لنكن أمة قوس قزح!

بعد ما فقدت كلمات كثيرة قيمتها المعنوية وقوتها التأثيرية الوجدانية؛ بل صار الكثير منها يستخدم في غير موضعه كحق يراد به باطلا. وأمست شعارات سياسية مثل «الأمل»، و«النخبة»، و«الثورة، والثورة المضادة»… إلخ، شعارات مهترئة يسمعها أحدنا دون أن تثير في داخله شيئا. وفي هذا السياق هرع المتدينون إلى حشو خطاباتهم بتعبيرات تتماشي مع نهج رؤيتهم مثل «اختبار من ربنا»، و«المؤمن مبتلى»! بينما لجأ البعض إلى مخدر عقلي، ونفسي زعما منه أن الأمر يحتاج معجزة إلهية، والتسليم بأنه الحل الوحيد، حتى لا ينتقل الصراع الخارجى إلى صراع داخلي يذهب معه كل الثوابت أَدراج الرياح. وكأن قوله تعالى: «إنَّ اللهَ لا يغيّرُ ما بقومٍ حتى يُغيروا ما بأنفسِهِم» (سورة الرعد: 15).

ليس دليلا قاطعا على أن التغيير إنما يأتى من أنفسنا بالمقام الأول!

لهذا أعتقد أن الأمر يتطلب البحث عن مخرج حقيقي، أو بالأحرى واقعي لا يحمل الشعارات فقط بقدر ما يضخ فيها الحياة من خلال تحويلها إلى وقائع ملموسة.

وهنا سأتحدث عن تجربة ليست واقعية فحسب، بل و قريبة أيضًا بالحسابات الزمنية، وتوافق بشكل أو بآخر ما نمر به في هذه المرحلة الحرجة من واقعنا العربي: من صراعات طائفية تمزق جسد الأمة، وتشعل الفتن بين أهل البلد الواحد. ومن جانب آخر فإن ثقافتنا تفتقر إلى تقبل الآخر، لذا هي بحاجة ماسة إلى التغيير بعيدا عن الرومانسية وإطلاق جُمل جوفاء، تلوكها الألسنة بينما الواقع مغاير ويشهد انفجارات بين الحين والآخر تنذر أن هناك نارا تحت رماد. فالآخر لم يعُد القادم إلى بلادنا على ظهر بارجة حربية وطيران عسكرى، بل أصبح هو جارك الذي تربى على ما تربيت عليه ولكنه الآن صار عدوًا بل قد تستعين بقوى خارجية في القضاء عليه وأنت تجهل أنك إنما تقضي على نفسك معه!

من هنا فإني أرى أنه من المفيد لنا إلقاء الضوء على تجربة نيسلون مانديلا في جنوب أفريقيا فهي جديرة بالاطلاع بأخذ العبرة منها بما يتوافق مع ما نعيشه في الوقت الراهن.

دائمًا يبدو الشيء مستحيلاً حتى يُفعل

هكذا تحدث نيلسون مانديلا والذي ولد في الثامن عشر من يوليو للعام 1918م، في جنوب أفريقيا، وقد كان يلقب باسم (رولي هلالا) أي المشاكس، وهو ينتمي إلى عائلةٍ مالكةٍ وحاكمة لعشيرة (التيمبو) في المناطق الشرقية من مقاطعة كايب، انتقل ليستكمل دراسته الثانوية وتنمية ثقافته في معهد (كلاركبري) المختلط، وفيه تخلص نيلسون من شخصيته المنغلقة، وفي السنوات اللاحقة التحق بجامعة فورت هير، ودرس في كلية الفنون والآداب، ولكنه مع نهاية السنة الأولى له في الكلية خاض إضراباً مع مجلس الطلبة بسبب سوء الطعام والأوضاع العامة في الجامعة، الأمر الذي أدى إلى طرده من الجامعة دون حصوله على الشهادة.

توجه إلى جوهانسبرج عام 1941م، وبدأ يبحث عن عمل، فعمل في مكتبٍ للمحاماة، وهناك تعرف على (نات بريغمان) و(جور ريديبي) المنتميين إلى المؤتمر الأفريقي الوطني، حيث أصبح يتردد على اجتماعاتهم وبدأ يعجب بأفكارهم واتجاههم السياسي، لذلك استكمل دراسته وحصل على شهادة الدبلوم في المحاماة. أصبح عام 1947م رئيس المؤتمر الأفريقي الوطني، وأصبح يقود حملاتٍ احتجاجية وإضراباتٍ ضد عنصرية البيض في جنوب أفريقيا، وقد ألقى مانديلا في الثاني والعشرين من يونيو للعام 1952م خطاباً أمام أكثر من عشرة آلاف شخصٍ للاحتجاج على الوضع الراهن، الأمر الذي أدى إلى اعتقاله لفترةٍ قصيرة، ثم قام بتغيير نهجه ليشمل الأعمال المسلحة والقتال.

