رسائل متبادلة بين «تيري هنري» و«كيليان مبابي»
اليوم هو الرابع من يونيو/حزيران.
يخرج «تيري هنري» منهكًا بعد اجتماع طويل لجهاز بلجيكا الفني دام لأكثر من ثلاث ساعات، حيث وضع الجهاز اللمسات الأخيرة، واستقر على جدول عمل قبل الانطلاق نحو روسيا، سيكون على هنري تكثيف لقاءاته التحضيرية مع خط الهجوم البلجيكي للتأكيد على الأدوار التكتيكية لكل لاعب قبل السفر.
يتحرك تيري باتجاه سيارته، بينما تتزاحم عشرات الأفكار في رأسه؛ قبل عشرين عامًا بالضبط كان يعيش اختباره الدولي الأول كلاعب بمونديال 98، والآن هو بصدد خوض الاختبار الأول مجددًا ولكن كمدرب. في السابق كان النجاح محسومًا بفضل موهبته ومهارته، لكنه اليوم يتوقف على فاعلية أفكاره. هناك في فرنسا كان لا يزال ناشئًا، لكنه سيغادر إلى روسيا وهو يحمل خبرات السنين.
تبتلع دوامة الأفكار تيري حتى يصل للمنزل، وهناك يطالع الفرنسي بريده الإلكتروني حيث ينتظر رسالة من الاتحاد البلجيكي، لكنه يتفاجأ برسالة أخرى آتية من فرنسا، إنه «كيليان مبابي»!
يتعجب هنري جدًا، إذ إنها المرة الأولى التي يراسله فيها مبابي، لكنه في النهاية يفتح الرسالة وتعلو الابتسامة وجهه.
الرسالة الأولى
عزيزي تيري.
أتمنى أن تكون بخير، مر وقت طويل منذ التقينا آخر مرة في مقر موناكو!
لعلك تتساءل عن سبب هذه الرسالة المفاجئة، في الحقيقة وددت أن أشكرك من قلبي.
بدأ الأمر أمس عندما انتهينا من التدريبات، فأحضر إلينا السيد «ديدييه ديشامب» مقاطع من بطولتي 98 و2006، وطلب من كل لاعب فينا مشاهدة تحركات لاعب معين. «بافار» مثلًا سيراقب «تورام»، «بوجبا» سيشاهد «باتريك فييرا»، و«جريزمان» سيحصل على مقطع لـ«زيدان»، وأنا مع «تيري هنري»!
قضيت سهرة الأمس وأنا أعيد مشاهدة تسديداتك ومراوغاتك الرائعة، لكن أكثر ما أعجبني هو انطلاقاتك، أنت تركض تمامًا كالفهد الذي يطارد فريسة، ثم تضرب أمام المرمى بكل هدوء وثقة دون أي رعونة.
صباح اليوم عدنا للتدريبات، سأل ديشامب عن ملاحظاتنا حول المقاطع، أجبنا جميعًا ثم تبادلنا بعض الأفكار، كان الأمر جيدًا حتى طلب مني الانتظار في نهاية اليوم!
«كيليان! كنت أهاتف هنري منذ أسبوعين، أتعرف ماذا أخبرني عنك؟» سألني السيد ديدييه!
«تيري معجب جدًا بك، قال لي كلما شاهدت مبابي أشعر أن بإمكانه الذهاب بعيدًا. لديه إمكانيات رهيبة، وعقلية لا يمتلكها أغلب من هم في سنه. هذا الولد سيبني مجدًا باهرًا»
يا لها من كلمات! شعرت بفخر هائل مع كل كلمة نطق بها مدربي!
من شدة سعادتي، طلبت منه أن يعطيني بريدك الإلكتروني لأشكرك مباشرة. شكرًا سيد هنري، شكرًا جزيلًا.
هذه صورة تجمعني بك في 2005، كنت ما أزال في السادسة وأرتدي قميصًا يحمل الرقم 12 واسم: تيري هنري.
مودتي.
كيليان مبابي.
هنري يرد
يتأمل هنري صورته مع الناشيء الصغير. يستعيد كثيرًا من الذكريات مع رفاقه: «زيدان، بيريز، تورام، جالاس». ينسى لبضع دقائق كل تلك الضغوط التي تدور حول رأسه، ويقرر أن يكتب رسالة لمبابي.
عزيزي كيليان.
كم أنا سعيد برسالتك تلك!
ديدييه صادق. إننا نتواصل كل فترة، وفي المرة الأخيرة أبديت له إعجابي الحقيقي بك.
أنا أذكر جيدًا المرة الأولى التي سمعت فيها اسمك، كنت في زيارة لموناكو، وهناك في النادي أخبروني عن لاعب شاب موهوب يستحق المشاهدة.
لم تمر دقيقتان وأنا أشاهد المقطع، وكنت أردد:«ما هذا؟! كل تلك الموهبة والفاعلية لولد لم يبلغ الـ17 بعد؟!»
