحدد. وأن يكون الأسير على قيد الحياة وقت التلقيح، فإذا مات تُتلف النُّطفة. وقد تُجمد النطفة المتبقية من التلقيح لاستخدامها لاحقًا، لكن إذا وقع طلاق أو مات الأسير أو رفضت الزوجة تُتلَف.
وكما أن الثورات تجابه بجميع السبل، فعملية تهريب النُّطف تُكافح بجميع الطرق. ويُعاقب جميع أطرافها مدى الحياة، فتزداد عقوبة الأسر وتُصبح ظروفه أشد قسوة. أما سفير الحرية فلا تعترف إسرائيل بشهادة الثانوية العامة الخاصة به، ولا تسمح له بالتعليم الجامعي، وتحرمه من العلاج المجاني. كما لا تسمح لهم بالعمل في أي مكان، رسمي أو أهلي، بحجة عدم امتلاكهم لأوراق ثبوتية.
لكن لا يثني ذلك المزيد من الأسرى، ونفس الأسير أحيانًا، عن تهريب نطفهم للاستمرار في ثورتهم على رغبة العدو في تغيير ديموغرافية البلد. عبر تقليل تكاثر أصحابها، ثم نقل الموجود بالفعل إلى مدن أخرى أو إبعادهم عن محيط القدس. لكن الولادة من خلف القضبان تخمش أفق تلك الخطة طويلة الأمد. فهاني وهمام، توأما الأسير ناهض حميد، اللذان صرخا في قطاع غزة في أواخر عام 2021 أضافا حجر عثرة جديد في مسار خطة الإحلال الديموغرافي.
رسمية حميد، 31 عامًا، عُقد قرانها على ناهض عام 2018. ناهض هو معتقل لدى الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 2007. وحُكم عليه بالسجن 20 عامًا، قضى منها حاليًّا 15 عامًا. فقررت رسمية أن تحتضن سفيرًا للحرية ليكون بانتظار أبيه عند خروجه. استطاعا تهريب نطفة مرة، لكن لم ينجح الحمل، فكررا التجربة ونجحت بتوأم رفعا رقم سفراء الحرية إلى 101 سفير.
سينتظر سفراء الحرية آباءهم كما انتظر الحسن أباه تامر الزعانين. تامر اعتُقل عام 2006 وحُكم عليه بالسجن 12 عامًا، ونجح في تهريب النطفة عام 2014 ونجحت المحاولة ورُزق الحسن. وحين أُفرج عنه عام 2018 تلاقاه الحسن.
مقاومة إلى الأبد
عملية الإخصاب تتكلف في قطاع غزة في المتوسط ألفي دولار أمريكي، مبلغ ضخم بالنسبة لسكان القطاع. ولا يعرف الاحتلال الإسرائيلي كيف تقدر الأسرة على تحمل نفقة القيام به، لهذا يفرض على الأسرى الذي يهربون نطفهم غرامات مالية باهظة. وتضاف إلى تكاليفه تكاليف إجراء اختبار الحمض النووي للتأكد من عودة الحيوانات المنوية للزوج المحدد. لكن الثابت أنه لا أحد على الإطلاق، في مراكز التخصيب أو حتى من غالبية أهل الأسير وزوجته، لا أحد يسأل كيف تجاوزت تلك النطفة قيود السجن وأسواره.
بعض الأطباء الذين قاموا بعمليات التلقيح تلك قالوا إنهم تلقوا العينات في زجاجات أدوية أو في أكياس رقائق البطاطس، وأحيانًا في مغلفات البسكويت والأطعمة الجاهزة. لكن التفتيش الإسرائيلي الدقيق للداخل والخارج يحول دون خروج تلك العبوات. كما تجري الزيارة في السجون الإسرائيلية للمعتقلين عبر الهاتف من خلف زجاج مقوى لمدة 45 دقيقة. وقد يُسمح بـ 10 دقائق في نهاية الزيارة للمصافحة والأحضان بين الأسير وزائريه. لكنها تتم تحت أعين ومراقبة لصيقة من قوات السجن.
لكن رغم ذلك لا تزال عمليات تهريب النطف تنجح وتصفع قمع الاحتلال وأدوات تعذيبه. قد يستهدف الاحتلال الفلسطينيين بشكل مباشر يسهل توصيفه، ومن ثم تمكن مقاومته، لكن الاحتلال طوَّر أساليبه، فكان لزامًا على الأسرى أن يطوِّروا أسلوبهم.
فالغالب أنه لا تقييد بالسلاسل، ولا منع من ضوء الشمس، أو اعتداءات جسدية مباشرة على السجناء. لكن الواقع أن السجان يستهدف روح ضحيته لا جسدها، يريد صهر وعيه، كما قال وليد دقة، وأن يحوله لورقة بيضاء قادرة على امتصاص مفهوم جديد عن السجان الرحيم الذي يعتقلك لكنه يحترم آدميتك، لكن حين تقاومه فعليك أن تدفع ثمن المقاومة باهظًا من عمرك وروحك.
فأضحى تهريب النطف انتفاضةً جديدة تمتاز بها المقاومة الفلسطينية دون باقي حركات التحرر الوطني في التاريخ، تطيل عمر الفلسطيني الإنسان، وتُجدد روح الفلسطيني المُقاوم، وتخلق أجيالًا لا نهائية على الاحتلال أن يواجهها إلى ما لا نهاية.