رسائل من كولومبيا: الطريق إلى ماكوندو
للمرة الثانية أقطع خضرة جبال كولومبيا شمالًا مسافة تقارب نصف طول هذا البلد الشاسع. كم يختلف هذا الطريق عن ذلك الذي قطعته قبل ستة أشهر! كم يمكن لحياة الإنسان أن تتغير في ستة أشهر؟ أذكر تلك الرحلة التي استمرت أكثر من عشرين ساعة في حافلة شركة برازيليا، تحملني من العاصمة بوجوتا حيث وصلت وحدي أحمل حقيبة ملؤها الكثير من الكتب والقليل من الملابس. جئت من إحدى أكثر عواصم العالم ازدحامًا قاصدًا مدينة صغيرة بشمال كولومبيا، لأعمل مدرسًا للإنجليزية في إحدى جامعاتها. لم أكن أعلم الشيء الكثير عن تلك المدينة. كل ما وصلت إليه حين بحثت عنها أنها ليست بعيدة من مسقط رأس ماركيز، الذي قرأت روايته «مئة عام من العزلة» وأنا طالب في الصف الأول الثانوي.
تركت عملي مدرسًا للغة الإسبانية في المدرسة الأمريكية بالقاهرة لأتفرغ للترجمة الأدبية. ثم أردت السفر بعدها للغوص أكثر في اللسان الإسباني وثقافته وأدبه. لذلك لم أتردد كثيرًا حين تواصلت معي فتاة من منظمة «آيزك» وأخبرتني عن فرص متاحة لي للعمل مدرسًا للإنجليزية والإسبانية في الهند. أخبرتها أنني لست متحمسًا للسفر للهند، لكنني أعلم أن ضمن البلاد التي يمكن السفر إليها عبرهم بلاد في أمريكا الجنوبية، وأن هذه أولويتي لتخصصي في دراسات اللغة الإسبانية وآدابها.
ظللت طوال أربعة أشهر أقاوم إلحاحهم وحديثهم أن جامعات عديدة في الهند مهتمة بالتعاقد معي لقدرتي على تدريس لغتين أجنبيّتين، وأصر على أنني أريد السفر لبلد ناطق بالإسبانية. بعد شهور من المحاولات والمقابلات تحددت وجهتي أخيرًا إلى تلك المدينة الصغيرة في إقليم سوكري في منطقة الساحل الكاريبي.
الآن، بعد انتهاء أول مدة من إقامتي في منطقة الكاريبي، وأنا في طريق عودتي من جديد إليها بعد قضاء إجازة آخر العام مسافرًا بعيدًا عن البحر، تذكرت أن «خوسيه أركاديو بوينديا» بطل رواية «مئة عام من العزلة» حين خرج من قريته أخذ يبحث في الأرض، وكانت أرضه هي أرض الكاريبي، وكان هو أحد أبناء هذا المكان، يبحث عن الحياة في مكان آخر. مكان يسعه بعد أن ضاقت به قريته التي كان يطارده في كل ركن من أركانها شبح ماضيه، الذي اضطره في النهاية إلى مغادرة أرضه راغمًا. خرج باحثًا عن طريق لم يملك له خريطة، إلى مكان لم يكن يعرفه. خرج في الطريق إلى ماكوندو، وقبل أن يصل إليها، لم يكن يعرف لها اسمًا ولا طريقًا. أدركت عندها أنني أنا أيضا هنا في طريقي الذي لا أملك خريطة تدلني عليه، باحثًا عن بلد لا أعرف له اسمًا، لا أعرف غير أنه بلد بعيد.
حين بدأ الباص رحلة العشرين ساعة من بوجوتا حاولت الاستمتاع بمناظر الجبال الخضراء في مصاعدها ومهابطها. أراقب البيوت الصغيرة في قلب الجبل. أتذكر الطرق الجبلية الحلزونية في جبال الهدا الحجرية في السعودية. مرّت ساعات الطريق العشرون بين محاولات القراءة أو الاستماع إلى الموسيقى والنوم ليلًا.
في صباح اليوم التالي كلما أشملنا، كانت خضرة الجبال الداكنة تستحيل أقل خضرة وتتسرّب إليها صفرة الجبال الحارة، وبدأت شمس الشمال تشتد حدتها… نعم، في نصف الكرة الجنوبي كلما سار المرء نحو الشمال اشتد الحر وزادت حدة الشمس للاقتراب من خط الاستواء. بالإضافة إلى ذلك، فإن برد العاصمة الكولومبية يستحيل حرًّا في الشمال للانتقال من مرتفعات الجبال حيث تقع بوجوتا على جبل على ارتفاع حوالي 2500 مترًا، وتبلغ أعلى قممها 4000 مترًا. وهكذا أغلب مدن وسط كولومبيا، ولذلك جوها معتدل وبارد في بعض تلك المدن. لكن الشمال أراضيه أغلبها سهول عشبية أو سافانا -تلك الكلمة التي ظلت سنوات الإعدادية والثانوية تطل من كتب الجغرافيا في الحديث عن دول أفريقيا- وهي كلمة ذات أصل إسباني، Sabana، وتعني الحشائش، وهي نوع من أنواع السهول الأرضية، التي تمتاز بعشبها الأصفر المائل للبني، أشجارها قليلة، وتنتشر فيها مختلف الحيوانات، ويسود فيها المناخ المداري، وتقع على شمال أو جنوب خط الاستواء.
