فيلم «Les Misérables»: بين صناعة السينما وصناعة الكشري
هل انتبهت يومًا إلى مدى التطابق الذي يجمع بين جميع مطاعم الكشري في القطر المصري؟ بالطبع هناك مساحة من التشابه بحكم أن هذه المطاعم تقدم نفس الوجبات وتمارس النشاط التجاري نفسه، لكن هذا التطابق الذي أشير إليه يتجاوز نوع الطعام والنشاط إلى شكل وتصميم المطاعم وآلية العمل بها، فستجد مثلاً أن جميع هذه المطاعم تستخدم أطباقًا من الألومنيوم، ولكن ليس فقط في تقديم الطعام، وإنما تستخدمها كدعامة لأوعية الأرز والمعكرونة الكبيرة، كما أن جميعها يقدم الخبز المقلي كعنصر جانبي، لن تجد أي تفاوت فني في الطهي أو المنتج النهائي، وأما التباين في الجودة فيعود إلى تفاوت جودة المواد المستخدمة في الطهي.
هذه ليست مقدمة جذابة لإثارة فضول القارئ لاستكمال المقال، الذي يدور حول أحد الأفلام السينمائية، وإنما لخلق صورة تعبيرية لها دلالتها التي يبلغها القارئ بنهاية المقال.
الفيلم الفرنسي «البؤساء – Les Misérables» هو بالتأكيد أحد أفضل الأعمال السينمائية لهذا العام، شارك الفيلم في المسابقة الرسمية لمهرجان كان، وحصل على جائزة لجنة التحكيم بمهرجان كان (مناصفة مع الفيلم البرازيلي باكوراو Bacurau). يتناول الفيلم مجموعة من الشخصيات التي تنتمي إلى مجموعات عرقية ودينية مختلفة تعيش في ضاحية (سان دينيس) في شمال العاصمة الفرنسية باريس، ويركز على واقع الأطفال المنتمين لهذه الأقليات في عالم يعج بالفقر، وتضيق فيه مساحة الحقوق والحريات الإنسانية في بيئة محفزة للجريمة والعنف.
يستمد الفيلم اسمه من عنوان رواية الكاتب الفرنسي الشهير فيكتور هوجو التي كتبها في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولكن على ما يبدو أن أجواءها لا تزال صالحة للمعالجة السينمائية اليوم، لا سيما وأنها تدور في نفس الضواحي الفقيرة من العاصمة الفرنسية، وتناقش قضية العدالة الاجتماعية التي لا تزال تلقي بظلالها على المجتمعات الإنسانية بعد قرن ونصف على رواية هوجو.
مجتمعات لا تعرف العدالة
إن كتب التاريخ لا تنفك تشير إلى الحقب الأقدم والأقل تحضرًا من عمر البشر بكونها مجتمعات غير عادلة، ساد فيها الاحتكار والظلم الاجتماعي، واستندت فيها موازين القوى إلى القدرة على استخدام العنف ضد الآخر الأضعف، لكننا لا نجد في هذه اللحظة من عمر البشرية أي اختلاف جوهري عن تلك المجتمعات القديمة، كما أن النظم السياسية الحديثة بكل قوانينها المنوط بها كفالة العدالة الاجتماعية، تثبت فشلها كل يوم في ظل واقع ظاهره التحضر والعدل، وباطنه الهمجية والظلم.
يقدم فيلم Les Misérables جانبًا واقعيًا من حياة مجتمع حقيقي يعيش أفراده في قلب العالم المتقدم، ولكن حياتهم لا تختلف كثيرًا عن أقرانهم في الدول المتخلفة، حيث الفقر والجوع والجهل والعنف هم أبرز مفردات القاموس المجتمعي. لا مجال هنا للحديث عن العدالة الاجتماعية فضلاً عن حقوق الإنسان، فالإنسان في هذه المجتمعات يعيش في كبد مستمر فقط من أجل البقاء على قيد الحياة.
يبدأ الفيلم بصورة لطفل من أصول أفريقية يحمل العلم الفرنسي، التقطتها كاميرا محمولة باليد Handheld، وهو الأسلوب الغالب في تصوير جانب كبير من الفيلم، حيث الصورة دائمة الاهتزاز. نتابع رحلة الطفل وأصدقائه -الذين يلتقي بهم في اللقطة التالية- إلى وسط باريس حيث الاحتفالات الصاخبة بفوز المنتخب الفرنسي بكأس العالم لكرة القدم. ينتهي تتابع البداية بلقطة واسعة للجماهير الفرنسية تملأ طريق الشانزليزيه، ويظهر في الخلفية (قوس النصر) الذي بناه نابليون ليكون رمزًا لانتصار الجيوش الإمبراطورية، وفوق رؤوس الجماهير يظهر اسم الفيلم؛ (البؤساء).
