فيلم «إخوة ليلى»: عن رباط عائلي غير مقدس
لم ينتهِ الجدل الذي سببه الفيلم الإيراني «إخوة ليلى» منذ عرضه للمرة الأولى في مهرجان «كان» في خواتيم عام 2022. ففي أغسطس الماضي قضت إحدى المحاكم المختصة في إيران بأن يخضع المخرج الإيراني سعيد روستايي لعقوبة تأديبية لتهريبه فيلم «إخوة ليلى» إلى مهرجاني «كان» و«ميونيخ» دون الحصول على إذن من الجهات المُختصة، ودون إضافة المشاهد وقصقصة المشاهد التي أمرت بها الرقابة. تلك العقوبة التي ستجعل «روستايي» يقضي دورة تدريبية مدتها ستة أشهر في أحد المعاهد السينمائية لإعادة تلقينه وتعليمه من جديد مبادئ السينما الإيرانية.
سيكون من الغريب فعلًا إن كان مر الفيلم من دون أن يُنكل بروستايي، ففي إيران، تحفل السينما بكثير من هذه الشواهد منذ إقامة الجمهورية الإسلامية، التي تمر أحيانًا بفترات انفتاح على النقد الذاتي المجتمعي، ولكن فترات الانغلاق هي السياسة السائدة خصيصًا إذا تعلق الفيلم بصفعة تُوجه إلى المجتمع وتقوض أركانه، فـ«إخوة ليلى» وليلى ذاتها هم أبناء لأب وأم ارتكبا الزنا في مرحلة ما في حياتهما السابقة، وتدور حياتهم جميعًا في إطار العلاقات العشائرية العُرفية المتشددة، وفي خلفية كل تلك الأحداث التي تتابع نرى الريال الإيراني مستقرًا أو مواصلًا هبوطه أمام الدولار الأمريكي تبعًا للسياسة الخارجية الأمريكية تجاه دولة إيران التي تعدها مارقة، ليشكل بذلك المؤثر الرئيسي على حياة أسرة «إسماعيل جورابلو» الأب الطاعن في السن، الذي بابنته إلى حد أن تصفعه على وجهه في مشهدٍ كاشفٍ وشديد القسوة في تعرية علاقة «ليلى» بأسرتها الصغيرة.
الذكورة الجريحة دومًا
أعتبر نفسي مشاهدًا متحمسًا لسينما المخرج الأيرلندي مارتن ماكدونا وأكثر ما يلفت انتباهي في سينما ذاك العبقري هو أنه يقيم جسرًا بين جميع أفلامه تتمثل في أنه يكتب أفلامه ويخرجها لنفسه، و«كاست» متكرر يعبر من فيلم لآخر ومن قصة لأخرى، لذلك فحينما تشاهد «ماكدونا» أنت لا تستمتع فقط بالفيلم من ناحية أركانه السينمائية المتكاملة فإضافة لذلك تجد أن للفيلم روحًا مجردة عن قصته وأحداثه وإنما فقط تتعلق بالـ«هارموني» التي تخرج من أداء ممثليه، فذلك الكاست قد حفظ بعضه مثل فريق كرة القدم مُعقد التنظيم، لذلك فلا يمكن مشاهدة قصص عن الأسرة أو الصداقة أو الحب في أفلام ماكدونا دون أن تُسقطها على علاقة ممثليه ببعضهم في الواقع، وهو ما يجعل هناك حميمية كبرى في الأداء التمثيلي. هذان الملمحان حاضران في سينما «روستايي» ففي مشواره القصير ذي الثلاثة أفلام كمخرج أفلام روائية طويلة التي كان أولها في عام 2016 من خلال فيلم «الحياة ويوم» مرورًا بفيلمه الأفضل «قانون طهران» ونهاية إلى «ليلى وإخوتها» نجد أن روستايي كتبهم وأخرجهم جميعًا مستعينًا بوجوه متكررة من نخبة ممثلي إيران هم «بايمان مادي» و«نافيد محمدزاده» إضافة لـ«فرهاد أصلاني» و«محمد علي محمدي» وفي فيلم «إخوة ليلى» تعطي تلك العِشرة السينمائية، إن جاز أن نسميها كذلك بين هؤلاء الذكور الأربعة، الدفقة الشعورية الأهم لمشاعر الأخُوة المركبة التي يتشكل منها الجو العام للفيلم.