السفر بالنسبة لي هو الحياة في التاريخ والجغرافيا، هو الانتقال عبر الزمان والمكان. لم أحب الجغرافيا قط وأنا طالب في مراحل الدراسة المختلفة، ولم أقرأ التاريخ باهتمامٍ وشغف حتى سافرت. ما زلت أذكر أولى سنواتِ الدراسة في الجامعة وأول محاضرة… كانت في مقدمة في ثقافة إسبانيا وأمريكا اللاتينية… درسنا فيها جغرافيا إسبانيا وتقسيمات أقاليمها ومقاطعاتها، كما ما زلت أذكر أنني في امتحان تلك المادة لم أستطع تحديد مواقع بلدان أمريكا الجنوبية إلا لشدة وضوحها، لكنني لم أحفظ مقاطعات ومدن إسبانيا ولا مواقع دول أمريكا الجنوبية. كنت أقول لنفسي ولأصدقائي إنني حين أسافر إلى تلك البلاد سأعرف جغرافيتها. وبالفعل، حين سافرت للدراسة في إسبانيا قبل ثلاث سنوات في منحة للدراسة، عدت بعد ستة أشهر ومدن إسبانيا وقراها التي زرتها، والتي لم أزرها، في ذهني كشوارع القاهرة وأحيائها.
علمت خلال أسبوعي الأول في إقامتي في سلامنكا في إسبانيا، حيث درستُ فيها اللغة والأدب الإسبانيين، أنني لن أستطيع استخدام الإنترنت من هاتفي لأنه ليس مصنوعًا في الاتحاد الأوروبي، فكان الخيار الوحيد هو استخدام الخرائط الورقية للمدينة للوصول إلى الأماكن المختلفة. وخلال ستة أشهر زرتُ فيها عشر مدن وقريتين في وسط وغرب وجنوب إسبانيا، فكان أول ما أبحث عنه فور وصولي المدينة هو خريطتها. كذلك هنا، تكرر مصير حياتي بلا هاتف، حين انكسرت شاشة هاتفي في أول أسابيعي هنا، ثم سُرِق مني تحت بيتي هاتفي الآخر، فكان لا بد أن أعيش بخرائط أرسمها بيدي بين شوارع المدينة، والتي تحمل أرقامًا عوضًا عن الأسماء كشوارع كل مدن كولومبيا، لكنها بخلاف شوارع المعادي، أرقام ذات معنى حيث تقع الشوارع الرئيسية بأرقام متتالية وترتيب منظم.
أذكر الآن أن إقامتي في إسبانيا كانت رحلة بحث، أتتبع فيها خطى صاحب طواحين الهواء الشريف العبقري «دون كيخوته». تتبعِّت سيرته وسرت على خطاه، سمعت حكاياته، والتقطت الصور مع تماثيله. لبست قميصه وروحه. بعد ذلك سيخبرني أصدقائي في كولومبيا أن «ميغيل دي ثيربانتس» مؤلف رواية «دون كيخوته» أراد أن يأتي مع الغزاة الإسبان إلى أمريكا الجنوبية، وكان ذلك قبل أن يكتب روايته الخالدة. وسأل أحد الأصدقاء ساخرًا: ماذا لو جاء ثيربانتس إلى هنا وكتب مغامرات دون كيخوته في كولومبيا؟
حين اقتربنا من نهاية الرحلة ودخلنا إقليم سوكري الذي كان مقصدي عاصمته سينسيليخو، لاحت لنا قرى فقيرة وأبنية غير مكتملة البناء. كنت أقول في نفسي إننا سنتجاوز كل ذلك ونصل إلى المدينة، إلى سينسيليخو، التي حين بحثت عنها للمرة الأولى، أثناء إجراءات القبول في الجامعة (التي سافرت لأعمل بها مدرّسًا للإنجليزية)، ظهرت صورٌ لميدانٍ رئيسي تتوسطه كاتدرائية وساحة، وتحيط بهذا الميدان مناطق خضراء من كل جانب، فكانت هذه الصورة الوحيدة التي علقت في ذهني عن المدينة، إضافة إلى مباني الجامعة التي رأيتها في الصور على موقعها، والتي بدت لي جميلة، حيث يحيط بها أيضًا غابة صغيرة من ثلاثة جوانب.
