لينين في لندن: مولد السياسة التي غيّرت العالم
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
أحبَّ لينين لندن، كان قد وصلها في نيسان/أبريل 1902م بُعيدَ إطلاق سراحه من منفاه السيبيري، وفيها أمضى حوالي سنة قبل انتقاله إلى جنيف. غير أنَّه رجع إليها في عدة زيارات قصيرة خلال العشرية الأولى من القرن العشرين. وكأيِّ سائحٍ نموذجي، فقد استطلع الطرف الشرقي من المدينة راجلًا، بينما استكشف بقيتها من فوق سطح الحافلة. إلى جانب ذلك، ذهبَ إلى اجتماعات العمال المحلية، التي علم بها من إعلانات الصحف، كما استمع إلى خطباء إيرلنديين في هايد بارك. لكن لم تربطه مع الإنكليز، أمة أصحاب المتاجر، علاقة قوية؛ فبحكم كونه ثوريًّا روسيًّا متنقلًا لم يكن مضطرًا إلى ذلك. لم تكن ثمَّة حاجة لأن تكون ممتنًّا لإغداقهم حق اللجوء، أو الإعلاء منهم لتسامحهم الليبرالي. كان الأقرب إليه هم جماعة المهاجرين الروس، جماعة مشاكسة لكن كريمة مع الوافدين الجدد، غير أنَّ لينين لم يحفل بهم كثيرًا.
لقد أحبَّ لندن لأنَّه وقع في الحب. أما موضوع حبه فكان المتحف البريطاني، أو بالأدق قاعة القراءة الواسعة والمدوَّرة للمكتبة (أُعيدَ تسميتها اليوم بالمكتبة البريطانية، بعد أن جُرِّدَت من أبهتها ورومانسيتها ونُقِلَت إلى جادة يوستون)، كانت هذه القاعة آنذاك قلب المتحف الخفي. ويُقال إنَّ مقعده المُفضَّل كان رقم «L13».
لا تَرِد هذه التفصيلة الأخيرة في كتاب روبرت هِندرسون «الشرارة التي أشعلت الثورة: لينين في لندن والسياسة التي غيرت العالم» (2020)، ما جعلني أتساءل عمَّا إذا كانت خاطئة، إذْ إنَّ هِندرسون، بحكم عمله السابق في المكتبة البريطانية أمينًا للقسم الروسي، يعلم كل شيء عن علاقة الحب بين لينين والمكتبة، ويرويها في الكتاب كاملةً. وقلَّما نقع على مثل هذا المستوى من التفصيل لحياة لينين منذ سقوط الاتحاد السوفييتي. زد على ذلك أنَّ البحَّاثة السوفييت ممن تتبعوا لينين في كل حركة وكل ساعة لا يعرفون المتحف البريطاني كما يعرفه هِندرسون؛ وهذا ما يمنح كتابه ألقه.
شخصيًّا، لم يخطر لي أنَّني سأحصل على متعة جديدة من قراءة عملٍ آخر حول لينين في المهجر عندما كان يجادل زميلًا ثوريًّا تلو الآخر، وتظهر عليه أعراض طفحٍ جلدي بفعل «التوتر المفرط»، ويخط كتاباتٍ جدالية لا نهاية لها. كان لينين يعيش في لندن قبل سنة من معارضته في مؤتمر جنيف عام 1903م انقسامَ حزب العمال الديمقراطيين الاشتراكيين المولود حديثًا، لذا توقعت إسهابًا تفصيليًّا آخر يتناول سياسة الحزب الفئوية. لكن، لحسن الحظ، سيجد القارئ القليل عن «السياسة التي غيرت العالم» أو حتى عن «الشرارة التي أشعلت الثورة»، بخلاف بعض المناقشات عن ترتيبات طباعة الإيسكرا [«الشرارة» نشرة الحزب التي جرى جدل داخل الحزب حول آراء هيئة تحريرها –م] في لندن، التي حررها لينين حتى عام 1903م. يتمحور هذا الكتاب بالأساس حول الحياة اليومية للمهاجرين الروس الثوريين في لندن أوائل القرن العشرين.