في مرحاض الـ«مول» نقف عند الوظيفة الحالية للأخ الأكبر «بارفيز» كمنظف، الذي يعاني مع شرب الكحول والوزن الزائد وجوع مماثل لإنجاب الأطفال المساكين الذين لم يعد قادرًا على أن يكفيهم من قوت يومهم، فيضطر إلى سرقة بعض الطعام من منزل أبيه وابتزاز السادة الذين يدخلون لقضاء حاجاتهم في المرحاض لأجل البقشيش في مشاهد هزلية مأساوية. وبينما تخطى الثلاثين من العمر وما زال أعزب، ما زالت اهتمامات «فرهاد» في الحياة لا تتعدى بنيانه الجسدي القوي ومباريات المصارعة الحرة التي يشاهدها مع والدته، ويختبئ ذلك الهوس بالقوة والعنف شخصية ضعيفة وهشة تمامًا لا يبدو أن لها قرارًا محوريًا أو مهمًا في بيت «إسماعيل جورابلو» ولا تستطيع أن تحافظ لنفسها على وظيفة. ويبدو للوهلة الأولى أن «منوشهر» هو الأخ الأنجح في تلك الأسرة، ولكن خلف تلك الأبُهة التي يظهر بها «منوشهر» يقف نصابًا من النوع الفاشل الذي يجد نفسه خاسرًا على الدوام رغم أنه لجأ للنصب من أجل الكسب السريع، فلقد تفككت علاقته بزوجته وفقد ابنه وتنازل عن نصف شقته من أجل النفقة كما أنه يتنقل داخل البلاد وخارجها طولًا وعرضًا بجواز سفر أخيه «فرهاد» لأنه فقد جوازه في واحدة من عمليات نصبه الفاشلة. أما «علي رزه» ورغم أنه ليس الأكبر، إلا أنه يبدو أنه كان الأكثر نجاحًا واستقرارًا في إخوته غير أن «روستايي» قرر أن يبدأ فيلمه بمشهد عن إخلاء لأحد المصانع وتشريد عمالها بقوة الشرطة القامعة دون الحصول على أجورهم، ولسوء الحظ كان «علي رزه» واحدًا منهم، الذي فقد حاضره ومستقبله بين ليلة وضحاها. وعملًا بالمثل الشهير «إذا كان رب البيت بالدف ضاربًا، فشيمة أهل بيته الرقص» يقف «إسماعيل بوراجلو» الأب وكأنه تجسيد متكامل للذكورة الجريحة والكرامة المستباحة وسذاجة لا تتناسب مع شيبة رأسه ولكنها تكبر معه منذ الصغر منذ أن نُصب عليه من عائلته، وتلبس نمط حياة لا يستطيع أن يجاريه وعشيرة من الأبناء وراءه دون أن يترك لهم شيئًا واحدًا يجعلهم يترحمون عليه عند موته، حيث بدد أمواله الزهيدة أساسًا على تعاطي الأفيون، مجسدًا كل مساوئ أبنائه الذكور الأربعة.
سواعد «ليلى» الهزيلة
وتنحني «ليلى» بظهرها الذي تعاني من آلامه المزمنة التي تطلب صدمات كهربائية مُبكية، في الأربعين من عمرها، دون زوج أو حبيب بعد أن تسبب أبوها بفجاجته في صرف حب عمرها عنها، بالإضافة إلى عداوة كانت من المفترض أن تكون حبًا بينها وبين أمها، لتشاهد بعينٍ دامعة تلك الشخصيات مثيرة الشفقة تتحرك في «صندوق الدنيا» ولكن في عرض لا يحرض على البهجة إطلاقًا، كما أن مأساتها هي أنها لا تستطيع أن تكتفي بالفُرجة.
في طهران وفي كل ربوع إيران ليس للريال الإيراني أي قيمة، لذلك يُقدس الناس عملاتهم الذهبية التي يُمكن تقديرها وفقًا لسعر الذهب ومتغيرات الدولار عند بيعها، ويُهادي الأشخاص في المناسبات الكبرى بعضهم بعملاتٍ مزايدين على أنفسهم أيهم يدفع أكثر، ولرب كل عشيرة النصيب الأكبر من الاحترام والكلمة النافذة، ولكن، هذا لا يُقدر له دون مظاهر عليه الالتزام بها وأولها أن يكون مُهديًا لأكبر عدد من العملات الذهبية في الأفراح مثلًا، وحين يموت رب عشيرة «بوراجلو» نجد إسماعيل يدخل في منافسة محمومة مع إحدى العجائز للحصول على ذلك المنصب الذي سيكفل له مكانة تعوضه عن عمٍر من الانسحاق والنبذ من عشيرته تلك بالتحديد، لذلك يتعين على «إسماعيل» أن يدفع 40 عملة ذهبية لقاء أن يحوذ الاحترام والمكانة.
