درس قتْل قَتَلة الحسين: الانتقام وحده لا يكفي
أحدث استشهاد الحسين بن علي – رضي الله عنهما – عام 61هـ في واقعة كربلاء، بسيوف جيش الوالي الأموي في العراق عبيد الله بن زياد زلزالًا عنيفًا في تاريخ الأمة الإسلامية لا نزال نستشعرُ توابعَه وارتداداتِه إلى اليوم. وقد شهدت السنوات القليلة التالية لتلك الواقعة ملحمة بارزة كان عنوانها الثأر لحفيد الرسول (ص) المقتول ظلمًا، وأنه لا صلاح لحال الأمة قبل تحقيق هذا الثأر الشريف.
لكن كان العجيب أنه رغم تحقيق الانتقام العاجل لدماء الحسين بقتل جُل من شاركوا في جريمة كربلاء في فصولٍ دامية شهدتها السنوات القليلة التالية لاستشهاد الحسين، فإن هذا الانتقام لم يحقق ما أراده الحسين بمواجهته لاستبداد الأمويين ولمشروعهم لتوريث الخلافة، من إقامة للدين، ولدولة العدل والشورى، فقد آل كل هذا الصراع في نهاية المطاف إلى إضعاف المعسكرات المعارضة للأمويين بمختلف مشاربها، لا سيما الزبيريون وأنصار آل البيت، وترسَّخ الحكم الأموي لستينَ عامًا تالية، شهدت هزائم مأساوية لأنصار الحسين وسواهم من معارضي استبداد الأمويين بالخلافة، لا يقل بعضها قسوة عن كربلاء. والآن نعود إلى أحداث ستينيات القرن الأول الهجري، وما تحتقن به من دروس التاريخ وعظاته.
قتلة الحسين
كان تعداد جيش الكوفة الذي حاصَر الحسين ثم حاربه بعد أن قطع طريق الماء عنه وعمَّن معه من آل بيته وأنصاره، حوالي 4 آلاف مقاتل، ينتسبون إلى العديد من القبائل العربية المقيمة في الكوفة. بالطبع لم يشترك كل هؤلاء في المعركة المشئومة، بل انضم القليل منهم للحسين مثل الحر بن يزيد. لكن برزت أسماء العشرات ممن قاموا بالأدوار الأكثر دموية في تلك المعركة، وهم الذين استهدفتهم مشاريع الانتقام للحسين في سنوات ما بعد كربلاء.
كان رأسُ المتهمين في تلك الواقعة هو عبيد الله بن زياد، والي الكوفة والبصرة، وابن واليهما لمعاوية زياد بن أبيه، والذي أوكل إليه يزيد بن معاوية قمع تمرد الحسين وأنصاره في العراق، فقام بتلك المهمة بسقفٍ مفتوح من الدم والتعذيب، ونقلت الأخبار تباهيه بقتل الحسين أمام أخته المكلومة زينب بنت علي التي أُسِرَت في المعركة، كما لم يتردد في قتل وصلب شيخ كفيف قاطعَه في خطبته بمسجد الكوفة التي كان يتفاخر فيها بقتل الحسين. بل تحاول بعض المصادر السنية التاريخية تبرئة يزيد والأمويين من تعمد قتل الحسين، وإلصاق المسئولية الكبرى بابن زياد وتصرفه العنيف ضد الحسين في كربلاء دون الرجوع إلى يزيد.
كما برز اسم شَمِر بن ذي الجوشن، والذي أرسله ابن زياد للمشاركة في قيادة حملة مواجهة الحسين في كربلاء بعد أن لمس بعض التردد في أخذ الحسين بالشدة من قِبَل قائد الجيش عمر بن سعد بن أبي وقَّاص، فكان شمِر من أشد المحرضين على قتل الحسين وآل البيت، وأراد أن يحرق خيام نساء آل البيت وأطفالهم ومن فيها، فصرفه عن ذلك بعض قادة جيش الكوفة بصعوبة شديدة، ثم أشرف على قتل الحسين في نهاية المعركة، وحرَّض من كانوا معه على قطع رأس الحسين بعد استشهاده.