رغم أنَّ ولع لينين بالمتحف البريطاني يميزه عن غيره، فإنه لم يكن الثوري الروسي الوحيد الذي ارتاد قاعة القراءة فيه. «سوف يسجل الجميع أنفسهم قُرَّاءً»، يقول هِندرسون، وقد استطلع طلبات أكثر من 90 منهم، من بينهم الأمير بيتر كروبوتكين وسيرجي ستِبنياك وفلاديمير بورتسيف وفيرا زاسوليتش. فيما كان تتبُّع لينين أصعب من تتبُّع غيره، إذْ قدَّم طلبه أول مرة باسمه اللَّندني المستعار «الدكتور جاكوب ريكتر»، وفي المرات التالية باسمه الخاص «أوليانوف» (Ulyanov)، وقد سجله المتحف باسم (Oulianoff)، لكن هِندرسون عثر عليه في آخر الأمر.
«قَدِمتُ من روسيا بغرض دراسة مسألة الأرض»، هذا ما كتبه الدكتور ريكتر لتبرير رغبته في الانضمام، وقد أجرى هذه الدراسة حسب الأصول، فكان يصل باكرًا في العادة وينكب على العمل في المكتبة حتى الظهيرة. لقد أمضى «نصف وقته هناك»، حسبما تذكر زوجته، وكان يكيل لها المديح. وفي إحدى المرات قال لتلميذ روسي شاب: «لكم هو ممتع ومريح أن تعمل هناك»، حيث تجلس إلى منضدةٍ خاصة بك مع مساحة لتفرد عليها أوراقك وملاحظاتك؛ وتُجلَب إليك الكتب دون إبطاء أو تأخير؛ وما من شيء يضاهي قسم المَرَاجع والموظفين المتخصصين؛ كما بوسعك العثور على كتب روسية لا يمكنك الحصول عليها في بطرسبرغ أو موسكو. بالمجمل، لا يمكن لأوروبا توفير «مكتبة أفضل من [مكتبة] المتحف البريطاني».
بيد أنَّ علاقة الحب هذه لم تكن عابرة، أو منذورةً للنسيان. إذْ رجع لينين مرة أخرى من باريس في 1908 للعمل في المتحف البريطاني على دراسته الفلسفية الموسومة «المادية ومذهب النقد التجريبي». كما أهدى أعماله المنشورة إلى المكتبة، كما يبيِّن أحد ملاحق الكتاب: أهدى لينين على الأقل 4 من أعماله، منها «المسألة الزراعية» تأليف في.سي أوليانوف (V.C Oulianov)، إهداء من المؤلف بتاريخ 14 آذار/مارس 1908م، يقطن في 17 شارع دو بون جنيف؛ و«تطور الرأسمالية في روسيا» تأليف ف. إلين (V. Ilin)، إهداء السيد أوليانوف (Mr. Oulianoff) بتاريخ 11 نيسان/أبريل 1908م، العنوان نفسه.
مع ذلك، كان في لندن مكتبات أخرى، مثل المكتبة الروسية الحرة وهي إحدى المؤسسات الرئيسية لجماعة المهاجرين، والواقعة في 16 شارع وايت تشابل، أعلى سُلَّمٍ متداعٍ يعبق برائحة «الملفوف والسمك المقلي» (إذْ كان بجوار «المطعم الروسي الأوديسي»، مطعم للأكل الحلال وفق الشريعة اليهودية)، يُفضي إلى غرفةٍ مُترَبة تعجُّ بروَّادٍ يرتدون ثيابَ بالية يقرأون صحفًا روسية ويهودية. كان أليكسي تِبلوف هو من أنشأ هذه المكتبة، وأليكسي هذا عضو سابق في المنظمة الثورية العنفية «إرادة الشعب» (Narodnaya Volya)، بدعمٍ معنوي ومادي من جماعةٍ من الثوريين الروس، من ضمنها فلاديمير بورتسيف محرر المجلة التاريخية «بايلوه» (Byloe) آنذاك، كذا ف.ج تشيرتكوف الوصي على إرث تولستوي الأدبي. وشكَّلَت هذه المكتبة «المركز الثقافي للروس في الجانب الشرقي من لندن»، إلى جانب زيارات المتاحف والحدائق وحديقة حيوان لندن، فضلًا عن المحاضرات الاشتراكية التي حاضر فيها كل من لينين وتروتسكي في 1902م. كما كانت بمثابة مؤسسة توظيف غير رسمية للمترجمين ومُدَرِّسِي اللغة.