انتابني شعور بالتعاطف مع أولئك الكولومبيين المساكين الذين يسكنون القرى الفقيرة في الطرق وعلى أطراف المدينة التي اقتربت رحلتي إليها من النهاية. أكلمنا الطريق إلى الشمال، ووصلنا إلى محطة الأوتوبيس، ولم يكن الشاب المسئول من آيزك -المنظمة التي سافرت من خلالها- قد وصل بعد. خرجت لانتظاره أمام المحطة، فإذا بي وسط عشرات من سائقي الموتوسيكلات، عرفت فيما بعد أن وسيلة المواصلات الأكثر استخدامًا في هذه المدينة هي الموتو-تاكسي كما يسمّونه. هل تذكّرت حينها أن خالي أخبرني منذ سنين بعيدة أن الموتوسيكل يسمّى هكذا لأن موته سهل؟
انتظرت حتى وصل خوان كارلوس، الفتى النحيل ضئيل الهيئة، واصطحبني في تاكسي إلى شقة صديقه ألبرتو، الذي أخبروني أنه سيستقبلني في بيته خلال الشهر الأول حتى تستقر أموري وأبدأ في العمل وأستطيع البحث عن مسكن في المدينة، وقد بادروا بهذا الاقتراح حين أخبرتهم أن ارتفاع ثمن تذكرة الطيران سيجعلني أصل إلى المدينة لا طاقة لي على حمل نفقات إيجار الشهر الأول.
كانت شقة ألبرتو حديثة في مبنى حديث. لكنني حين أطللتُ من شرفة بيته إلى الشارع تحتي، ونظرت في الاتجاهات الأربع وأدركت حقيقةً صغر المدينة وانخفاض مستوى المعيشة فيها، سكنتني قشعريرة بين ضلعين، وكنت أحاول تقبّل هذه الحقيقة الصادمة. أخذني ألبيرتو في جولة في الشقة الصغيرة، ثم عرض لي غرفتي، فوجدت أنها غرفة فارغة سوى من مرتبة صغيرة في إحدى زواياها، ودولاب يغطي أحد حوائطها.
بعد قليل جاءت إحدى صديقات ألبرتو وخوان كارلوس ثم مررنا بصديقتها -أو هكذا ظننت لشهور- وذهبنا جميعًا لمطعم بسيط، أكلنا فيه سمكًا حيث أخبرتهم أنني لا آكل الخنزير ولا اللحم إن لم يكن مذبوحًا، ثم قضينا اليوم نتجول في وسط المدينة بسيارة ألبرتو، وانتهينا إلى ميدان ماخاجوال الثقافي، مركز المدينة الترفيهي والثقافي، رغم أنه ليس الميدان الرئيسي، وهو حديقة سانتادنير، إشارة إلى «فرانسيسكو دي باولا سانتاندير» محرر كولومبيا من الاستعمار الإسباني مع سيمون بوليفار. استحال ميدان حديقة سانتاندير الذي تقع فيه الكاتدرائية مُجتمعًا لسكان الليل، واشتهر بخطورته في ساعات المساء والليل، لذلك كان مركز الأنشطة الثقافية والاحتفالات والحفلات الموسيقية ومهرجانات السينما حتى حفلات المدينة السنوية في العشرين من يناير كلها تبدأ وتنتهي في ذلك الميدان، الذي سأسكن فيه فيما بعد مع خيسوس وأندريا وإيليانا ثلاثة أشهر، سيحدث فيها ما سيحدث، ثم أغادره إلى حي بوسطن الهادئ حيث أسكن الآن.
أحببت كثيرًا أن قادت الصدفة بداية هذه الرسائل إلى نقطة في المنتصف أعود منها في مقالات قادمة إلى أحاديث وحكايات قبلها، حكايات الناس والأماكن في قرى جبال مريم، التي طفت بينها مع صديقتي أحادث أهلها، آكل طعامهم وأشرب شرابهم، أرى فنونهم اليدوية وأستقبل هداياهم، أضحك معهم وأضاحكهم، يدعونني للرقص في احتفالاتهم فأغالب خجلًا عمره أكثر من عشرين عامًا وأراقصهم.
حكايات عن الاحتفالات والقرى، عن شعراء المدن والقرى، وموسيقى الشمال. جئت إلى هنا وكلما اندهش أحد سكان سينسيليخو حين أخبره أنني جئت من مصر، فيطلق ذلك التعبير الخادش الذي يعبّر عن التعجّب No jodas! ثم يسألني: ما الذي جاء بك من آخر الدنيا إلى هنا، وبين كل مدن كولومبيا إلى سينسيليخو؟ لكنني لم أخبر أحدًا يومًا أنني خرجتُ من بلدي كما خرج خوسيه أركاديو بوينديا من قريته حين لم يكن لديه اختيار آخر، وأنني جئت إلى هنا بلا خريطة ولا أحمل عنوانًا أقصده، جئت، كما مرّ هو من هنا، في الطريق إلى ماكوندو.