هكذا ومنذ البداية المبكرة، يضعنا الفيلم في مواجهة سؤال الهوية، وهذه الكاميرا المهتزة التي عبرت عن الهياج الجماهيري المنتشي بالنصر، ستواصل اهتزازها على مدار الفيلم، وإن بدلت دلالتها إلى الاضطراب المجتمعي الذي يفور تحت هذا السطح المتماسك لمشهد الانتصار.
في الفصل الأول نتعرف على الشخصيات الرئيسية الكثيرة بالفيلم، نتعرف على الأطفال وفي مقدمتهم عيسى، الطفل المشاغب، و(باز) الطفل المنطوي الذي يراقب العالم من علٍ بكاميرا الدرون، ونتعرف على ستيفان الضابط المنقول حديثًا إلى وحدة مكافحة الجرائم بضاحية سان دينيس، ونتعرف على رفيقيه في الفريق كريس الضابط الأبيض العنصري، وجاودا الضابط المسلم ذي الأصول الأفريقية. يبدأ الفريق جولتهم في الضاحية حتى يتسنى لستيفان -وللمشاهد بالتبعية- التعرف على المكان وباقي الشخصيات، فنتعرف على العمدة وهو زعيم عصابة يتاجر في المخدرات والدعارة ويفرض الإتاوات على سكان الضاحية، ثم نتعرف على جماعة الغجر التي تقيم سيركًا متنقلاً، وزعيمها زورو، وأخيرًا نتعرف على صلاح المجرم السابق الذي تحول لزعيم ديني يقود مجموعة من المسلمين يشار إليهم بالإخوان المسلمين.
تسكن كل هذه الفصائل شديدة التباين والتباعد في المكان نفسه، ونتيجة لحماقة جديدة يقوم بها عيسى، توشك المواجهة بين كل هذه الأطراف أن تتحول إلى حرب شاملة.
القبيلة لا الدولة
إذا ما عدنا إلى كتب التاريخ، سنجد أن المجتمعات الحديثة ينظمها القانون الوضعي وتكون الدولة هي المحتكر الوحيد لاستخدام القوة من أجل إنفاذ القانون وتحقيق العدالة؛ أما المجتمعات التقليدية فلم تعرف سوى النظام القبلي حيث زعيم القبيلة هو المنوط بإنفاذ القانون العرفي، وتتوزع موازين القوى بين القبائل المختلفة على قدر بأس كل منها في القتال.
في فيلم (البؤساء)، نجد أن المجتمع الصغير بضاحية سان دينيس هو مجتمع قبلي في جوهره، فهناك قبيلة العمدة، وقبيلة الإخوان المسلمين، وقبيلة الغجر، وأخيرًا تتكون قبيلة جديدة بنهاية الفيلم تضم الأطفال ويتزعمها عيسى، وحتى أفراد الشرطة ترتبط فيما بينها في نظام شبه قبلي، في أحد المشاهد عندما يهدد ستيفان كريس بالإبلاغ عن ممارساته لرؤسائه، يرد عليه كريس بأنه إن فعل ذلك سيكتسب عداوة كل زملائه، فالأصل هنا هو الانتماء لجماعة الشرطة، لا إنفاذ القانون وإحقاق العدالة.
في مجتمع (البؤساء) لا يوجد قانون وضعي، فالضرائب لا تذهب إلى الدولة وإنما إلى العمدة وعصابته تحت حماية الشرطة، واستخدام القوة ليس حكرًا على الدولة وذراعها الأمني (الشرطة) وإنما هو مكفول للجميع، ففي مشهد المواجهة بين الغجر والعمدة نلاحظ أن الجميع يستخدم القوة للوصول إلى مبتغاه، فالعلاقات الاجتماعية بين جميع الأفراد ينظمها الانتماء القبلي حيث الكل يحتمي بقبيلته في غياب تام لأي وجود للدولة كما تعرفها كتب العلوم السياسية.
هذا الغياب الواضح للدولة نلمسه في المفارقة الساخرة في تسمية إحدى الشخصيات بـ”العمدة”، وهو لقب المسئول الحكومي المحلي، غير أنه هنا ينخلع على المسئول الحقيقي الذي لم يكن سوى زعيم عصابة يفرض سلطته على الضاحية. نلمسه أيضًا في لجوء الأفراد إلى أنظمة اقتصادية تكافلية ذات طابع قبلي أيضًا، وذلك من خلال اعتماد النساء على نظام إقراض اجتماعي أو ما يعرف بـ(الجمعية).
بتطور الصراع بين القبائل المختلفة، يتحول الأطفال من مجرد طرف سائب إلى طرف فاعل، ويتسبب العنف الموجه ضدهم من كافة الأطراف إلى محفز للرد بعنف مماثل. يكوّن الأطفال قبيلتهم الخاصة تحت زعامة عيسى، ويخططون للانتقام من باقي القبائل في مواجهة ستعيد رسم خريطة القوى في الضاحية ولو بشكل مؤقت.