بالنظر لوجود الثوريين الروس في لندن كان لزامًا عقد مؤتمراتٍ ثورية. حيث عُقِد مؤتمرا حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي الروسي في لندن في 1905م و1907م، بحضور لينين في كليهما. بهذا الصدد، يستشهد هِندرسون بتقييم فيكتور سيبستيان (Victor Sebestyen) لمؤتمر عام 1905م – في كتابه الأخير «لينين: الديكتاتور» – واصفًا إياه بكونه «أكثر المؤتمرات عبثًا من بين مختلف المؤتمرات اليسارية قبل 1917م».
لا يتفق هِندرسون وهذا، فمثل هذه اللقاءات كانت تجري في ظل ظروفٍ صعبة. مثلًا، ادَّعى رئيس الشرطة السرية الروسية أنَّه جند ثلث أعضاء مؤتمر 1907م لصالحه. ولم يقتصر الأمر على الجواسيس الروس، فقد انخرطت شرطة لندن (سكوتلاند يارد) في هذه اللعبة أيضًا. ففي مؤتمر 1905م، المنعقد في غرفة بالطابق العلوي من مبنى كراون وولباك في كليركِنويل، اختبأ واحد من عملاء قسم المهام الخاصة في سكوتلاند يارد داخل إحدى الخزائن لكي يتنصت على المجتمعين، رغم أنَّه على الأرجح لم يكن يجيد الروسية. ومع كل الاحتياطات التي اتخذها الثوريون لمنع تسلل الأشخاص غير المخولين بالدخول، فإنَّ العميل نفسه انسلَّ متنكرًا إلى اجتماعٍ آخر وتمكن من الإبلاغ عن إجراء «تصويت على الثورة» كانت نتيجته 21 مقابل 7.
تُشكِّل قصص الجاسوسية الشرطية بعضًا من أكثر الصفحات حيوية في كتاب «الشرارة التي أشعلت الثورة». على الأخص رواية أحد جواسيس الشرطة الروسية، جون إدغار فَارْس (Jean Edgar Farce) الذي انتُدِبَ من باريس للعمل في لندن، عن صعوبات قيامه بمهمته في السياق الإنكليزي. ففي رسالة إلى رؤسائه في 1906م، يشتكي فَارْس من صعوبة العمل في مكان يختلف عن باريس حيث ما مِن «بوَّابين يمكنك شراؤهم بالمال… فإذا ما طرقت على الباب واختلقت قصة ما للحصول على مزيد من المعلومات، فإنَّه في 99 مرة من بين مائة سيُغلَق الباب في وجهك وسيُبلِغون المستأجرين عنك». وإنَّه لمن المؤثر اليوم معرفتك أنَّ «الجميع في لندن يعلمون في أي ميعاد ينبغي أنْ يصل بريدهم»، وإذا حصل تأخير ما «فليس عليك سوى تقديم شكوى إلى مركز البريد»، وسيجري إخطار «متقصِّي البريد» وإرسال «واحد أو أكثر من خطابات الاختبار».
كان قسطنين تختاريف وزوجته أبوليناريا يعقوبوفا من بين أهداف فَارْس في مجتمع المهاجرين الروس في لندن. أمضى تختاريف، وهو خريج جامعة سان بطرسبرغ والأكاديمية الطبية العسكرية، فترة تلمذته الثورية في روسيا، وفي ذلك فترة السجن، قبل وصوله إلى لندن أواخر عقد 1890م وإيجاد مسكنٍ قبالة شارع توتنهام كورت، أقرب إلى المتحف البريطاني، الذي سرعان ما سيسجل في مكتبته هو وزوجته. وحرص فَارْس على مراقبة زيارات الزوجين إلى المتحف. وعلى ما يبدو، تمتع تختاريف، وهو ابن جنرال، بموارد مالية مستقلة، وعلى أي حال فقد عُرِفَ بكرمه تجاه أبناء بلده، وفيهم لينين وزوجته. ولم تقف الاختلافات الفكرية عائقًا أمام هذا الكرم، إذْ كان تختاريف ميَّالًا إلى الجناح الوسطي من الاشتراكية الديمقراطية الروسية، ويتسبب هذا عادةً بتقييد لينين لعلاقته مع هؤلاء. غير أنَّه ظل يعامله على نحوٍ لَبِق ورفاقي، ولعل مبعث هذه المعاملة شغفه بزوجة تختاريف، وهي البطلة في رواية هِندرسون.