كان مانديلا يحث بداية على الاحتجاج غير العنيف، ثم عام 1961م وبالتعاون مع الحزب الشيوعي في جنوب أفريقيا شارك مانديلا في تأسيس منظمة رمح الأمة المتشددة، فألقي القبض عليه بتهمة الاعتداء على أهداف حكومية، وأدين عام 1962م بالتخريب والتآمر لقلب نظام الحكم، وحُكم عليه من قبل محكمة ريفونيا بالسجن مدى الحياة في مارشال سكواير، ونقل بعدها إلى جزيرة روبن ليستكمل حجزه مع رفاقه مدة ثمانية عشر عاماً، ثمّ إلى سجن بولسيمور. ثم نقلوه إلى سجن فيكتور فيرسجر، وهناك بدأ يقوم بالمفاوضات والاتصالات السرية مع (أوليفر تامبو) رئيس المؤتمر الوطني الإفريقي، وعندما أصبح دي كلارك رئيساً لجنوب إفريقيا، ونتيجة تطور أعمال العنف أمر بالإفراج عن مانديلا في الثاني من فبراير للعام 1990م لتوقيع اتفاقية سلامٍ ووقف العنف، وأصبح مانديلا رئيساً لجنوب إفريقيا في العاشر من مايو للعام 1994م.

وهنا لا يمكن أن نغفل بأي حال من الأحوال الفترة التي قضاها مانديلا في السجن حيث كانت سببا رئيسيا في تغيير نظرته للأمور وأرى من أهم ما كتب أثناء سجنه:

وأيضا كتب في مسودة سيرته الذاتية غير المنشورة التي كتبها في السجن:

وبعد تنصيب مانديلا في بريتوريا في 10 مايو 1994، كأول رئيس أسود لجنوب أفريقيا، أصبح مانديلا رئيسا لحكومة الوحدة الوطنية التي هيمن عليها حزب المؤتمر الوطني الأفريقي – ولم تكن له أي تجربة في الحكم – وضمت الحكومة أيضا نوابا من الحزب الوطني وانكاثا. تمشيا مع الاتفاقات السابقة، أصبح دي كليرك نائبا أولا للرئيس، في حين تم اختيار ثابو مبيكي نائبا ثانيا.

ترأس مانديلا الانتقال من حكم الأقلية بنظام الفصل العنصري إلى الديمقراطية متعددة الثقافات، ورأى في المصالحة الوطنية أنها المهمة الأساسية في فترة رئاسته. وبعد أن شاهد كيف تضررت الاقتصادات الأفريقية في مرحلة ما بعد الاستعمارية برحيل النخب البيضاء، عمل مانديلا على طمأنة السكان البيض في جنوب أفريقيا بأنهم ممثلون في «أمة قوس قزح». حاول مانديلا تكوين أوسع تحالف ممكن في مكتبه، مع دي كليرك في منصب نائب أول رئيس في حين أصبح غيره من مسؤولي الحزب الوطني وزراء للزراعة والطاقة والبيئة والطاقة والمعادن، وتولى وزارة الشؤون الداخلية بوثيليزي. أما غالبية المناصب الوزارية فعادت لأعضاء من حزب المؤتمر الوطني الأفريقي من الرفاق القدمى.التقى مانديلا شخصيات بارزة في نظام الفصل العنصري، مؤكدا صفحه ومصالحته الشخصية، وأعلن أن «الشعب الشجاع لا يخشى المسامحة، من أجل السلام».

كما شجع السود في جنوب أفريقيا على تشجيع فريق الرجبي الوطني الذي كان يكرهه سابقا، عندما استضافت جنوب أفريقيا كأس العالم للرجبي عام 1995. وبعد فوز سبرينغبوكس في ملحمة النهائي على نيوزيلندا، قدم مانديلا الكأس لقائد الفريق، وهو الأفريكانى، نظر للحدث على نطاق واسع بمثابة الخطوة الرئيسية في تحقيق المصالحة بين البيض والسود في جنوب أفريقيا، خففت جهود مانديلا في المصالحة من مخاوف البيض، ووجهت أيضا الانتقادات للسود المتشددين.

وأشرف مانديلا على تشكيل «لجنة الحقيقة والمصالحة» للتحقيق في الجرائم التي ارتكبت في ظل نظام الفصل العنصري من جانب كل من الحكومة وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، ومنعا لاتخاذ شهداء، منحت اللجنة عفوا فرديا لكل من يدلي بشهادته حول الجرائم التي ارتكبت في حقبة الفصل العنصري. في فبراير/شباط عام 1996، سلم ماندبلا تقريرا عن التفاصيل جلسات الاستماع التي دامت عامين حول عمليات الاغتصاب والتعذيب والتفجيرات والاغتيالات، قبل إصدار التقرير النهائي في أكتوبر/تشرين الأول 1998. أشاد مانديلا بعمل اللجنة، مشيرا إلى أنها «ساعدتنا في الابتعاد عن الماضي والتركيز على الحاضر والمستقبل».

بقي لنا شيء تجدر الإشارة إليه أن نيسلون مانديلا لم يكن مبعوثا بقدرات خارقة، أو له قدر وظروف أسعد حظا مما نحن عليه، ومع هذا نجح في رأب الصدع، ويمكن النظر إلى وضع جنوب أفريقيا مقارنة بما نعيشه اليوم، فلماذا لا نأخذ من تلك التجربة ما يجعلنا نتجاوز الحروب الطاحنة، والمناوشات بين طوائف الشعب الواحد؟

وأخيرًا كل منا يستطيع أن يكون مانديلا إذا تقبل الآخر، وعمل على إزالة أسباب الصراع والاحتراب القبلي والطائفي، الأمر ليس دربا من دورب الخيال، أو رومانسية مفرطة والدليل ما استعرضناه في السطور السابقة من تلك التجربة الخصبة لرجل السلام نيلسون مانديلا، فقط لنؤمن أن الوطن للجميع «ولا يمكننا أن يقتل بعضنا البعض».