الإجرام المشروع: قطعة من مذكرات الشيطان
في صباح يومٍ شديد الحرارة انتابتني إغماءة ما، استشعرت أنني لا أرى شيئًا سوى قطرات العرق التي تُغرِق عينيّ، حاولت أن أقاوم كي أفيق إلا أن للإنهاك سطوة لا يمكن لأحد أن يقاومها، غمرتني لفحة من لهب بطول ذراعي الأيمن، عقلي المستعمر من كابوسه الأسوأ يراني غاضبًا، أقرأ وأصرخ، أستجدي المنطق، إلا أنني أراه مكبلًا، ولا سطوة سوى للكلمات الدنيئة من تلك المذكرات، قليلًا قليلًا لا أجد سطورًا ولا كلماتٍ، إنما محض صوت مُنفِّر يتعالى، أصرخ بين الجملة والجملة، فتتوه كلماتي فيما يُقال.
كان مُفتتحها إهداء منه لمعاونيه، رسالة للمدافعين عن تابعيه، خمس خطوات ساحرة، تستطيع دومًا أن تقلب الحق زورًا، وتُشعّب الطرق، نتوه بينها، ونضل الطريق، ما أيسر ضياعنا إن كان في خطواتٍ خمس.
أولًا: الجاني ملاك
تحدث عن الجاني بطريقة شديدة الرومانسية، صوّر ملامحه الحياتية وتصرفاته بشكل رقيق، عمّق خيالات انهياره، نفسيته المحطمة، مستقبله المُهشَّم، قربه من الانتحار، وكأنه ملاك أو نبي لا كرامة له في أرضه، تجنّى عليه القاصي والداني، فأودعوه قفص الاتهام بدون ذنب أو خطأ منه.
أو استخدم الأسلوب الأسهل «لقد أخطأ… لكن ستره واجب»، لتشوّه كل تلك القواعد بأن الستر من الله بين العبد وربه، ومزّق كل ما يدل على أن الستر بين العبد وربه في حق غيره موقوف على حق العباد. اهرب من حقيقة أن حق العبد لا يُستوفى إلا بالجزاء، مُستدعيًا نصوص العفو وكأنها المسار الوحيد. صوّره دائمًا كأنه مستحق له، فهو صغيرنا الذي نرجو بقاءه.
وأمّا الكلام عن ميزان العدل فعليك أن تجعلهم يتناسوه تمامًا، الشرور كثيرة، فلماذا هو؟ قل كل ما يمكنك قوله، المهم أن تجد ذريعتك لغلق الأفواه. هذا الصمت هو فرصتك الكبرى للإغواء، ضمان استمرار دائرة الجريمة في عالم شيطاني صنعته بيدي، لا أجمل من خطيئة غير مُعاقب عليها، وأجدر صور اللا عقاب صمت تغاضى فاستمر.
ثانيًا: شيطنة المجني عليهن
الستر والملائكية التي تسبغها ثوب مخصص لمقاس الجاني وحده، عليك أن تنتهج الأسلوب المعاكس مع الضحايا، فكلامك السابق لا ينهرك بل يدفعك للطعن في أخلاق وتصرفات وقيم ونوايا المجني عليهن. وطّد مخالب أفكارك في أنهن من جلبن هذا الانتهاك علة أنفسهم، أفعالهن هي السبب، حقرهن بشكل مستمر ودائم، اغمط الحق بمنتهى الكبر، وادفن حقيقة أن أفعالهن حق مشروع، واطمس كل ما يدل على أن الاعتداء والجريمة لا تنشأ إلا بالتدخل الإيجابي للجاني بفعله وحده، اقطع نسب الجريمة وليدة المجرم وألصقها بهن.
واحذر من حديث هؤلاء الذين يتحدثون عن أن الله أفاض عليه من ستره في المرة الأولى ولكنه كرر بكائياته على جدار رجس، ولم يفلح العفو الصامت في أن يعدل عن جرائمه التي لا تحصى.
تدثر بهذه الشيطنة في كل حديث، ستساعدك أن تمنحهم لذة النوم غارقًا في وهم الأمان، أنه لن يصبح أبدًا مكان هؤلاء الضحايا، لأنهن قمن ما بما لم يقم هو به، اجعله ينسى تمامًا أن جل ما ارتكبنه ليس سوى قدومهن للحياة وعيشها بالطريقة التي تناسبهن.
اجعل هذه الحقوق بغاءً، وصِف رغبتهن في الحياة فجورًا، شياطين يريدون أن يلصقوا جريرتهم بملاكنا الحاني البريء، يا لهم من أوغاد!
ثالثًا: الحقيقة غارقة، فلا تمد لها يدًا
الحقيقة واحدة لا تتجزأ، نعلمها نحن يقينًا بما نتجسسه على أبواب السماء، إلا أن الإنسان عاجز بطبعه، لا يرى كل شيء، وهذه نقطة ضعفه الأكبر، وميزتي الكبرى، وفرصته الكامنة في ألا يرى ما لا يريد أن يراه، غير أن ثغرتين قد يقوِّضان كل شيء.