لقد أسَرَت يعقوبوفا، المرأة «ذات الجمال النادر» و«الروح التي لا تعرف الهزيمة»، قلب هِندرسون، الذي يعتقد بدوره أنَّها أسَرَت قلب لينين أيضًا. كانت يعقوبوفا، كأخت لينين الصغرى «أولغا» وزوجته «ناديجدا كروبسكايا»، خريجة معهد بيستوجيف في سان بطرسبرغ، وهو أول معهد على مستوى روسيا يوفر التعليم العالي للنساء. واعتنقت الأفكار الثورية في أوائل العقد التاسع من القرن التاسع عشر، ومثلها مثل لينين وكروبسكايا وتختاريف في مراحل مختلفة من ذاك العقد، جرى اعتقالها بسبب أنشطتها. وقد سرت شائعات مفادها أنَّ لينين قبل تقدمه للزواج من كروبسكايا – كفل هذا الزواج لهما قضاء الوقت معًا في منفاهما السيبيري – كان تقدم إلى يعقوبوفا ورفضته.
من جهته سبر هِندرسون هذه الشائعات قبل الخلوص إلى موافقة رأي محللٍ سابق مفاده أنَّ «مثل هذه الشائعات لا يمكن التثبت منها»، لذا على المرء «تجاوزها». ومن بين الأربعة، فالظاهر أنَّ يعقوبوفا كانت تمر بأحلك الأوقات – سُجِنت أربعة عشر شهرًا قبل إرسالها إلى المنفى – ولم يقيض لها الهرب قبل عام 1899م، قاطعةً برلين لبلوغ لاتفيا حيث التقت بتختاريف وتزوجا. وفي لندن، لم تكتفِ ببذل واجب الضيافة للقادمين الجدد من الروس، ومتابعة بحوثها في المتحف البريطاني، بل ساعدت أليكسي تِبلوف في إدارة سلسلة محاضرات المكتبة الحرة الروسية (تمثلت مساهمة بـ«مقرر وجيز في التاريخ الإنكليزي»)، قبل أن تصبح سكرتيرة المجموعة وأمينة صندوقها بعد ترخيصها رسميًّا تحت اسم «East End Socialist Lecturers’ Society».
يشتمل كتاب هِندرسون على ست صورٍ واضحة ليعقوبوفا، من إجمالي 29 لوحة، مع ملحقٍ من 12 صفحة («قصة أبوليناريا») يحكي عن مصيرها فيما بعد. أعجبني مظهرها في الصور. بدَت نابضةً بالحياة وجذابة حين كانت شابة (قد يكون وصف جمالها بـ«النادر» شططًا)، لكن مع الوقت تنحفر علامات التعب والإرهاق على وجهها. عادت وتختاريف إلى روسيا في عام 1906م، وأنجبت بعد فترةٍ وجيزة ابنًا سمياه ميشا، عندما كانت تبلغ من العمر قرابة الأربعين. غير أنَّه عقب ذلك تتحول القصة إلى قصةٍ حزينة، سرعان ما وقعت فريسة السل، وماتت قبل أشهر قلائل من اندلاع الحرب العالمية الأولى، وبعد فترة طويلة من علاج أبعدها عن زوجها وابنها. فيما أصبح تختاريف عالم اجتماع في معهد طب النفس-عصبي في جامعة سان بطرسبرغ تحت إدارة اختصاصي «علم المُنعكسات» المتفرد فلاديمير بختريف، إلى أن حُظِرت محاضراته في 1924م، سنة وفاة لينين، على الأرجح بسبب افتقارها إلى العقيدة الماركسية. بعد سنة، في 1925، توفي تختاريف نتيجة مرض التفوئيد.
من بين هذا الرباعي الثوري الذي جرى اعتقاله في أواسط العقد التاسع من القرن التاسع عشر واجتمعوا لاحقًا في لندن عام 1902م، لن يتجاوز أي منهم الخامسة والخمسين من العمر باستثناء كروبسكايا التي ماتت في موسكو في شباط/فبراير 1939م عن سبعين عامًا. لكن كروبسكايا تحتل موقعًا ثانويًّا في قصة هِندرسون؛ فسنواتها الأخيرة لا تستحق، على عكس يعقوبوفا، أي ملحق يخصص لها. من جهة، بُحِثَت صداقتها المبكرة مع يعقوبوفا وقطيعتها معها لاحقًا. ومن جهة أخرى، استُخدِمَت مذكراتها عن لينين كمجرد إطار، وبخلاف ذلك تظهر في الكتاب بشكلٍ خاطف تحت اسم «زوجة لينين المخلصة». وأشار هِندرسون إلى ما أُطلِق عليها من ألقابٍ بعيدة عن الإطراء (مثل «السمكة» و«الرنجة»، نتيجة أثر مرض الدراق الجحوظي على شكلها) مقتبسًا إياها من وصف فَارْس البارد لها في 1905م على أنَّها «امرأة تبلغ من العمر 32 عامًا، طويلة القامة، كستنائية الشعر، تطرف بعينيها، تعرُج قليلًا في مشيتها، ترتدي ثيابًا رمادية داكنة».
