معارك «الرافعي» الأدبية مع عباس العقاد وطه حسين
تفرَّد مصطفى صادق الرافعي عن بقية الأدباء من أقران عصره بنزعة نقدية مميزة في الأدب، فكونه شاعراً وأديباً، يقابله من جهة كونه ناقداً وفيلسوفاً، ولعل هذه النزعة كانت سراً من أسرار الرافعي التي دفعته نحو الفصاحة وقوة الرأي في الجدال واستحضار الدليل الذي يكون منه البرهان، ذلك هو: الرافعي.
الكوميديا النقدية
هنا نجد الرافعي الناقد الشاعر المتهكم على ديوان العقاد، وقد قام بتحليله تحليلاً فلسفياً ونقدياً بارعاً، ويظهر من خلال هذا النقد الروح الفنية الشعرية التي يتسم بها أدب مصطفى صادق الرافعي.
يقول العقاد في ديوانه:
ويُعلّق الرافعي:
تتضح هنا مقدرة الرافعي على التهكم وسط هذا السجال الكبير الدائر بينه وبين العقاد حول ديوانه. ثم يقول العقاد: «إذا الدهر لم يعرف لذي الحق حقه فللدهر مني موطئ النعل والقدم».
يكتب الرافعي:
وفي بيت آخر للعقاد، نجد هذا الوصف:
يسخر الرافعي من هذا الوصف فيقول: «ماء وطين أي (وحل) عند ذكر القُبلة من فم الحبيب؟ أهذا كلام يوضع في الشعر أم يوضع في عربات نقل الوحل وكنس موضعه من اللغة؟».
تأمل حاسة الفكاهة والنادرة عند الرافعي، وكيف يستخدم الحيل النفسية والنقدية لإخضاع الخصم وكشف عيوبه فيما يتعلق بالذوق الشعري وفلسفة المعنى.
والرافعي مولع في الغزل ويتفنن في وصف الحبيبة، وله نزعة رومانسية وفلسفة بليغة في كتبه المعروفة مثل «رسائل الأحزان» و«السحاب الأحمر» و«أوراق الور، لذا نجده يسخر من العقاد في هذا الوصف وهو القائل:
ونراه في بيت آخر من «وحي الأربعين» ينتقد بيتاً شعرياً للأستاذ عباس محمود العقاد الذي يقول فيه:
يكتب الرافعي متهكماً:
ثم يختم الرافعي سلسلته النقدية الرائعة بنسخة خاصة به من «كليلة ودمنة»، أجراها في سياق النقد وسماها «الجزار والسكين»، وقد أبدع في هذه المقطوعة كماً ونوعاً، وأجاد في التعبير والوصف البياني واستخدم الاستعارة والمجاز.
ويتضح لمن يقرأ نقد «وحي الأربعين» عبقرية النقد وقوة الثقافة وسعة الاطلاع على تاريخ الأدب العربي، وقوة الفلسفة والحجة البيانية عند الرافعي التي تمثلت في هذه السلسلة النقدية الممتعة.
اقرأ أيضاً: «الرافعي: نزعته النقدية في الشعر ومعاركه الأدبية».
معركة الرافعي مع القديم والجديد
خاض الرافعي الكثير من المعارك الأدبية مع معاصريه من الأدباء والشعراء والكُتّاب والنقاد والمفكرين، واستقبلت الصحف هذه المعارك؛ بيد أن أشهر معاركه كانت مع الأستاذ العقاد في كتابه «على السَّفود» والمعركة الأخرى مع عميد الأدب طه حسين في كتابه «تحت راية القرآن».
تلك هي أشهر معارك مصطفى صادق الرافعي الأدبية، ونحن نتناول هذه المعركة من حيث النقد الأدبي لا من حيث السياق التاريخي الفلسفي.
ففي بداية القرن العشرين حدثت نهضة ثقافية في مصر وأصبحت القاهرة هي عاصمة الثقافة العربية، واجتمع نخبة من المثقفين هناك. ونتج عن ذلك التنوّع حركة ثقافية متعددة الانتماءات تميل إلى الحضارة الأوروبية وتنتقد الثقافة الشرقية، وتطالب بالتجديد في التراث الأدبي؛ والحياة الاجتماعية، والسياسية أيضاً.
