دروس في الاستبداد: طاجيكستان نحو الديكتاتورية باستفتاء شعبي
اليوم، الأحد، الثاني والعشرين من مايو/آيار 2016م» تطرح السلطات الطاجيكية استفتاءً شعبيًا بخانة واحدة، لتعديل 41 مادة دستورية جملةً واحدة. بموجبه يصبح بإمكان إمام على رحمانوف أن يبقى في منصبه كرئيس للجمهورية إلى ما شاء الله له أن يبقى، دون التزام بعدد محدد من الفترات الرئاسية، وهو القابع في سدة الحكم من نوفمبر/تشرين الثاني 1994م وحتى موعد كتابة هذه السطور.علاوةً على ذلك، يُعد خفْض الحد الأدنى لسن الترشح على ذات المنصب أحد أبرز الأطروحات المتضمَّنة في الاستفتاء المرتقب ليصبح 30 عامًا بدلًا من 35، إذ يُتم الابن الأكبر لرحمانوف عامه الثالث والثلاثين نهاية الفترة الرئاسية الحالية لوالده، والتي مُدتها 7 سنوات، كانت قد بدأت في 2013م لتنتهي في 2020م. بتمرير المادتين جملةً واحدة يحق لرحمانوف طرح نفسه للترشح مرات عديدة وإذا ما مرض أو قرر الاعتزال دفع بولده الأكبر لخلافته على كرسي الحكم.الأطروحة الثالثة والأهم في الاستفتاء القادم توصي بحظر الأحزاب القائمة على أسس دينية، ليُقطع بذلك دابر قوى المعارضة الرئيسية في البلاد والمتمثلة في حزب النهضة الإسلامي. وبذلك تنتهي حقبة تاريخية من النزاع السلطوي والأيديولوجي من عُمر طاجيكستان، كانت قد بدأت مع إعلان الجمهورية الطاجيكية استقلالها بعد تفكك الاتحاد السوفييتي ديسمبر/كانون الأول 1991م.
جذور الصراع السياسي الطاجيكي
توضح الصورة جانبًا من الانتخابات الرئاسية الأخيرة نوفمبر/تشرين الثاني 2013م
طاجيكستان: هي إحدى الجمهوريات الإسلامية الخمس في منطقة آسيا الوسطى والتي استقلت بعد تفكك الاتحاد السوفييتي 1991م. «الجمهوريات الخمس هي: طاجيكستان، تركمانستان، كازاخستان، قيرغيزستان، أوزبكستان». تحدّ طاجيكستان أفغانستان من الجنوب وقيرغيزستان من الشمال، بينما تحاذيها الصين من جهة الشرق وأوزبكستان من الغرب. تجاوز عدد سكانها تبعًا لإحصاءات العام الماضي حاجز الثمانية ملايين شخص، أغلبهم يدينون بالإسلام على المذهب الحنفي كأغلب دول آسيا الوسطى، ويتحدثون بالفارسية؛ ولذا تعتبرها إيران امتدادًا لثقافتها وحضارتها، إلا أن علاقاتها الإستراتيجية بالصديق الروسي تحول دون لعب دور سياسي إيراني كبير في الداخل الطاجيكي المتصارع.