أحببت أن أستمع منهم لقصتك، فأخبروني أنك ولدت في باريس، وأحد أفراد أسرتك يعمل بكرة القدم، كما أن المدرب «ليوناردو جارديم» يفكر بتصعيدك في أسرع وقت، بالإضافة إلى أنك تشاهد كثيرًا من مباريات كرة القدم بلا ملل. وعندها كانت الدهشة لا تزال ترسم ملامح وجهي، لأن كل ما سمعته لتوي يتطابق مع قصتي ببساطة!
نحن متشابهان فعلًا؛ أنت سريع ومهاري وتتحوّل من مركز الجناح إلى المهاجم، وهكذا كنت أنا، لكن الظروف أيضًا التي صاحبت صعود كل واحد منا متقاربة جدًا، لذا أحب أن أتابعك باستمرار.
لو كان لي أن أمنحك نصيحة واحدة في الوقت الحالي، ستكون هي التركيز والمثابرة. لا تدع أي شيء يشتتك حاليًا، واصل الركض، ولا تتوقف عن التفكير، أضف القوة الذهنية لمردودك الفني والبدني وحينها ستناطح الكبار.
اسمع جيدًا يا كيليان! أنت تمتلك كل شيء..كل شيء لتصبح على قمة هرم اللعبة قريبًا!
المونديال هو فرصة ذهبية لك، لا تضيعها.
كل التوفيق.
صديقك: هنري.
مزحة مارتينيز
في الثلاثين من يونيو/حزيران، كان هنري يستعد لمشاهدة مباراة فرنسا المرتقبة أمام الأرجنتين، كان بمفرده داخل غرفته بمعسكر بلجيكيا فارتدى قميصه رقم 12 بعد أن قام بتعليق العلم الفرنسي، ثم بدأ بترديد النشيد الوطني مع رفاق مبابي.
بعد هدف فرنسا الأخير، تفاجأ باتصال يأتيه من «روبيرتو مارتينيز» المدير الفني لبلجيكا يمازحه قائلًا:«تيري هل أنت في المعسكر أم تواجه الأرجنتين؟ لقد رأيتك حالًا تسجل هدفين وتحمل اسمه مبابي! لقد قضيت عليهم يا رجل».
يضحك هنري، ويقرر أن الوقت قد حان لرسالة جديدة يهنئ فيها كيليان على أدائه المشتعل أمام البيسيليستي.
عزيزي مبابي.
كان ذلك مدهشًا!
كنت أشبه ما يكون بالشبح الذي يحلق بسرعة الضوء على الملعب.
أنت تحمل الرقم عشرة، رقم زيدان، هل تعرف ماذا كان يمثل لنا زيزو؟.. لقد كان عامل الحسم الأول الذي يتألق دومًا في المواجهات الصعبة، ويضيف قوة معنوية بمجرد حضوره، وأنت اليوم قد مثلت لفرنسا نفس تلك القيمة!
أهنئك على أدائك الاستثنائي، وأرجو أن تبلغ رفاقك تحياتي، وبالأخص طبعًا بافار…يا لكم من أبطال!
بالمناسبة انطلاقاتك اليوم ذكرتني بأهدافي بمرمى السعودية وجنوب أفريقيا في 98، مونديالي الأول الذي سجلت فيه ثلاثة أهداف، واليوم تصل حصيلتك بمونديال روسيا إلى ثلاثة أهداف أيضًا، هل ستتمكن من تخطي رقمي؟ دعنا نرى.
بكل الفخر
تيري هنري.
قناع دوناتيلو
بعد صافرة نهاية مباراة الأرجنتين، يعبر كيليان مبابي الممر المؤدي لغرفة تغيير الملابس وسط غناء زملائه ومزاحهم، أحدهم أخرج قناع «دوناتيلو»: أحد شخصيات سلاحف النينجا الذي يشبه مبابي لتعلو ضحكات الكتيبة الفرنسية.
يدخل مبابي الغرفة، يفتح هاتفه المحمول، لتنهال عليه الاتصالات والرسائل من الأسرة والأصدقاء وزملاء النادي الباريسي، يشير الهاتف إلا أنه تلقى بريدًا إليكترونيًا خلال دقائق المباراة، يطالع كيليان الرسالة، بالطبع إنه السيد تيري يرسل تحياته!
يقرأ مبابي الرسالة سريعًا، ثم يعيد قراءتها مرتين ببطء، قبل أن يقفز فرحًا في الهواء بكلمات الغزال الفرنسي.
يقطع وصل احتفالات رفاقه لبضع ثوان، ليخبرهم بتهنئة السيد هنري، ثم يقود الهتاف «واحد،اثنين،ثلاثة. هيا يا فرنسا».
الدبابة السريعة
كان مبابي يعلم أن مباراة بلجيكا مع اليابان بعد يومين فقط. فلم يحب أن يزعج هنري برسالة جديدة، وفضل أن يؤجّل الرد على رسالته لبعد المباراة. واستعد صاحب الـ19 عامًا لمشاهدة اللقاء رفقة زميله بول بوجبا.
