ليبانتو 1571: يوم توازنت القوى
يُرجح أغلب المؤرخين والباحثين في التاريخ أن فترة العصور الوسطى انتهت مع رحلة كولومبس للعالم الجديد وما سبقها من حوادث. كسقوط القسطنطينية وغرناطة، لأكثر من تسعة قرون هيمنت الحضارة الإسلامية على مقاليد الأرض، وكان التهديد الإسلامي استولى على عقل وقلب العالم المسيحي،فقد توغلت الحضارة الإسلامية في شتى بقاع المعمورة، ومع حلول القرن السادس عشر كان الصراع حتميا بين الشرق والغرب، إمبراطوريات عظيمة تتصارع ودول تختفي من الوجود، ولعل مفهوم الدولة في ذلك العصر لم يكن كعصرنا الحالي، فلم يكن هناك ما نراه الآن من ترسيم حدود بالأسلاك الشائكة والبوابات الإلكترونية، وإذا ما نظرنا للعالم في القرن السادس عشر فسنرى شكلا مختلفا عما نراه الآن.
العثمانيون كأكبر قوة إسلامية تسيطر على ساحل الشمال الأفريقي، ونفوذها يصل حتى تخوم فيينا، خانية القرم التابعة للبلاط العثماني تسيطر على مساحات شاسعة من روسيا، سليم الثاني ورث بيت آل عثمان، إرث كبير من المجد تركه له أبوه سليمان القانوني، وليبقى السلطان قوياً كان يتوسع في حربه ضد الكفار، حروب لا تتوقف ومساعدات يقوم بها من أجل الفارين من الأندلس.
وفي أوروبا كان آل هابسبورج يخوضون حروب الكاثوليكية الخاصة ضد الهراطقة والكفار، حرب في هولندا وأخرى في فرنسا، والصراع لا يتوقف مع إنجلترا المنشقة عن الكنيسة، فيليب الثاني ورث هو الآخر إمبراطورية عظيمة، تمتد على سواحل العالم الجديد وكل التراب الإيطالي بالإضافة للنمسا وأجزاء واسعة من أوروبا، إسبانيا العظيمة كانت شمسا تسطع باسم الرب، انتهت منذ عام التمرد الذي قام به الموريسكيون في جبال غرناطة ثورة البشَرات الأندلسية أُخمدت، وانتقل الصراع إلى البحر المتوسط.
ما قبل المعركة
في ذلك العام من القرن السادس عشر كان كلا الجانبين قد وصل إلى التقدم المطلوب في شتى نواحي الحياة، الإمبراطوريتان لديهما من الموارد الكثير نظراً لاتساع رقعة الدولة، وقد بلغ التطور الحربي في الجانبين أقصى مدى له منذ قرون، فأوروبا التي خسرت العديد من الحروب ضد المسلمينأصبحت الآن تضاهي العثمانيين قوة، منذ معركة موهاكس التي أبيد فيها الجيش المجري على يد السلطان سليمان القانوني، تراجعت القوى الأوروبية، وباءت كل محاولات السيطرة على مدن الساحل الأفريقي بالفشل، فقد كانت الحرب سجالا بين الطرفين، لم يحظ الأوروبيون بانتصار ملموس منذ ذلك الحين، ولعل مقياس تقدم كل دولة في ذلك الحين يعود إلى قوة أسطولها الحربي، خاصة بعد أن بدأت صناعة السفن تتخذ منحى أكثر تطورا، ففرنسا وإنجلترا طورتا أسطولا قويا يعتمد على الأشرعة أكثر من المجاديف، ولكن صناعة السفن المسطحة تطورت أيضا، فالسفن المسطحة هي تطور للسفينة الإغريقية التقليدية، تكون قوية البنيان ومتينة الأخشاب عند المقدمة والمؤخرة، كما تصلح لأن تكون منصة عائمة يشتبك فيها الطرفان بالأسلحة والبنادق، وكانت قوة السفينة تقاس بعدد الطاقم الذي يعمل عليها؛ بالإضافة لبحارتها، كان جوف السفينة يعج بالمجدفين، عبيدا كانوا أو محكوما عليهم بعقوبة، وكان هؤلاء في الأغلب أكثر الضحايا، يعيشون في ظروف قاسية ورائحة نتنة،ولكن الأمر يختلف بين القوتين في أمر المجدفين، فبينما كانت السفن الأوروبية تعج بالعبيد والأسرى للتجديف، كان المجدفون العثمانيون من المتطوعة والمقاتلين والأسرى، ولعل سفن البندقية أيضا تميزت بتلك الأمور، فلم يكن بين سفن البندقية عبد يجدف،فقد كان المجدفون من البندقية يصعدون على السفن بمجاديفهم، ولكن مع تطور السفن أصبح هناك أنواع أقوى وأكبر من المجاديف … ونال البحارة أجرة عن عملهم بالسفن.