العلامة الأبرز التي لا يمكن تناول التاريخ السياسي الطاجيكي دون التطرق إليها هي الحرب الأهلية التي اندلعت بين أبناء الجمهورية الواحدة عام 1992م، وراح ضحيتها ما يربو على 100,000 قتيل، وحوالي 1.2 مليون مُشرد.باختصار غير مُخلّ نحاول سياقة التفاصيل في الأسطر القادمة في محاولة منّا لنظم بناء تاريخي حقيقي نصل به مع القارئ إلى هذه «النقطة السوداء» من تاريخ إحدى جمهوريات آسيا الوسطى؛ فمع تهاوي الشيوعية في الجمهوريات السوفييتية السابقة تولدت مجموعات سياسية معارضة للحزب الشيوعي المحتكر للسلطة طوال العهد السوفييتي، أبرزها كانا حزب الشعب الديموقراطي الطاجيكي، والذي يسعى لإقامة نظام ديموقراطي على الطريقة الغربية مع إقرار الثقافة الطاجيكية كمادة يتوحد عليها أبناء الجمهورية الواحدة وتحفظ هويتهم، ويُعلن الحزب عداءه للشيوعية التي حارب لاسئصالها إبان الحرب الأهلية، والثاني حزب النهضة الإسلامي الذي خرج إلى النور على أيدي مجموعة من الشبان المتحمسين لنشر الدعوة الإسلامية في دول وسط آسيا، ويُعد الحزب أقوى فصائل المعارضة وأوسعها انتشارًا.كان إصرار الحزب الشيوعي على الاستمرار في السلطة في أعقاب الاستقلال ودفعه برحمان نابيف كمرشح شيوعي لمنصب رئاسة الجمهورية وإعلان فوزه، الشرارة الأولى التي قادت لاندلاع الحرب الأهلية الطاجيكية. وكان بمثابة استفزاز لقوى المعارضة الديموقراطية والإسلامية على السواء، (اللذان كانا حينها في خندقٍ واحد)، فاندلعت تظاهرات وصدامات قتل خلالها عشرات الشُبان، وانتهت برضوخ نابيف وتشكيله حكومة ائتلافية حصدت فيها المعارضة نسبة مقاعد مُرضية، غير أن الأمور ساءت مجددًا واحتدم الصراع من جديد وأُجبر نابيف هذه المرة على الاستقالة. تبع الاستقالة حالة من الهرج بين الأحزاب وداعميهم انتهت بكابوس الحرب الأهلية المفتوحة والتي خاض غمارها الشيوعيون ومن ورائهم روسيا، والديموقراطيون -الجالسون في مقاعد الحكم في الوقت الراهن- والإسلاميون -الذين ضاقت بهم الآن الأرض ومقاعد المعارضة- وراح ضحيتها ما يزيد عن 100,000 قتيل وأكثر من مليون مشرد بجانب خسائر مادية قُدرت بسبعة مليارات دولار.خمدت نار الحرب، التي دامت لخمس سنوات، قليلًا بانتخاب إمام علي رحمانوف زعيم حزب الشعب الديموقراطي رئيسًا للبلاد في نوفمبر/تشرين الثاني 1994م، والذي حاول التوفيق بين القوى الثلاث المتصارعة، وتدخلت الأمم المتحدة لمحاولة تعطيل رحى الحرب الدائرة على آلاف الأنفس، واستطاعت التوفيق بين موسكو الداعمة للشيوعيين و سلطة دوشنبة «عاصمة طاجيكستان» الديموقراطية وهدأت الأمور عام 1997م.
عزل البديل الإسلامي: حزب النهضة من الحظر إلى الحظر
يقول عبدالله نوري زعيم الحزب في لقائه المذاع على قناة الجزيرة الفضائية بتاريخ 26 مارس/آذار 2005م: تأسس الحزب قبل 32 عامًا في وقتٍ لم يكن يُسمح فيه بمغادرة البلاد تحت الحكم السوفييتي «يقول ذلك للرد على الادعاءات التي تربط بين الحزب وبين جماعة الإخوان المسلمين في مصر بنيويًا». لكنه لم يلبث أن قال: «نحن نتماشى في أفكارنا وأهدافنا مع تنظيم الإخوان المسلمين وقد استفدنا من كتب حسن البنا وسيد قطب ومحمد قطب ومحمد الغزالي والمودودي، ووجدنا ما كنا نريده في تلك الكتب والرسائل ونحن بصفتنا حركة مستقلة نستطيع التعامل مع جميع الحركات الإسلامية».تأسس الحزب إذن على يد مجموعة من الشبان عام 1973م، متأثرين بالضغوط الشيوعية على المجتمع الطاجيكي الذي تغلب عليه الديانة الإسلامية على المذهب الحنفي كسائر شعوب آسيا الوسطى.