ليس جديدًا على كروبسكايا أنْ تحظى بهذه الصورة السلبية، سواء من معاصريها الثوريين وجواسيس الشرطة أو من المؤرخين اللاحقين. بل إنَّ تقريرًا كتبته الشرطة الروسية بعد سنوات قليلة على تقرير فَارْس (اقتبسه روبرت مكنيل، كاتب سيرة كروبسكايا الذاتية) يذهب أبعد في عدم الإطراء: «طويلة القوام، في حدود الأربعين من العمر، بشعرٍ كستنائي متوسط الطول، نحيلة الجسم، محدودبة الظهر، لها عينان رماديتان، وأنف صغير وشفتان رقيقتان. ومن ناحية الملبس، ليست مهندمة».
بينما نيكولاي فالينتينوف، وهو منشفي (من حزب المناشفة) التقى لينين بعد سنوات قليلة على مرحلة لندن واستشعر أنَّ كروبسكايا تستهجن صداقتهما، حكم عليها في كتابه «لقاءات مع لينين» بأنَّها «من الناحية الفكرية… مثلها مثل أي امرأة أخرى… وتنقصها الأنوثة»، مع ميلٍ إلى نطق الحقائق البدهية «بنبرة مديرة مدرسة».
وقد تناول ألكسندر سولجِنيتسين هذا الموضوع عارضًا وجهة نظره في كتابه «لينين في زيورخ» على لسان الراوي، إذْ يقول إنَّ لينين قد أصاب في إيثاره كروبسكايا على يعقوبوفا «الأكثر حيوية وجمالًا»، نظرًا لأنَّ «أفكارهما ومشاعرهما تطابقت حتى في أتفه المواضيع»، لكنه يشير لاحقًا إلى أنَّ محادثتها بدأت تضجره، «كانت ردودها، التي اكتست رسميةً مملة من الوضوح بحيث كانت تحصيل حاصل. فلم تكن جديدة ولا أصيلة».
تمثلت المشكلة مع كروبسكايا بالنسبة لأولئك الذين نشأوا مواطنين سوفييت، على شاكلة سولجِنتسين، في دورها أرملة القائد الفقيد وحاملة ذكراه، فشخصيتها كانت رزينة على نحوٍ رسمي ومضجر. أما بالنسبة للمؤرخين الغربيين، فلعل مشكلتهم الرئيسية معها أنَّها من بين أشهر ثلاث بلشفيات كانت الشخصية غير الفاتنة التي لم تلقِ بالًا للتحرر الجنسي، على النقيض من ألكسندرا كولونتاي وإنيسا آرمون (Inessa Armand)، عشيقة لينين في مرحلة لاحقة.
بطبيعة الحال، كانت كروبسكايا نسوية (حافظت على اسم عائلتها بعد زواجها، على عكس كولونتاي وآرمون)، غير أنَّ ما شغلها من قضايا نسائية بدا عاديًّا ومبتذلًا، قضايا مثل توفير حضانات لأبناء العاملات، ومدارس محو الأمية … إلخ. ولا ريب أنَّها عدَّت الجنس قضيةً بائخة، وهو نفس موقفها من قضية الشهرة. فحين أُجبِرَت في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين على مسامرة جورج برنارد شو والليدي آستور في زيارتهما لها، ارتدت أقدم فساتينها، وزعمت عدم وجود سكر في المنزل لتقديم الشاي، وتعمدت أن تكون فظة تجاه شو، عندئذٍ أعربَ، وقد صعقته عدائيتها، عن أمله في أن يكون لينين قد ترك لها ما يكفي لإعالتها.