الطريق إلى ليبانتو
سليم الثاني يكلل بالنصر في البحر والبحر، استولى على كريت ومن بعدها قبرص، حرب مباشرة مع البنادقة جعلتهم يطلبون العون من البابا بيوس الخامس، المسلمون يعدون العدة لدخول إيطاليا القابعة تحت سلطة فيليب الثاني، حالة من الذعر انتابت أوروبا بعد سلسلة الانتصارات العثمانية، كان يجب على أوروبا أن تتوحد تحت راية واحدة، ولقد وجد البابا بيوس ضالته المنشودة في فيليب الكاثوليكي الذي يحارب الكفار باسم الرب، قام البابا بعقد اتفاقات بين الفرقاء، جيش العصبة المقدسة، إسبانيا .. جنوة … البندقية … بالإضافة لرهبان جزيرة مالطة، ورفضت فرنسا الاشتراك في التحالف نظراً لوجود علاقات ومعاهدات بينها وبين العثمانيين، وإيفان الرهيب يحارب خانية القرم في روسيا … أبرمت الاتفاقية ونصت على أن يدفع ملك إسبانيا نصف تكاليف الحرب، والثُلث على البندقية والسدس يدفعه البابا.
في يوم 14 أغسطس 1571م رفعت راية زرقاء من حرير بها شكل ذهبي ضخم للمسيح المثبت بالمسامير على الصليب، وعلى رصيف الميناء كان يقف الأدميرال الشاب دون خوان النمساوي، الأخ غير الشقيق لفيليب، لباس مهندم من الذهب والستان القرمزي، منذ ساعات كان أمام مذبح الكنيسة والكاردينال يباركه ويصلي له من أجل النصر، دون خوان المنتصر في جبال غرناطة هو من سيقود أسطول العصبة المقدسة … سيقود أسطولا مكونا من سبعين سفينة إسبانية، مائة وأربعين سفينة من البندقية، واثنتي عشرة سفينة تابعة للبابا، أما فرسان جزيرة مالطة فكان لهم تسع، أبحر دون خوان من نابولي إلى مسينا في صقلية، حيث ينتظر تجمع بقية أسطوله.
في الجانب الآخر وعلى بعد ثمانمائة ميل خرجت من خزانة القصر السلطاني راية أخرى، في احتفالية كبيرة حملت راية ضخمة من الحرير بلون أخضر حيوي، وفي ميناء إستانبول رفعت الراية العملاقة، المزينة بأسماء الله الحسنى بالخط الكوفي المذهب، حروف كبيرة متداخلة كشبكة من الذهب الخالص … أوكلت مهمة المعركة إلى ريس البحر القبطان «علي باشا» الذي كان محنكاً في حروب البحر ، انتصاراته خلدت في عقول الأوروبيين.. قائد عظيم من أصول متواضعة، فعكس دون خوان الأمير ابن الإمبراطور كان علي باشا ابن مؤذن .. أوكلته نجابته وحسن قيادته لتولي أمر الأسطول العثماني … أسطول من ثلاثمائة سفينة مسلحة بالمدافع الضخمة، أبحر الأسطول نحو المعركة بعد شهور من التجمع من شتى بقاع المتوسط … للسيطرة عليه .
تلك هي النظرية السائدة والرائجة … ففي عام 1571 م كان هناك توازن بين الخصمين في كل المجالات … وكانت لحظة المواجهة المحتومة.
الصدام
مكث دون خوان في مسينا يستقبل السفن المشاركة في الحملة، أمر رجاله بتفحصها جيدا بينما كان هو يحاول أن يجمع شتات رجاله؛ البنادقة لا يروقون للرجال من جنوة، ورهبان مالطة لا يطيقون الإيطاليين والإسبان، كان كل شيء مهددا بالفشل، ولكنه تجاوز كل الخلافات ليبحر بأسطوله الضخم صباح يوم 16 سبتمبر 1571م من ميناء مسينا، رافعاً رايات الحرب وسط تبريكات القساوسة الواقفين على حافة الميناء، كان متوجهاً إلى البحر الأدرياتي، وتوقف الأسطول قرب رأس كولون في الجنوب الإيطالي، حيث علم أن هناك أسطولا عثمانيا يجوب البحر الأدرياتي ويتخد من أوترانتو قاعدة له، علم دون خوان أن القوة الرئيسية للأسطول العثماني مازالت راسية في بريسيفا بانتظار أوامر السلطان لبدء المعركة.