هذا التنوع الثقافي والعرقي والديني يتسبب في تفكك الهوية القومية، فلا يبقي هناك أي معنى للعلم الفرنسي إذ أنه لا يجمع هذه الفصائل المختلفة تحت لوائه، فلا أحد ينتمي إليه في الواقع، لتبقى المفارقة الساخرة أن ما يجمع بين كل هذه الفصائل هو إعجابهم بكليان مبابي، لاعب كرة القدم الفرنسي المنحدر من أب كاميروني وأم جزائرية. مرة أخرى، يفرض سؤال الهوية نفسه على معالجة المخرج الفرنسي الشاب لادج لي للواقع الذي عايشه بنفسه، إذ إنه أحد أبناء ضاحية سان دينيس.
سينما مطاعم الكشري
رغم أن الفيلم هو العمل الأول لمخرجه، إلا أنه ينضح بالنضج الفني على أكثر من مستوى، أولها بالتأكيد النص السينمائي المتماسك، والذي لا يمكن اعتباره معالجة لرواية فيكتور هوجو، بقدر ما يقوم بتوظيفها بشكل رمزي. يظهر هذا النضج على أكثر من مستوى، بدءًا من رسم الشخصيات الدرامية المتقن، لا سيما وأن الفيلم يتضمن عددًا كبيرًا نسبيًا من الشخصيات، كل منها يتميز بشكل واضح بناء على خلفيته الثقافية والدينية والعرقية، كل منها له منطقه ورؤيته الخاصة للعالم. يظهر أيضًا في البناء الدرامي الذي يجمع بين الواقعية والكوميديا الهزلية، وهو ما ينعكس أخيرًا على الحوار الذكي المعبر عن هذه الشخصيات المختلفة كل بلسانه.
أما على المستوى البصري، فقد أجاد لي استخدام أدواته البصرية بشكل تعبيري يحتفظ بالطابع الواقعي، وفي الوقت نفسه لا يتورط في الرمزية المبالغة. كما أسلفنا، فإن الاعتماد على الكاميرا المحمولة باليد كان الغالب على أسلوب التصوير في الفيلم، وهو ما يغذي الطابع الواقعي الذي يجعل المشاهد حاضرًا طوال الوقت كما لو كان إحدى الشخصيات والكاميرا هي عينه، فضلاً عن ذلك كان الاهتزاز الدائم للصورة معبرًا جيدًا عن حالة الاضطراب والتوتر التي تسود أحداث الفيلم منذ بدايته.
بالإضافة إلى الكاميرا المحمولة باليد، شاع أيضًا استخدام التصوير بالكاميرا الطائرة (Drone) وهو ما يؤدي أكثر من غرض، فهو يؤسس للمكان بشكل جيد كأحد أبطال العمل، حيث ينقل إلينا صورة شاملة للضاحية، كما أنه يكتسب أهمية تعبيرية من خلال اللقطة المعروفة بعين الإله، كما لو كان الإله يراقب كل هذا العنف والظلم ليس في ضاحية سان دينيس وحدها ولكن في كل أنحاء الأرض، وأخيرًا فإن استخدام هذا الأسلوب المميز لا يتنافر مع سمة الواقعية وإنما يأتي متجذرًا في الدراما، حيث يتم تصوير هذه المشاهد من خلال إحدى الشخصيات، الطفل “باز” الذي يقوم بتصوير الحي باستخدام طائرته، وهو ما يورطه في الصراع عندما يقوم بتصوير اعتداء رجال الشرطة على عيسى.
عندما نشاهد فيلمًا مثل (البؤساء) لا يسعنا إلا أن نشعر بالإعجاب إزاء ما يحمله من قيمة فنية، خاصة وأنه فيلم بسيط على مستوى الإنتاج، غير أن هذا الإعجاب يمتزج بشعور بالحسرة على ما آلت إليه السينما المصرية في العقود الأخيرة. هذا العمل البسيط يثبت أن القيمة الحقيقية للفن تكمن في عقل الفنان وليس أدواته الباذخة، فكل ما يحتاجه هو موهبة ناضجة، وهم شخصي يستطيع ترجمته والتعبير عنه من خلال الوسيط الفني. أما في مصر، فصناعة السينما لا تختلف كثيرًا عن أي نشاط تجاري مثل مطاعم الكشري، حيث جميع الأفلام تكاد تتطابق مهما اختلفت، وحيث صناعها يستخدمون الآليات نفسها، ويدورون في الدوائر ذاتها التي تخلو من أي قيمة فنية، وتنفصل بالكامل عن واقعهم الحقيقي إذ إنهم يفتقرون إلى الهم الشخصي والإدراك الحقيقي لواقعهم الذي يمكن ترجمته في عمل فني.