رغم ذلك لا يتملك اليأس «ليلى» بينما تتداعى الأشياء والأشخاص من حولها، فهي تحاول أن تُنفذ خطة طموحة بإمكانها أن تنقذ إخوتها الأربع من الضياع، حيث تأمل أن تتوسط لهم بحكم استقرار وظيفتها ومعرفتها بالأشخاص اللازمين في أن تشتري محلًا بسيطًا في أحد المولات التجارية الذي بإمكانه أن يقيم حياتهم إذا حصلوا عليه نظرًا لمكانه الممتاز. وبينما تجد أنها لا تقدر وإخوتها جمع مبلغًا مقدمًا للحصول على قرض، تجد أن خطتها اصطدمت بعملات أبيها الأربعين ليتفجر الحدث انفجارًا شكسبيريًا حيث تصطدم ليلى بأبيها «الملك لير» المُخرف المتهافت على العظمة ونيل إعجاب الآخرين، غير أن ليس له مُلكًا يوزعه لأولاده غير عملاته التي يبددها.
في ظل ذلك الصراع، برعت الممثلة «تيرانة علي دوستي» في تجسيد ليلى بوجهيها، حيث وجه أنهكه التعب والشقاء، ووجه يكاد يكون شيطانيًا عند الغضب من تلك الأسرة التي لا يوجد فيها رجلٌ رشيد ولم تعرف سوى الاستهتار والفشل، لذلك تطلب حياة تلك الأسرة ذلك التدخل من ليلى بقرارتها الجريئة وخططها التي قد تتمادى في تنفيذها إلى خداعهم أجمعين. ولكن ذلك لا يعني أن ليلى في فيلم روستايي هي نبراس الحق، فهي أيضًا لا تمتلك اليقين الكامل، ولا تمتلك سوى جرأة المجازفة والرهان، فهل يمكن لهؤلاء الأخُوة حقًا أن يديروا مشروعًا؟ هل يمكنهم أن يديروا شيئًا غير تدمير ممنهج لحيواتهم؟ هكذا تتساءل. و«ليلى» هنا حقيقية ومن لحم ودم إلى درجة كبرى كاشفة ومُعرية لمن يمرون بحكاوى مماثلة قد لا تُقال للأغراب عن أسرار البيوت، بخاصة البيوت الكئيبة والمظُلمة، فهي تقوم بعديد من الأفعال التي تضع المشاهد في صدمة قد تفقده تعاطفه معها فهي تتمنى لوالديها الموت لفرط ما احتملتهما بمساوئهما، كما أنها تصفع أبوها العجوز حين يتمادى في إهانتها وجحود فضلها، وتُعاير أمها في بعض الأحيان بماضيها ورذيلتها الكبرى، ولكن لا تبدو كل تلك التصرفات نابعة من شخصية تكره إخوتها وأهلها، ففي مشهد من دزينة المشاهد المُنهكة عاطفيًا في هذا الفيلم، تتساقط دموع ليلى بينما تتوسل لأخيها «علي رزه» أن يفعل شيئًا معها من أجل إخوتهم وأبواهما.
الرقص والموت
في سينما «روستايي» توجد حدود للقتامة دائمًا كلما ارتفعت واقتربت أن تجعل المشاهد يشعر بضيقٍ شديد قد يجعله لا يُكمل الفيلم، ففي «قانون طهران» بينما كان «ناصر خاكازادا» يلتقي بعائلته للمرة الأخيرة قبل إعدامه يترقرق المشهد ويلين بطلب ناصر من ابن أخته الصغير بأن يؤدي له بعضًا من الحركات الجمبازية التي تعلمها، ليبتسم ناصر ويضحك من أعماق قلبه متناسيًا مأساته للحظات. هكذا أيضًا الحال في «إخوة ليلى» فالمشهد الخادع للفرح على «بوستر» الفيلم هو لحظة الاتزان في الفيلم التي تجعل أسرة «بوراجلو» متحابة للحظات خالصة من الفرح والأخوة والامتنان والتقدير للأب الكبير، ففي تلك الدراما العائلية الكبرى لم يفت «روستايي» أن يُطعمها بروح «كوبولا» في سلسلة «العراب» حيث تشكل الأفراح هدُنة لكل الشخصيات وفرصة لإظهار كل المشاعر التي طحنتها المطامح الشخصية وضعف النفوس.
وفي نهاية تلك التجربة المُكثفة في مأساويتها وخيبات أملها، يقرر «روستايي» أن يُربك مشاعرنا إلى أقصى ما يكون الإرباك، حيث يرقص «علي رزه» في عيد ميلاد ابنة أخيه «بارفيز» بينما تمتلئ عيونه بالدموع ويضيق صدره تحت رشاش ثلج أعياد الميلاد الذي يضفي البهجة على حدث لا يليق به سوى الحزن والحداد. وتشاهد «ليلى» الحدث كله بعيون زائغة غير متيقنة مما يمكنها أن تفعله كالعادة، كما وأنها تختار أخيرًا ألا تفعل شيئًا! يحاول «روستايي» دائمًا أن يقول شيئًا عن إيران في أفلامه ولو من خلال قصة المصاعب التي لا تعد ولا تحصى لعائلة واحدة فقط، هم «إخوة ليلى».