مبابي من ذلك النوع الذي يحب مشاهدة المباريات، وتسجيل بعض الملاحظات، إذ يقول والده إنه كان يشاهد أحيانًا أربع أو خمسة مباريات يوميًا بين مختلف الدوريات!
لذا لم يفوّت كيليان الحدث، خصوصًا بعد أن تقدمت اليابان بهدفين.
لكن سرعان ما نجح رفاق «هازارد» في تعديل النتيجة، وفي الدقيقة الأخيرة من الوقت بدل الضائع كان «دي بروين» يقود هجمة مرتدة خاطفة، مرر إلى «توماس مونييه»، قبل أن يحولها لـ«ناصر الشاذلي»، وفجأة قلبت بلجيكا الطاولة وخطفت الفوز!
وهنا ابتسم بوجبا وسأل: «كيليان…هل شاهدت ماذا فعل لوكاكو؟»
استغرب الصغير من سؤال بول فأجاب: «لوكاكو؟ لم يلمس الكرة أصلًا!»
بوجبا: «إذن شاهد إعادة الهدف، وركّز على تحركات روميلو».
بعد أن يشاهد الإعادة، يردد مبابي مندهشًا: «لقد شتت مدافعي اليابان، وخلق المساحة لزملائه»
بوجبا يقاطعه:«نعم فعلها مرتين…عمل فني كبير من مارتينيز وهنري!»
مبابي:«هنري! رسالة جديدة إذن!»
عزيزي هنري.
لا يمكن أن أصف لك سعادتي، أو رد فعل رفاقي، برسالتك بعد مباراة الأرجنتين.
دعني أنا أيضًا أهنئك على الفوز أمام اليابان، بلجيكا أظهرت شخصية قوية، ومن الممكن أن تذهب بعيدًا.
أعجبني جدًا ماذا فعل لوكاكو خلال الهدف الثالث، شاهدت إعادة الهدف مرات، وفي كل مرة ألاحظ وعيًّا تكتيكيًا كبيرًا نتج عنه خلق مساحة لزملائه!
بحثت قليلًا على الإنترنت، ووجدت أن روميلو نشر تدوينة خلال المونديال يحكي فيها عن مسيرته الرائعة، لقد أشار إلى كم المجهودات التي بذلتها أنت، سيد تيري، معه. يكفي أنه يؤكد أن فاعليته وأداءه تضاعف بعد نصائحك وتعليماتك.
معلق المباراة امتدح روميلو قائلًا: «لوكاكو تحوّل مع مارتينيز وهنري إلى دبابة تركض بسرعة فائقة!»
مرة أخرى أهنئك على الفوز.
المخلص
مبابي.
دعنا نلتقي
نسي هنري أن يطالع بريده الإلكتروني وسط احتفالات تجاوز اليابان، واستعدادات مواجهة البرازيل، بالطبع كان سعيدًا بأن عمله خلال الشهور الماضية قد أثمر، لكنه كان يعلم أن عليه التركيز بشكل أكبر قبيل مواجهة السليساو.
ظهر لوكاكو بأداء أفضل، ونجح في لفت الأنظار إلى التحوّل الكبير في الأدوار الموكلة إليه لخدمة الفريق.
فازت بلجيكا، ومرت إلى نصف النهائي لتكون على موعد مع مقارعة فرنسا، وهنا تذكر هنري أن مبابي لابد وأن أرسل رسالة جديدة، وعليه أن يقرأها سريعًا ويرد بأخرى.
عزيزي مبابي.
أشكرك جدًا على رسالتك، أنا أيضًا أشعر بالفخر بما يحققه صديقي ديشان معكم.
سنلتقي في نصف النهائي، سنلتقي كخصوم خلال اللقاء، لكن دعنا نتصافح كأصدقاء بعد الـ90 دقيقة.
هل تظن أنها ستحسم خلال الـ90 دقيقة؟
صديقك تيري
مشهد النهاية
يطلق حكم مباراة فرنسا وبلجيكا صافرة النهاية معلنًا تأهل الديوك للنهائي بعد 12 عامًا. يركض لاعبو فرنسا في كل أرجاء الملعب، يتعانقون، يغنون، يحتفلون في صخب تحت قيادة بوجبا.
يسمع مبابي صوتًا آتٍ: كيليان!…كيليان!
يلتفت ليجد أمامه تيري هنري.
يعانقه تيري ويقول: أهنئك يا صديقي! تستحقون التأهل عن استحقاق!
مبابي يرد:شكرًا جزيلًا سيد تيري، أنت أيضًا أبليت بلاءً حسنًا خلال البطولة
هنري يختم حديثه: أنتظر لقاءنا القادم في فرنسا، لابد أن تعود بالكأس يا مبابي!
ملحوظة هامة: كل الوقائع والرسائل والأحاديث المذكورة بالمقال من وحي خيال الكاتب ولا تمت للواقع بصلة.