وكان هناك أيضًا حرملة بن كاهل، الذي قتل الرضيع عبد الله بن الحسين بسهمٍ بينَ يديْ والده، وسِنانُ بن أنس الذي طعن الحسين بالرمح فأرداه، ثم احتزَّ رأسَه، وخولي بن يزيد الأصبحي الذي قتل عثمان بن علي بن أبي طالب، ثم عُهِد إليه بحفظ رأس الحسين ونقلها إلى الوالي، وقيس بن الأشعث الذي سلبَ ملابس الحُسين.
اقرأ: الحسين الذي ظلم الظالمين.
يا لثارات الحسين، أرض العراق تفور
لم يهنأ يزيد ابن معاوية بالخلافة طويلًا بعد استشهاد الحسين، فقضى سنوات خلافته الثلاثة يحارب لتثبيت سلطانه، حتى اضطر لإرسال جيش جرار من الشام لاستباحة المدينة المنورة وقمع أهلها الثائرين من أبناء المهاجرين والأنصار (واقعة الحرة 63هـ) وحاول ذلك الجيش بعدها احتلال مكة، والقضاء على تمرد عبد الله بن الزبير، لكن تُوفي يزيد عام 64هـ بينما مجانيق جيشه تقصف الكعبة وتلحق بها أضرارًا جسيمة، وتلحق بشرعية حكم الأمويين ما هو أجسم.
ثمَّ ما لبث أن استقال ابنه وولي عهده معاوية الثاني بعد أسابيع قليلة لعجزه عن القيام بأعباء الخلافة، واضطربت الأحوال في جميع المناطق، وبايعت أكثر الأقاليم الإسلامية باستثناء أجزاءٍ من الشام (معقل الأمويين) ابنَ الزبير خصم الأمويين بالخلافة، قبل أن ينجح الأمويون في الانتصار على أنصار ابن الزبير بالشام في موقعة مرج راهط عام 64هـ، ويسيطروا على الشام ثم مصر.
في تلك الأثناء، كان العراق يموج بعوامل الانتفاض والثورة، لا سيما من قِبل أنصار آل البيت المقموعين منذ زمن معاوية، والنادمين على خذلان الحسين. حاول عبيد الله بن زياد السيطرة على الأمور، وحصل بالتلويح بالعصا والجزرة على بيعة من أهل البصرة له ليدير أمور العراق لحين الاستقرار على خليفة، لكن لم ينجح في تكرار هذا في الكوفة، حيث ثار أنصار آل البيت فيها، وطردوا معاونيه منها، وتبعتهم البصرة في التنكر لابن زياد، فبايع بعض أهلها ابن الزبير، فاضطر ابن زياد للفرار إلى الشام نجاةً بنفسه من الانتقام، وللمساهمة في حسم الصراع بين الأمويين والزبيريين بالشام، ومِن ثَمَّ الإعداد لجيشٍ كبير يستعيد به السيطرة على العراق.
وبرزت في الكوفة آنذاك حركة التوابين بزعامة سليمان بن صرد الخزاعي، الذي كان عابدًا زاهدًا حسن السمعة بين الكوفيين، وانضمَّ إليها المئات من خيرة أهل الكوفة من مختلف القبائل، تحت شعار الندم على خذلان الحسين، والخروج للجهاد انتقامًا من قتلة الحسين أو الموت دون ذلك.
وردت الأخبار إلى العراق باقتراب ابن زياد بجيشٍ كثيف لاستعادة العراق تحت لواء الأمويين، ومعه بعض أشرس قادة الشام مثل الحصين بن نمير وشرحبيل بن ذي الكلاع، فاستنفر التوَّابون، وكانوا يتدرَّبون في معسكراتهم بالكوفة جهارًا نهارًا استعدادًا للمواجهة.
وكان عدد من بايعوا سليمان بن صُرد من أهل الكوفة وجوارها على الانتقام للحسين أكثر من 16 ألفًا، لكن لم يخرج منهم للقتال سوى ما يقارب الـ 5 آلاف فحسب، رغم أن أنصاره جابوا شوارع الكوفة في مظاهرات تهتف: يا لثارات الحسين، ليستثيروا الناس للانضمام إليهم، فلم ينضم إليهم إلا القليل.