دبلوماسية الذئاب
المحطة الأبرز لمشاركة الحزب في الأوضاع الداخلية بعد الاستقلال، كانت مع اندلاع الحرب الأهلية 1992م، وكان الحزب حينها -بحسب عبدالله نوري- لا يملك بندقيةً أو سكينًا، فاضطر أبناء الحزب للهجرة إلى أفغانستان لتنظيم الصفوف والاستعداد لـ«الجهاد» ضد حكومة الحزب الشيوعي المستبدة ومن ورائها حلفاؤها الروس. كانت روسيا أكثر الدول تدخلًا في السياسة الطاجيكية كون طاجيكستان إحدى الجمهوريات السوفييتية السابقة وكونها ترتبط مع روسيا حدوديًا بقرابة 1300 كم، بالإضافة إلى خشية روسيا من بروز دولة إسلامية على حدودها تكون مصدر قلق لأمنها القومي. بجانب ذلك جدير بالذكر أن طاجيكستان امتازت عن غيرها من دول الاتحاد السوفييتي السابق بامتلاكها لثلث مخزون الاتحاد السوفييتي من اليورانيوم قبل تفككه.
على إثر ذلك، تستضيف طاجيكستان اليوم القاعدة العسكرية الروسية 201، ويخدم فيها حوالى 7000 جندي، وتضم القاعدة 3 أفواج، موزعة على ثلاث مدن رئيسية هي دوشنبه -العاصمة-، وكولياب، وكورغان تيوبي في الجنوب، ونسّقت موسكو مع دوشنبه مؤخرًا اتفاقًا لتمديد فترة القاعدة العسكرية هناك حتى 2042م.كانت المفاوضات تتم بين المعارضين الإسلاميين والحكومة الشيوعية برعاية أممية -كما طلبت المعارضة الإسلامية آنذاك- بحضور كل من المملكة العربية السعودية وباكستان وإيران وأفغانستان. تركزت مطالب المعارضين في تشكيل مجلس أعلى للدولة وحكومة مؤقتة محايدة، وإيقاف الاعتقالات وعودة المطاردين وضمان أمنهم، وإلغاء الحظر الذي فُرض على تكوين الأحزاب، وإجراء انتخابات برلمانية في غضون سنتين. وقد عقد الطرفان أول اجتماع لهم في موسكو في الخامس من إبريل/نيسان 1994م واتفقا على تشكيل لجنة مشتركة لتسوية هذه النزاعات، إلى أن تم إيقاف النزاع المسلح بعد اتفاق على وقف الأعمال الحربية بين الطرفين.
إنهم إرهابيون!
بواقع ما تم من تسوية، عاد أفراد الحزب للداخل الطاجيكي ليمثلوا المعارضة الإسلامية للحكومة الجديدة -التي والت روسيا تحت وطأة التدهور الاقتصادي- وكثيرًا ما عانوا ويلات الاضطهاد؛ حتى تمثلت المحطة الثانية الأبرز في تاريخ الحزب في إدراجه ضمن الجماعات الإرهابية على اللوائح الأمريكية عقب أحداث الحادي عشر منسبتمبر/أيلول. واتهمت الولايات المتحدة قيادة الحزب بالتنسيق بين ابن لادن وإيران، وهي التهمة التي نفاها نوري -رئيس الحزب آنذاك- جملة وتفصيلًا، حتى أنه نفى أن يكون قد جمعه أي لقاء بابن لادن.
إما معي وإما مع الإرهاب!
في التاسع والعشرين من سبتمبر/ أيلول الماضي أدرجت المحكمة الدستورية الطاجيكية حزب النهضة الإسلامي ضمن قائمة المنظمات الإرهابية، غير أنها خففت من وطأة القرار بإعلانها أن أعضاء الحزب لن يكونوا تحت الملاحقة القضائية إذا هم انفصلوا عن الحزب طواعيةً.وأوقف على أساس الحظر ثلاثة عشر من قادة الحزب للمحاكمة، أما محيي الدين كبيري زعيم الحزب، والذي ولي زعامة الحزب بعد وفاة عبدالله نوري في 2006م، فقد غادر البلاد في مارس/آذار لعام 2015م بعدما أقُصي حزبه من الانتخابات البرلمانية التي اعترتها شبهة التزوير، ويقيم حاليًا في تركيا، بعيدًا عن الملاحقة القضائية.ما تبقى من المعارضة الإسلامية بعد حظر الحزب كان بين صفوف الجيش. صحيح أن العسكريين بحكم القانون الطاجيكي لا يشتركون في السياسة إلا أن بعض العسكريين وعلى رأسهم الجنرال عبدالحليم نازارزودا، نائب وزير الدفاع السابق، كانوا يقاتلون في صفوف الحزب إبان الحرب الأهلية، وتولوا مناصبهم القيادية في الجيش بموجب المصالحة والمحاصصة التي تمت نهاية التسعينات، وكان لابد من التخلص من وجودهم بافتعال أزمة ما. فطلبت الحكومة الطاجيكية من قادة الجيش إعلان موقفهم المؤيد لإجراءاتها في ملاحقة حزب النهضة، فما كان من الجنرال نازارزودا إلا أن رفض وأعلن التمرد مطالبًا الحكومة بالعودة إلى بنود المصالحة، وخاضت الكتائب الموالية له عراكًا مع القوات الحكومية في سبتمبر/أيلول الماضي انتهى باستتباب الأمر للحكومة الطاجيكية وهزيمة نازارزودا ورجاله.