من المؤكد أنَّ كروبسكايا لم تُعجَب في الغالب بالشخصيات المهمة، كذا الشخصيات المُعتدة بنفسها على وجه الخصوص؛ لذا أنزلت شو إلى جانب طائفة من الشخصيات تشمل ستالين وتروتسكي. بيد أنَّ الفظاظة، أو الطبع الحاد في أحسن الأحوال، شكَّلت نقطة قوتها، وأفادتها طوال مسيرتها كمعارضة عقب وفاة لينين. فقد سخرت من تروتسكي (وهو معارض أيضًا لكنه ينتمي إلى فريقٍ آخر) لترديده الترنيمة الجديدة «الحزب على حق دومًا»؛ لما رأت في هذا الترديد من حماقة. كذا أصبحت المعارِضة الوحيدة التي ترفض بحزم تقديمَ أي تنازلات تجعلها في موضع الخنوع، بالرغم مما سخَّره ستالين ضدها من ضغوطٍ خاصة ومضايقاتٍ عامة. إذًا، لنرجع إلى بداية قصة هِندرسون ونحاول قراءة شخصية كروبسكايا فيها آخذين في الاعتبار ما أسلفناه.
لم تُحِب كروبسكايا مدينة لندن. تعدد بعد لأي في كتابها «ذكريات مع لينين» – كتبته خلال ثلاثينيات القرن الماضي تحت الرقابة السوفييتية الدقيقة التي تسببت في إخفات صوتها نوعًا ما – ما أحبه لينين من أشياء في هذه المدينة. ورغم أنَّ العديد من هذه الأشياء قاما بها معًا، فإنَّها لا تقرن نفسها مع ما يحبه بل تنبئ عنه وحسب. فالضمير «نا» لا يظهر إلا في سياق الانطباعات السلبية: «علمنا القليل عن الاشتراكيين الإنكليز في موطنهم. الإنكليز شعب متحفظ…». كذا ظهر في سياق حديثها عن مالكات المنازل وعائلاتهن: «قُيِّض لنا أن ندرس بتمعن هذه النزعة المحافظة العميقة في حياة البرجوازية الصغيرة الإنكليزية». تورِد أيضًا: «اكتشفنا أنَّ وجبات ذيل الثور والسمك المقلي بالدهون والكعك العصي على الهضم ليست مُعدة للمَعدة الروسية».
ما من مدائح تكيلها للمتحف البريطاني، بل تأتي على ذكره بضع مرات على نحو عابر وغير مباشر، مثلًا أنَّ لينين لم يُحب الذهاب إلى المتاحف – «أعني المتاحف العادية، لا المتحف البريطاني حيث أمضى نصف وقته» – وحين أُجبِر (من الواضح أنَّ كروبسكايا أجبرته) على مغادرة قاعة القراءة وإلقاء نظرة على مقتنيات المتحف البريطاني من دروع العصور الوسطى والأواني المصرية، سرعان ما شعر بالسأم.
من المؤسف أنَّ هِندرسون لم يستطلع – أو أقله لم يخبر قراءه – إذا ما استخرجت كروبسكايا بطاقة قراءة من المتحف أم لا. فإذا افترضنا أنَّها لم تستخرج واحدة – خلافًا لكل الثوريين الروس، وفيهم يعقوبوفا – عندئذٍ سيظهر الاختلاف بين تجربة لينين للحياة في لندن وتجربة كروبسكايا بصورة جديدة كليًّا. فلغاية تاريخه، كانا إلى حدٍّ ما على قدم المساواة، بدايةً كثوريين ثم كمنفيين. في سان بطرسبرغ، حصلت كروبسكايا على وظيفة خاصة بها، حيث كانت تُدرِّس في مدرسة عمالية مسائية، ولم تفارقها روح هذه المهنة. ثم عالقة كمهاجرة في لندن، مع معرفة نظرية في اللغة الإنكليزية تبين أنَّها لا تنفع عمليًّا، واضطرت لأول مرة أنْ تكون ربة منزل، وهو ما لم تحبه سواء من حيث الممارسة أو المبدأ، كما لم تُجِده، وثمَّة إجماع عام على هذا.