لكنهم رغم ذلك قرروا الخروج لمواجهة ابن زياد بالعدد الحالي، رغم محاولات عبد الله بن يزيد والي الكوفة من قبل عبد الله بن الزبير إقناع سليمان والتوابين بالانسحاب إلى الكوفة، والانتظار حتى يحشد جيشًا كبيرًا موحدًا من الكوفة لمواجهة ابن زياد بفاعلية، لكن كانت حماسة التوابين للاستشهاد في سبيل ثأر الحسين جامحة، ولم تتركْ مجالًا لأي تخطيط واقعي للمواجهة.
عرض والي قرقيسيا على جيش التوابين أن يتحصنوا في مدينته بدلًا من مواجهة جيش ابن زياد في أرضٍ مفتوحة يتفوق عليهم فيها بالعدد والعتاد، لكنهم رفضوا، فقدم إليهم الدعم اللوجستي والنصائح العسكرية، ثم توجه إلى منطقة تسمى عين الوردة غربي العراق، حيث كان جيش الشام قريبًا للغاية.
ورغم غارة أولى ناجحة للتوابين أجبرت مقدمة جيش الشام بقيادة شرحبيل على الانسحاب وترك الكثير من الغنائم، فإنَّ المعركة الرئيسة بعد أيامٍ أسفرت عن هزيمة ساحقة للتوابين الذي واجهوا أكثر من 20 ألفًا من قوات الشام، وصمدوا أمامهم لأيامٍ في قتالٍ ضارٍ لحقت فيه خسائر ثقيلة بالشاميين، واستشهد معظم التوابين في المعركة وعلى رأسهم سليمان بن صرد، وعاد الناجون إلى الكوفة ليستعدوا لجولةٍ أخرى، وقد كان، لكن في ثورةٍ أخرى.
اقرأ: وكل أرضٍ كربلاء .. دم الحسين الذي سال عبر العصور
ثورة المختار
كان المختار بن أبي عبيد الثقفي من أبرز أنصار الإمام علي في العراق، وذاع صيته بالمهارة في القتال، وكذلك بالنرجسية والثقة الزائدة بنفسه وإمكاناته. وكان شديد المقت لابن زياد، لأنه ضربه وأصابه في عينه ثم سجنه ليمنعه من الانضمام إلى الحسين، فلما أُطلقَ سراحَه بعد مقتل الحسين، كان يغلي بالغضب ضد الأمويين وابن زياد، فقرَّر الانضمام لابن الزبير في الحجاز ومبايعته بالخلافة، لكنه اشترط على ابن الزبير أن يجعلَه في صفوة مستشاريه، وألا يقضي بأمرٍ جلل دون رأيه، فقبل ابن الزبير هذا على مضَض.
قاتل المختار بشراسة مع ابن الزبير ضد جيش الشام المُحاصِر لمكة عام 64هـ. لكن دبَّ الخلاف بين الرجلين بعد وفاة يزيد بأشهر، حيث غضب المختار لأن ابن الزبير لم يُسنِد إليه أية مسئولية قيادية كبرى في دولته، ولم يأخذْ خطواتٍ فعلية للانتقام من قتلة الحسين، بل قد بايعه في العراق بعض من شاركوا في قتل الحسين مثل شبث بن ربعي وشمر بن ذي الجوشن … إلخ، ورؤساء القبائل الذين تواطئوا على خذلان ابن بنت الرسول (ص). فغادر المختار إلى الكوفة وقد عزم على أن يشعل العراق بالثورة طلبًا لدماء الحسين.
التفَّ جمعٌ من شيعة آل البيت حول المختار، واتفقوا معه على أن مشروع سليمان بن صرد مع التوابين هو مشروع انتحاري لن يُكتَب له النجاح، لكن تعطَّلت خطط المختار إلى حينٍ عندما اعتقله والي الكوفة لابن الزبير عبد الله بن يزيد بعد أن تفاقمَ أمره، فأرسل إلى أخي زوجته عبد الله بن عمر بن الخطاب ليشفع فيه للخروج من السجن، فاضطر والي الكوفة لقبول شفاعة ابن عمر لمكانته البارزة.