أقتلكم باسم الشعب!
النقطة الأخيرة المتبقية في الخط الزمني نحو الديكتاتورية المجيدة، هو الاستفتاء الشعبي الذي سيعقد في بلد ذي سمعة سيئة فيما يتعلق بنزاهة الانتخابات، الأمر الذي تشهد به الانتخابات البرلمانية الأخيرة. استفتاء معروف نتيجته التي سيعلن عنها نظام رحمانوف سلفًا، وسيتم الترويج لها على أن «الشعب الطاجيكي» بأجمعه قد خرج ليؤيد بقاء رحمانوف في الحكم إلى الأبد، بل وفتح الباب خصيصًا لابنه الشاب المنحدر من سلالته النابغة -التي لم يوجد مثلها في البلاد- ليعقب والده إن شاء الأب التقاعد ليتمتع بملياراته على أحد الشواطئ الأوروبية، وبالطبع رفض مشاركة حزب المعارضة الإسلامي الوحيد في الحياة السياسية «الحرة»، على عادة ديكتاتوريات هذا العالم.الشعب الطاجيكي، الذي تدين أغلبيته العظمى بالإسلام، ممنوع بموجب قوانين رحمانوف، التي «بصم عليها» برلمانه – بحد وصف الصحافة الأجنبية -، من أداء شعائره الدينية، فالحجاب محظور منذ العام 2009م، كما يمنع منعًا باتًا إعفاء اللحى لمن هم دون سن الأربعين من الرجال، والخطباء ممنوعون من انتقاد الحاكم، بل ويجب عليهم تمجيد الحاكم -الذي يصف نفسه بالعلمانية- في كل جمعة، وحتى التسميات العربية أصبحت محظورة عليهم!.
الطريق إلى التطرف: ماذا بعد الحظر؟
التطرف والعنف دائمًا ما يكونان النتيجة الحتمية الأبرز للديكتاتورية والفساد السياسي وغياب الحريات الدينية والشخصية والسياسية. فالحفاظ على حرية التدين وممارسة الشعائر، ووجود أحزاب معارضة معتدلة تلتف حولها الجماهير الراغبة في المشاركة السياسية، حال فيما مضى دون استهلاك البلاد -المحاذية لمواطن الصراع في أفغانستان وباكستان وتركستان- في الصراعات الداخلية ومجابهة الحركات المتطرفة.اليوم وبعد انسداد الأفق السياسي، ومنع الشعائر الدينية، وحظر أنشطة الحزب المعارض في البلاد وملاحقة قياداته، تتوارد الأنباء عن انضمام نحو 600 شخص من آسيا الوسطى إلى جبهات القتال في سوريا والعراق، جنبًا إلى جنب مع مقاتلي تنظيم الدولة، بعد استجداء الأخير للخبرات القتالية الثمينة التي خلّفتها الحرب الأهلية أو ما تُسمى بحرب الخمسة أعوام. ويتوقع أن تزيد أعمال العنف الداخلية جنبًا إلى جنب مع تصدير المقاتلين لساحات المعارك في البلدان الأخرى كلما ازدادت قبضة الدولة على الراغبين في ممارسة حقوقهم وحرياتهم الشخصية والمشاركة السياسية والمجتمعية، وهو ما تحذر منه المجتمعات الغربية، فليس معنى انتصار رحمانوف في هذه الجولة من تقويض للمعارضة أن حكمه، وابنه من بعده، سيستمر إلى أبد الآبدين، فثمة جولات أخرى قد يكون بعضها عنيفًا ومدمرًا، إلا أن هذه سنة الطغاة وجريرتهم.