وفي الحقيقة أن بقية الأسطول لم يكن يرسو في بريسيفا كما يعتقد دون خوان، فقد تفوق العثمانيون في مجال نقل المعلومات والجواسيس، كان أسطول العثمانيين يقف في خليج ليبانتو، حيث يجتمع علي باشا بقادته، لم يكن يريد إنهاك المجدفين والوصول إلى أرض المعركة أولاً. بينما كان اجتماع البحارة العثمانيين قائما كان دون خوان يجتمع على ظهر سفينته الملكية – ريال – بقادته المنقسمين… البعض اقترح محاصرة القلاع التركية الكبرى وعدم الاحتكاك بالأسطول العثماني … وآخرون يقولون إن عليهم سحب عدوهم خارج خليج ليبانتو نحو المياه المفتوحة.
أصر علي باشا على الخروج وملاقاة العدو خارج خليج ليبانتو معتمداً على قوة سفنه وكثرة عددها، خالف كل الآراء المقدمة من قادة الأسطول العثماني، وأصرعلى المواجهة، وألقى خطبة حماسية في رجاله، وراح المجدفون يدفعون السفن العثمانية نحو البحر المفتوح، في الجانب الآخر اتخذ المجلس الحربي بقيادة دون خوان قرار الهجوم بلا رحمة، والاشتباك المباشر مع العثمانيين الأكثر عددا.
تراصت السفن في تقليد حربي، تواجه الأسطولان، لحظة صدام سيحول التاريخ، حين بدأت السفن العثمانية في قصف أسطول العصبة بنيران المدافع تغيراتجاه الريح فجأة، أصبحت سفن إسبانيا تطير فوق المياه بفعل الرياح والمجدفين، سفن علي باشا أصبحت هدفا سهلا للمدافع الأمامية المسيحية، وسرعان ما غربلت المدافع الجانبية السفن العثمانية الضخمة، الإنكشاريون وقعوا في شباك دفاعية تحيط بالسفن الإسبانية، ومن مر منهم انزلق على أرضيات دهنت بزيت زيتون وقار، أعاقهم نظرا لأنهم يقاتلون حفاة، كانت معركة شرسة وحين مالت الكفة للعثمانيين غرقت سفينة القيادة العثمانية، وانتهى المطاف بابن المؤذن قتيلا، وعلق رأسه على رمح، رغم ذلك أولوج باشا على سفينة القيادة لرهبان مالطة، وقام بتفريق وإغراق سفن الأسطول المالطي بالكامل، قتال عنيف احتدم لساعات، وصفه بدقة جندي كان بالمعركة، وهو الروائي الإسباني دي سيرفانتيس في روايته الخالدة «دون كيخوته».
مع مقتل علي باشا انهزم الجند العثماني معنويا، وراحت البنادق والسهام تحصد الكثير منهم، انسحب أولوج باشا ولم يخسر أيا من سفنه البالغة 42 سفينة حاملا معه راية أسطول مالطة المدمر، وخسر العثمانيون 200 سفينة حربية، غرق منها 93 بينما غنم أسطول العصبة البقية، انهزم العثمانيون وزينت رءوس القتلى سفن دون خوان، الذي انتصر بأنفاس السماء وبركات الرب، انتصار آخر أضيف لسجله بعد حرب البشرات … الرجل الذي أثبت أن العثمانيين يهزمون،وأن الانتصار على الشرق ليس مستحيلا،وفي كنيسة القديس بطرس وقف البابا بيوس الخامس يقول:
- الكفار – تاريخ الصراع بين عالم المسيحية وعالم الإسلام … أندرو هويتكروفت
- المسلمون وأوروبا – التطور التاريخي لصورة الآخر … د. قاسم عبده قاسم
- حرب الثلاثمائة سنة بين الجزائر وإسبانيا – أحمد توفيق مدني
- تاريخ الدولة العثمانية – د. علي حسون
- جهود العثمانيين لإنقاذ الأندلس في مطلع العصر الحديث – د. نبيل عبد الحي رضوان