ما إن خرجَ المختار من سجنه، حتى جمع حولَه الكثيرين من شيعة العراق للتجهز للثورة في الكوفة طلبًا لثأر الحسين، وادَّعى أن معه كتابًا من محمد بن الحنفية (الأخ غير الشقيق للحسين) يوكِل إليه قيادة الثورة من أجل القصاص للحسين من قاتليه، فشكك الكثيرون في صحة الكتاب، وأرسلوا سرًّا وفدًا إلى ابن الحنفية في الحجاز ليتثبتوا منه، فرد عليهم ردًّا ماكرًا لم يكذِّب فيه المختار، وكذلك لم يُصدِّقه صراحة، إنما ركَّز على ضرورة الخروج والانتقام للحسين. عاد الوفد مبتهجًا إلى المختار، فارتفعت أسهمه إلى عنان السماء بينَ الشيعة، وانضمَّ إليه فارس شيعة العراق الأول إبراهيم بن الأشتر النخعي بعد أن أقنعه المختار وأصحابه بأن ابن الحنفية أرسل كتابًا يدعوه شخصيًّا لمبايعة المختار وقيادة جيشه.
علم والي الكوفة الزبيري الجديد ابن مطيع بأنباء اقتراب ثورة المختار وأصحابه، ففرض ما يشبه الأحكام العرفية في الكوفة، وأنزل المئات من شرطتها لمراقبة الشوارع، وأمر رؤساء القبائل الموالية للزبيريين بأن يحمي مقاتلوهم مداخل الكوفة، وكان من هؤلاء الرؤساء بعض أبرز قتلة الحسين مثل ابن ذي الجوشن، وشبث بن ربعي.
بدأت الثورة قبل الأوان المحدَّد عندما استعرض ابن الأشتر بأنصاره داخل الكوفة، وقتل رئيس شرطة الكوفة عندما أراد مواجهتهم واعتقاله، فأمر المختارُ بتبكير الخروج الشامل، وأصبحتْ شوارع الكوفة ساحة حربٍ مفتوحة بين أنصار المختار ومناوئيهم، وارتجَّت أحياء المدينة بهتافات الثأر للحسين، ومالت الكفة لصالح المختار رغم الكثرة العددية لخصومه، إذ استبسل أنصاره في القتال، لا سيما ابن الأشتر، ونجحوا في هزيمة قوات قاتلي الحسين شمِر وشبث، وكذلك القوات التي كانت مع والي الكوفة ابن مطيع، ثم حاصروه في دار الإمارة، فاستسلم سريعًا، وحصل أنصاره الباقون على الأمان من المختار، وبايعوه طوعًا وكرهًا على نصرة آل البيت والانتقام للحسين!
حاول المختار في الأسابيع الأولى من ثورته أن يطمئن الجميع حتى يستقر مُلكه في الكوفة وجوارها، ونهى عن أية أعمال انتقام فردية ضد قتلة الحسين، إلا بأمره، وقرَّب الموالي من غير العرب لا سيما الفُرس، وعدل بينهم وبين العرب، مما أحنقَ بعض سادة القبائل العربية.
ثم جاءت الأنباء بأن جيش ابن زياد متوجه صوبَ العراق بعد أن انشغل لأكثر من عامٍ بالحروب في منطقة الجزيرة الفُراتية، وأنه استولى على الموصل، وحصل على أمرٍ من الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان باستباحة الكوفة 3 أيام بعد دخولها. أرسل المختار 3 آلاف من خيرة فرسانه لمواجهة ابن زياد، فاصطدموا بمقدمة جيش الشام المتوغلة في العراق، وألحقوا بها هزيمة ساحقة، ثم أرسل إليهم المختار مددًا قوامه 9 آلاف يقودهم إبراهيم بن الأشتر، ليستطيعوا مواجهة الجيش الشامي الرئيس الذي قُدِّرَ تعداده بـ 80 ألف مقاتل.