وفيما يتعلق بالسفر، كتبت إلى أحدهم في روسيا عام 1901م حين كانت تبلغ الثانية والثلاثين: «ليحقق الشخص أقصى استفادة من السفر للخارج، فإنَّ عليه السفر حين يكون شابًّا ومهتمًا بكل شاردة وواردة»، (وفي الثانية والثلاثين من الواضح أنَّها لم تكن هذا الشخص في نظر نفسها). وكتبت إلى ماريا، شقيقة لينين، من لندن في عام 1902م قائلةً إنَّ «فولوديا (اسم تحبب كان يطلق على لينين في صغره) سوف يهتم حقًّا، على غرار ما يفعله دومًا»، بيد أنَّ هذا، كما ألمحت، راجع إلى طباعه الخاصة. من جانبها، أصبحت كروبسكايا «تنفر على نحوٍ غريب» من كتابة الرسائل لأنَّه ما من شيء مثير للاهتمام لتكتب عنه. لكنها كتبت إلى صديقة أخرى أنَّه مهما حدث إياكِ والسفر للخارج؛ فهذا أمر لن تتمناه لعدو. «إنَّ الأشخاص يذبلون بسرعة رهيبة. يأتي واحدهم مفعمًا بالحيوية، ويتحدث عن كل ما في الدنيا، لكن في غضون شهرين تنضب منه هذه الروح».
غير أنَّ هذا لا يسري على لينين بطبيعة الحال، ثم أتت علاقته مع المتحف البريطاني. «في الغالب، كان يذهب إلى هناك صباحًا بداية الأمر، فيما مارتوف –يوليوس مارتوف، وكان يدير الإيسكرا مع لينين– وأنا كنا نذهب معًا إلى البريد». بهذه الطريقة، كتبت في «ذكريات مع لينين»: «كان (فلاديمير إيليش- لينين) متحررًا من كل الروتين الممل».
ليس الأمر أنَّ كروبسكايا لم تُحِب لندن فحسب، بل لا بد أنَّها لم تُحِب المتحف البريطاني تحديدًا. فالطبعة السوفييتية من أعمالها البيداغوجية (التربوية) الواقعة في 11 مجلدًا تتضمن مجلدًا من 700 صفحة حول المكتبات لا يُذكر فيه المتحف البريطاني سوى مرة يتيمة في مقالةٍ عن «عمل لينين في المكتبات»، حيث تكرر جملتها الواردة في «ذكريات مع لينين» عن قضائه «نصف وقته» هناك. أما هي فكانت أكثر تقبلًا لنظام المكتبات العامة الأمريكي (عرَفَته بطريقة غير مباشرة)، وقد كتبت بحماسة عن عملـ«ـنا» في المكتبات العامة السويسرية، وعلى الأخص مكتبة زيورخ. أجل، عملـ«ـنا». ها هو الضمير «نا» يظهر مجددًا، في سردها لعملها وعمل لينين في المكتبة السويسرية. كان كل منهما يعمل في مشاريعه البحثية في مكتبة مدينة زيورخ عندما اندلعت الثورة في شباط/فبراير 1917م. وحين جاءت الفرصة أخيرًا للعودة في نيسان/أبريل، بفضل «القطار السري» الألماني، كان أمام كروبسكا ساعتين لتوضيب أغراض المنزل والدفع لصاحبة المكان و«إعادة الكتب إلى المكتبة».
على عكس لينين الذي زوَّد المتحف البريطاني بنسخٍ من أعماله، لم تقدم كروبسكايا أيًّا من أعمالها، وفي ذلك «ذكريات مع لينين». وقد يكون هِندرسون محقًّا في قوله إنَّ كروبسكايا قد حملت ضغينة نحو يعقوبوفا بسبب تعلق لينين بها سابقًا. بيد أنَّ ذلك التعلق، حتى بحسب هِندرسون، كان أقل بكثير من تعلقه بالمتحف البريطاني. هكذا، فإنَّ لدى كروبسكايا التي اتسم نفورها بالحِدة والتصلب – وإنْ عبَّرت عنه على نحوٍ غير مباشر – وكانت تنظر إلى حماسة لينين بقدرٍ معقول من الشك، دافعٌ أكبر للنفور من المتحف البريطاني مقارنة بنفورها من يعقوبوفا وصاحبات المنازل الإنكليزيات. في الواقع، لربما كان هذا النفور متبادلًا. يستشهد هِندرسون أحيانًا بطبعة عام 1930م من كتاب «ذكريات مع لينين» المكتوب باللغة الروسية، لا بالطبعة السوفييتية الكاملة لأعمالها والصادرة عام 1957م. ومن المفترض أنَّ ذلك يرجع إلى اشتغاله على ما توفره المكتبة البريطانية من مواد، والتي قَصُرَت عن تأمين نسخةٍ من هذه الطبعة، لكونها لا تتوافق مع معايير الاستحواذ الشامل الرفيعة حسبما أشار إليها لينين.