مسلسل «ليه لأ 3»: متى يتحول الفن إلى تلقين؟
عرض، أخيراً، على منصة شاهد مسلسل «ليه لأ» بجزئه الثالث، بعد نجاح كبير لجزأيه السابقين: الأول مع بعض النقد والغضب الجماعي المحافظ، والثاني خلق خطابًا موازيًا للخطاب السائد في ما يخص تبني الأطفال في مصر، كما أثار بعض الرغبة في تغيير القوانين وتطبيع ما هو مرفوض دينيًا واجتماعيًا، في نسخته الجديد يناقش ليه لأ قضية أو افتراض مثل عادة السلسلة، فهي تركز على قضية لها مسمى وتفاصيل واضحة غالبًا ما تخص المرأة، تتولى ورشة سرد تحت إشراف مريم نعوم الكتابة ويتغير المخرجين والمخرجات حسب المسلسل.
تولت إخراج الجزء الثالث نادين خان التي رسخت اسمًا لها في الأعمال السينمائية والتلفزيونية بعيدًا حتى عن مقارنتها بأبيها محمد خان، حددت لنفسها أسلوبًا متمهلًا ومراقبًا يلائم طبيعة العمل الذي تولت إخراجه هذه المرة، لكن المزيج بين كتابة ورشة سرد التخطيطية المعدة مسبقًا وإخراج خان المتمهل جعل «ليه لا 3» تجربة مختلطة لا تعلم ماهيتها، فهي لا ترتفع لتكون تجربة تلفزيونية تأملية ولا عمل توعويًا مباشرًا، يجمع العمل بين الاثنين في نتيجة لا ترضي من يرغب في التسلية ولا تخلق خطابًا محتدمًا متوقعًا عن الموضوع المتناول نظرًا لعدم احتواء العمل شكليًا على ما يجعله إثاريًا.
انقلاب موازين القوى
يتناول مسلسل «ليه لأ» قصة عائلية بسيطة، تركز على امراة وأم تدعى شيرى (نيلي كريم) منفصلة عن زوجها وتعيش مع ولديها: ياسين (معتز هشام) في بداية عمر الجامعة وياسمين (فريدة رجب) على وشك الانتهاء من الدراسة، تقع شيري في حب كريم (أحمد طارق) بعد سنوات من استقرارها في حياة الأم العزباء، لكنها تخفي علاقتها عن ولديها بخاصة ابنها الذي طورت هوسًا ارتباطيًا به وطور مثله هو بها، وفي الوقت ذاته تتعامل مع ابنتها بإهمال وتجاهل واضحين، يجعل موافقتها من عدمها مسألة جانبية، يلخص ذلك الوصف العمل بأكمله، يتم مد الفرضية على مدار الحلقات حتى تصبح المشاهدة عملية تتطلب صبرًا كبيرًا، تتلخص الصراعات كل حلقة في خلاف بين شيري وياسين يتطور إلى خلاف بين شيري وكريم، بينما ينحدر ياسين إلى حياة مليئة بأصدقاء السوء النمطيين لأن أمه رفضت تدفئة غذائه في المايكروويف.
يكمن الصراع الرئيسي في التوتر بين ياسين ووالدته بسبب تربيتها له، ذلك التوتر الفرويدي الذي يجعلها بالنسبة له أكثر من مجرد أم بل امراة يجب تملكها والانفراد بها دون رجل آخر على الأقل غير والده، والعكس صحيح كذلك، تتجمع كل قوة العمل في أداء نيلي كريم في لحظات الخوف من ابنها، ففي علاقتهما تنقلب موازين القوى التقليدية بين الأم والابن، يملك الولد الذي يعتبر مراهقًا اليد العليا في العلاقة، مما يجعل والدته عاجزة عن إغضابه فهي تتحرك دائمًا نحو إرضائه بينما العكس هو الرائج، في تحليل واقعي وحساس لذكورية غائرة ومدفونة في كثير من الأمهات اللاتي يطورن هوسًا بأولادهن وتجاهل لبناتهن، مما يخلق انعدام توازن مبنيًا على النوع.
الحلول السحرية
تقارب نادين خان العمل بأساليبها التأملية والمراقبة وتميل للتسكع مع الشخصيات، تتبعهم حول مساحتهم الخاصة وتبحث في وجوههم عما يتحدث عنهم دون أن يتحدثوا، لكن في ذلك النوع من الأعمال يتحول تأثير ذلك الأسلوب الشعري إلى اجترار في انتظار الانتهاء، لأن الوسيط التلفزيوني عكس السينمائي يعتمد بشكل كبير على الأحداث وتلاحقها والمسلسل لا يوفر كثيرًا من الأحداث اليومية التي تتطلب مساحة بينها للتأمل أو لترك الشخصيات للراحة، بل إن ميل العمل للبطء يجعل طبيعته التأملية عبئًا عليه، كما أن الشخصيات وعلى عكس شخصية مثل أبو صدام في الفيلم الذي أخرجته خان على سبيل المثال ليست مثيرة للاهتمام كفاية لكي يتم التسكع معها بهدوء، لا يصدر عن شخصيات ليه لأ تصرفات مفاجئة، الكل يتصرف مثل ما يتوقع له من خلال علم النفس الشعبي، وتعتمد الحركة الحقيقية على العوامل الخارجية دون مساحة للتأمل في الصراعات الداخلية.