وكان الأستاذ طه حسين من أصحاب المذهب الجديد، الذين يطالبون بإعادة النظر في التاريخ الأدبي، وإجراء دراسة نقدية لذلك التراث. لأنه يشك في ذلك التراث كله ولا يؤمن به ويطالب الباحثين بتجديد مناهجهم العلمية حين يبحثون في الأدب العربي؛ وطالب بتطبيق المنهج الديكارتي، وقد ذكر تحوّله إلى الثقافة الغربية وانتماءه إلى تلك الثقافة الأوروبية واعتزازه بها مقابلةً بنقده التاريخ العربي بأدوات منهجية غربية مستحدثة.
وفي كتابه «في الشعر الجاهلي» يؤكد هذه النظرية، ويطبق المنهج الديكارتي الشكي على الشعر الجاهلي ليتوصل إلى نتيجة: «أنه شِعرٌ منحول». ويُطالب الأستاذ «طه حسين» بالتجديد في الأدب العربي من خلال مذهب مستنير جديد؛ وينتقد أنصار المذهب القديم ويصفهم بـ«الساذجين».
وفي المقابل ينتقد الرافعي هذا المذهب الذي يدعو له طه حسين وأدعياء التجديد مثله، ليمتد بينهم السجال الفكري حول ماهية المذهب الجديد.
يرفض الرافعي المذهب الجديد، ولا يُقِرّ به على الطريقة التي يدعو إليها جماعة المجددين في الأدب واللغة، ويخالفهم في عدة مسائل وينتقد أطروحتهم فيما يتعلق بالقديم والجديد، ويشير إلى أن هذه العبارة غير واضحة الدلالة، وأن القديم لا يتناقض مع الجديد بل كل منهما هو مكمّل للآخر.
والرافعي ينظر إلى التراث العربي نظرة محافظة يوجد فيها الاعتزاز بالعروبة والتقدير للغة والاهتمام بقواعدها والمحافظة عليها، والتوفيق بينها وبين النصوص الأدبية في الكتب التاريخية، ويحرص على عدم التخلي عنها أو حتى تركها والتفريط فيها.
ويؤكد الرافعي أن الاهتمام باللغة وبقواعدها واستخدام ألفاظها في كل عصر هو دليل قوي على القومية، وأن الحرص على اللغة هو حرص على الدين، في هذه الإثنية التي تجمع بين اللغة والدين تتشكل منها الهُوية الثقافية عند الإنسان العربي.
وأن الاطلاع على آداب الأمم الأخرى لا يستدعي التخلي عن الهوية القومية والانسلاخ من الموروث العربي واستبداله بالحضارة الأوروبية؛ وذلك ما ينتقده الرافعي على أصحاب «المذهب الجديد».
ويرى الرافعي أن المذهب القديم بدعة لم تسبق في التاريخ الأدبي قط، وأنه على امتداد التاريخ العربي جاءت عقول أضافت إلى العربية الكثير، وهي تملك عقلية معرفية وثقافة، وعلى الرغم من ذلك لم يدّعي أحد منهم إنشاء مذهب جديد أو قديم.
يتعمق الرافعي في التحليل والنقد معاً حول مذهب القديم والجديد، ويجزم بأن الدافع وراء قيام مذهب جديد؛ يعود إلى الترجمة والمترجمين الذين غلبت عليهم اللغات الأجنبية وضعفوا في العربية، لذا يريدون إنشاء مذهب جديد على أهوائهم.
يستنتج الرافعي رأياً أساسياً بعد انتقاده لفكرة المذهب الجديد، ليؤكّد أن الإشكال لا يتعلق بالجديد أو القديم، بل هو إشكال متعلق بالقوة في لغة والضعف في أخرى، والتركيز على لغة وإهمال طلب لغة ثانية؛ فجاءت فكرة: المذهب الجديد.
ويحسم الرافعي هذه المسألة بعد أن درس الأسباب وحلل نفسية أدعياء هذا المذهب، حيث بدأ يؤكد حقيقة وهي أن المذهب الجديد تتزامن معه فكرة التعصب للآداب الأجنبية عند المجدِّدين.
وأن تلك العصبية كانت سبباً في فساد الذوق، وأن ذلك الذوق الأدبي أثّر في آرائهم فأصبحوا ملزمين على الانتماء لهذا المذهب والدعوة إلى الجديد بهدف التجديد دون رؤية واضحة.