وقد حاول مناوئو المختار من قتلة الحسين تدبير انقلاب ضده في الكوفة بمجرد خروج ابن الأشتر بالجيش، لكن فطن المختار لهم، فأرسل إلى ابن الأشتر رسولًا يعيده إلى الكوفة، فعاد في وقتٍ قياسي، وتحولت شوارع الكوفة إلى ساحة حرب مفتوحة بين المختار وخصومه، انتهت بانتصار ساحق للمختار، استغلَّه في تتبع من قتلوا الحسين، وقتل منهم المئات في يوم واحد، ثم تتبع كبار قتلة الحسين الفارين، فقُتِلَ شمر بن ذي الجوشن غيرَ بعيد، وأخذت دوريات المختار تطوي مناطق العراق المختلفة بحثًا عن قاتلي الحسين، وأُعدِمَ العشرات منهم قتلًا وحرقًا، ثم قتل عمر بن سعد بن أبي وقاص قائد الجيش الذي قتل الحسين، وابنه حفص، ووشت زوجة خولي بن يزيد به، لأنه أحضر رأس الحسين إلى منزلها، فقتله المختار. لكن فرَّ الكثير من المطلوبين إلى البصرة، والتي كان واليها آنذاك مصعب بن الزبير من طرف أخيه عبد الله، فصادر المختار أموالهم وهدم دورهم بالكوفة.
الحلقة 32 من مسلسل المختار الثقفي إيراني الإنتاج وبها أحداث موقعة الخازر عام 67 هـ
بعدما استقرَّت أحوال الكوفة أرسل المختارُ ابنَ الأشتر بجيشه الرئيس لمواجهة ابن زياد، فجرت موقعة الخازر الرهيبة عام 67هـ قرب الموصل. علم ابن الأشتر أن معنويات جيش ابن زياد منخفضة رغم كثرة عددهم وعدتهم، فاستغل الفرصة وتعجَّل بالهجوم الشامل على الشاميين، وقاتل قتالًا ضاريًا، حتى انتصرَ انتصارًا ساحقًا، وقُتِل ابن زياد، وسُحِق جيشه، وسقط كبار قادته مثل الحُصيْن بن نميْر الذي قصف الكعبة عام 64هـ. لكن رغم نشوة هذا النصر فإن نهاية المختار غير المتوقعة كانت على الأبواب.
المختار ومُصعب: المذبحة!
حاول المختار عام 66هـ أن يستوليَ على المدينة بحيلة، ومنها إلى مكة، إذ أرسل إلى ابن الزبير في مكة أنه سيدعمه بجيش قوامه 3 آلاف مقاتل للدفاع عن الحجاز ضد الجيش الأموي، لكن ابن الزبير فطن لتدبير المختار، ونجحت قواته في هزيمة جيش المختار.
بعد هذا اعتقلَ ابن الزبير محمد بن الحنفية، وهدَّد بقتله إن لم يُبايعه، وأعطاه مهلة، فأرسل على الفور إلى المختار يستنصره، فأرسل إليه المئات من أسرع وأقوى فرسانه، فدخلوا مكة وحرَّروا ابن الحنفية، وكادت مكة تصبح ساحة حربٍ مدمرة، لولا أن ابن الحنفية آثر السلامة ومنع أنصاره من الصدام مع أنصار ابن الزبير. وهكذا وصلت الأمور بين المختار وابن الزبير إلى نقطة اللاعودة، ووصفت دعاية الزبيريين المختارَ بالكذاب، ورموه بالكهانة لأنه أخرج لأنصاره كُرسيًّا ادعى أنه كان لعلي، فبالغوا في تعظيمه.
أرسل عبد الله أخاه وأقوى رجال دولته مصعب بن الزبير واليًا على البصرة، للقضاء على المختار، فحشد على الفور جيشًا ضخمًا من البصرة وخُراسان، وانضم إليه الفارون من الكوفة ومنهم بعض قتلة الحسين مثل شبث بن ربعي، وكان هؤلاء الأشرس في القتال انتقامًا من تنكيل المختار بهم وبأنصارهم.
انتصر جيشُ مصعب على جيشٍ أرسله المختار على عجل انتصارًا ساحقًا، فقرَّر المختار الخروج بنفسه للقتال، فدارت الموقعة الفاصلة قرب الكوفة، وانهزم أنصارُ المختار، وانقلب عليهم عامة أهل الكوفة وتجرَّأوا عليهم، وقذفوهم بالحجارة من البيوت، ثم حُوصر المختار في القصر، وتخلَّى عنه الكثير من أنصاره، حتى بقي حوله العشرات فحسب، فقاتلَ حتى قُتل.