تعيش أسرة شيري في جنة من التناغم تستثني منها ابنتها، ويهز استقرار تلك الجنة تدخل غريب بينهما، يترتب على ذلك الاضطراب عواقب وردود أفعال تظهر وكأنها نصف مكتوبة أو مكتوبة وصفيًا دون التفكير في ترجمتها بصريًا ودراميًا، بخاصة في جانب انحدار ياسين باتجاه أصدقاء جدد يعرفونه على الحياة في الجانب الآخر ويخرجونه من البراءة إلى النضوج من وجهة نظرهم، تلعب تلك المشاهد على غرار مسلسلات بداية الألفية التحذيرية من المخدرات والنساء وأصدقاء السوء، ينجرف ياسين مع لمعة هؤلاء الجدد، بإرشاد من شاب وسيم (يوسف عمر) يعرفه على الحياة الليلة في الحانات واستهلاك المواد المخدرة والمسكرة، بسببه سوف يعامل صديقه المقرب (مروان وليد) الذي يقدم باعتباره شابًا مؤدبًا خجول مهتم بالدراسة ومشاهدة الانيمي دون مقدمات أو تفاصيل دقيقة، سيتركه وكأن العمل يلعب كفيلم رسوم متحركة تنتقل به الشخصيات من حال إلى حال فجأة لأن السيناريو قرر ذلك، ينتج عن ذلك شخصيات لا تعيش في عالمها الخاص، بل تعيش على ورق مكتوب مما يصعب التوحد معها في إطار غير إطار التأمل النظري في النتائج النفسية المدروسة لفعل ما.
تمتد تلك الصلابة الكتابية والحلول المفاجئة لشخصية ياسمين، كعادة الأعمال التي تحمل اسم ورشة سرد تجد حلًا عمليًا وسحريًا لمشاكلها في مؤسسة ما أو مسابقة دولية، تحدث الأمور بسلاسة خيالية دائمًا ما تصطدم برغبة تلك الأعمال في تقديم شكل واقعي عن حيوات طبقة عليا أو متوسطة والصراعات الأسرية والشخصية النابعة من تفاصيل تلك الطبقة، تجد ياسمين ضالتها وفرصتها للنجاة من منزل لا يحتويها في فرصة عمل خارج مصر في الإمارات كمضيفة طيران على الرغم من عدم امتلاكها أي خبرة غير في العمل في أحد المحلات وكونها ما زالت طالبة، تتكرر تلك الحلول الإلهية في أعمال الورشة سواء كحلول للهروب من المكان أو حلول للتعافي من جرح ما، دائمًا هناك إنقاذ مؤسسي خاص يعمل بشكل سحري لصالح الأبطال أو يسعون إليه كبارقة أمل قبل أن يتعقد طريقهم.
التخطيط المفرط
تتكرر في كتابات الورشة كذلك سمة تم تلافيها بشكل كبير في مسلسل الهرشة السابعة هي التخطيط الشديد، في تلك الأعمال لا توجد مشاهد عفوية، لا توجد أحداث أو لقاءات أو جمل حوارية لا تقع في مكانها لخدمة سردية كبرى عن قضية ما، كل ما يتلفظ به الأبطال ميكانيكي تمامًا لإيصال معلومة أو لإكمال الفكرة، يتجلى ذلك في هذا الجزء «من ليه لأ» أكثر من أي عمل آخر بخاصة في اعتماده على الكشف الحواري بشكل مكثف، فبناء كل حلقة يعتمد على وقوع خلاف يسارع بعده أحد الشخصيات لسرده على شخصية أخرى، تلك الشخصيات الأخرى هم أصدقاء وشخصيات ثانوية ذات صراعات خاصة تعكس صراعات الأبطال الشخصية، لكن يكمن دورهم الرئيسي في تفسير وتحليل ما تمر به الشخصية الرئيسية عن طريق النصائح أو «حوار المعالجين» therapy talk.
نجد مثلًا شخصية نوشكا (نادين) التي تعمل مدربة يوجا تتلفظ بنصائح لا تطبقها في حياتها لكن دائمًا ما تقع جملها بشكل منظم ومنسق ومعد سلفًا لإيصال معلومات وأفكار تتعلق بالرجال والنساء والتربية، يصعب إيجاد موقف حواري ما ولقاء بين شخصيتين يمكن وصفه بـ الإنساني، غياب الإنسانية والعقوبة تلك يجعل العمل تخطيطيًا schematic ذا نوايا مسبقة تتعلق بالتلقين وخلق الخطاب الجماهيري، من دون الاهتمام بما يجعل عملًا فنيًا ما مؤثرًا بشكل حقيقي وليس نظريًا أو جافًا، بالطبع تفلت بعض اللحظات بإنسانية حقيقية بسبب أداء الممثلين أو صدق لحظة ما كتابيًا لكن يسيطر التخطيط الجاف على العمل ويجعله صلبًا وبعيدًا، ويجعل التورط مع شخصياته صعب عاطفيًا وتستحيل الشخصيات نماذج دراسية، نتعلم منها مخاطر تفضيل الأبناء على البنات أو التفريق بين معاملة الأب الأعزب والأم العزباء، لا توجد شخصية دائرية ذات تعقيدات إنسانية بل بديل إنساني عن فكرة نظرية.
تسلط سلسلة «ليه لأ» مع كل جزء لها على قضية نسائية وغالبًا نسوية ما، يترتب عليها حوار شعبي يجعل ما كان مسكوتًا عنه مسموع بشكل أكبر، لكنها تتخذ منحى توعويًا يتجاهل الهدف الرئيسي من الدراما والمحتوى المرئي، وعلى الرغم من نبل أهدافها فإنها تركز غالبًا على طبقات محدودة ومشاكل نسائية محدودة وتكرر ذلك مع كل جزء مما يجعل تأثيرها أكثر خفوتًا يومًا بعد يوم.