ثم أسرفَ مصعب في الانتقام من أنصار المختار، بتحريضٍ من أنصاره من أهل الكوفة، فقتل جميع الأسرى منهم وكانوا بالمئات، وقدرتهم بعض المصادر بـ 7 آلاف، معظمهم من الموالي، وذلك رغم محاولاتهم للاستعطاف، والتفاوض لإطلاق سراحهم مقابل أن يُحاربوا الأمويين في الشام. ثم قتلَ زوجة المختار عمرة بنت النعمان بن بشير الأنصاري بحد الردة، بحجة أنه بعد التحقيق معها ثبت أنها تدعي أن المختار نبي، ولا يوجد دليلٌ على ذلك، فأساءتْ تلك الواقعة إساءةً بالغة لسمعة دولة ابن الزبير، وتناولها الشعراء، فقال سعيد بن عبد الرحمن حفيد حسان بن ثابت شاعر الرسول:
وقد برر الزبيريون تلك المذابح بأن المختار كان كذابًا يستغل ثأر آل البيت للوصول للسلطة، وادعوا أنه كان يُبطن الكفر، لكن كان آل البيت يدافعون عن المختار، فقال فيه عبد الله بن عباس:
أما إبراهيم بن الأشتر المنتصر على ابن زياد، فقد سبقته الأحداث المتسارعة في الكوفة، فلم يشاركْ بها، وعرض عليه كل من الأمويين والزبيريين الانضمام إليهم بعد مقتل المختار، فبايع ابن الزبير على أن يكون معه على حرب الأمويين، واستُشهد بعد أعوامٍ قليلة في المعركة الفاصلة بين عبد الملك بن مروان ومصعب.
الاستعادة الأموية: قتلة الحسين يرسِّخون حُكمهم
مع الاستنزاف الشديد الذي تعرَّضت له جيوش الخلافة الزبيرية ومواردها في حروبها الشرسة ضد المختار وكذلك ضد الخوارج، وكذلك الضربة القاصمة التي تلقاها أنصار العلويين بهزيمة المختار وسحق ثورته وقتل معظم أنصاره، كان الرابح الأكبر هو العدو الأساسي للجانبين، ومن قُتل الحسين من أجل مُلكهم ودولتهم، وهم الأمويون، الذين استفادوا من تطاحن جميع المعسكرات المعارضة لهم، فنجحوا آخر المطاف في هزيمة وقتل مصعب بن الزبير عام 71هـ، والاستيلاء على العراق، ثم حصار مكة وقتل الخليفة ابن الزبير عام 73هـ، بعد أن تفرَّق جمعه.
ثم شهدت العقود الستة التالية من حكم الأمويين تشديدًا لقبضتهم السياسية والأمنية لا سيما على العراق، فأسندوا ولايتها إلى أشرس رجالهم، وأكثرهم سفكًا للدماء، وأشدهم غلظةً على أنصار آل البيت، مثل ذائع الصيت الحجاج بن يوسف الثقفي (75هـ – 95هـ) ويزيد بن المهلب، وخالد بن عبد الله القسري … إلخ.
اقرأ: قصة غزالة التي جعلت الحجاج نعامة
كما شهدت خلافة هشام بن عبد الملك الأموي (105-125هـ) واقعة دموية تشبه كربلاء إلى حدٍّ كبير عام 122هـ، عندما استُشهد زيد بن علي، حفيد الحسين، عندما خرج ثائرًا بالعراق، ثم تفرَّق عنه الكثير من أنصاره رغبًا ورهبًا، ورفضًا لرأيه المعتدل في الخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر، فهُزِم في المعركة، ثم قُتِل على يد والي العراق للأمويين يوسف بن عمر الثقفي.
ومع تعزُّز عقلية الاستبداد وترسُّخ أركانه في الواقع الإسلامي، فإن الثورة العباسية التي أطاحت بحكم الأمويين عام 132هـ بعد 33 عامًا على الأقل من الدعوة السرية خوفًا من بطش السلطة، قد أقاموا سلطةً لا تقل بطشًا واستبدادًا وتوريثًا عن الأمويين، وأوقعوا بأبناء عمومتهم من نسل آل علي في مواقع ومحنٍ لا تُحصى، وبقي الثأر الحقيقي للحسين غائبًا حتى هذه اللحظة.