هذه ورقتك الرابحة، طريقتك المثلى لتهاجم مكمن الضعف عوضًا أن تكتفي بالدفاع، أوهمهم ألا أحد يعلم الحقيقة، إنها غارقة هناك في النوايا، اصطنع حيادك الزائف، أخبرهم أن الحساب ليس مقررًا بيدنا، لسنا جهات تحقيق.
اخفِ حقيقة ألا أحد يضحي بكرامته في سبيل ادعاء يراه الجميع مهينًا، لا تخبرهم أن الأمر جلل، قصة قصيرة ستختفي، زلزل كيانهم بالهجوم المستمر، ضعهم موضع الجاني، تلاعب بعقولهم، من نحن لنحكم؟ لننتظر وننتظر، الانتظار مخيب للآمال، والهدوء يتيح لنا الفرصة في إغراق الشك بمزيدِ من الشك، حتى يتلاشى الأمر تمامًا. غير أن حدس الإنسان واستشرافه لعنتنا الكبرى وتلك الثغرة الأولى.
قدرته على التعاطف والدعم لما يراه واجبًا يقوّض تلاعبنا، ولا شيء يمكّننا من تجاوز ذلك قدر رصيدنا المستمر، تشويه داخله، إغراقه في بحرٍ من الكذب ولا شيء كفيل بذلك قدر التشويه الذي مارسناه كثيرًا، إلا أن قدرته على الاستنتاج تستفيق أحيانًا من البعض فتؤرق ما نبذله وتلك الثغرة الثانية وطامتنا الكبرى، اللحظة التي يمسك فيها لجامك طالبًا «ادعم البحث، طالب بالتحقيق، كن صادقًا فيما تبديه»، تلك هي اللحظة القاصمة التي تحيل حقنة الانتظار لمضاد لها، ولا شيء هنا أجدى من اللا مبالاة، ولا شيء يعزز اللا مبالاة قدر الاستهانة، من أنا لأدعم؟ هل دعمي هو الذي سيحدد مصير الأمور؟ من يريد الشكوى فليفعل، لماذا لا يتوجه الآخرون للشكوى؟ كرر هذه الأسئلة في كل وقت وحين، فملائكية الجاني وشيطنة الضحية كفيلان أن يقصما الإجابة في مهدها، لا تقلق، كل شيء مُعَد، هذا نتاج تاريخٍ طويل.
رابعًا: كلنا مذنبون
منذ الخطيئة الأولى التي انتصرت فيها نصري الأعظم، والإنسان يشعر بالخزي والعار، نقصه مُعجِز لأمنياته، وهذا النقص يجعله خطّاء، وتلك هي اللحظة التي ستحيل هجومك كدرع بديل عن دفاعك، لهجوم لأجل الهجوم، ستكرر ما يقوله الصالحون عادةً، لكن التوقيت والسياق كفيلين أن يجعلا من سلاحهم الأجمل، سوط يمزق ظهورهم، عليك أن تخلط بين ما ينصح الصالحون بفعله وبين ما نرتكبه نحن أو صغارنا بإيعازٍ منا، عليك أن تساوي بين ما يقومون به لأجل المزيد من الأمان والحرص، ما يدعون أنه الحياة السعيدة كمفاهيم تربيتهم الحمقاء والتواصل بين بعضهم البعض، وأن نقص الأمان مؤدٍ لنتائج صارخة، نصائح لعينة لا نطيقها، لكن تركيزك على تلك النقاط في ذلك التوقيت سيمكنك من أن تتغلغل في نفوسهم، أن تتمكن من لوم ضحاياهم.
هذا الخلط سيُساوي بين ما فعله الجاني على حد وصفهم، وما لم يفعلوه هم، ستستطيع أن تُشعِرهم أن ذلك هو السبب، استمر صائحًا بأن «كلنا السبب»، تعزيز هذا الخزي سيجعلهم لبنة طيعة في يديك لا تمكنهم أبدًا من أن تعلو وجوههم في وجهك، سينسون تمامًا أقوالهم السابقة عن أن مستغل النقائص شر مطلق، وأن كثيرين يعانون من ذات الأمور، ولكن الجريمة لم تحدث إلا بتدخلنا نحن، سينسون منهارين.
حماقة البشر دائمة في أنهم يريدون لكل شيء منطقًا حتى يتمكنوا من الاستمرار، والمُصاب غير المُسبِب اختلال مُهدِد لأمانهم، فسيقبلون تلاعبك طواعيةً، هذا الخلط لعبتي الأولى والأبدية، والطريق الأحب.
خامسًا: فرّق المسئولية بين القبائل
لخلطتي المفضلة بقية، وللحديث بما يقوله الصالحون أحبّ الألعاب لنفسي، أن تصير أمانيك لعنتك، لخلل صغير في الزمن، وتغير بسيط في الوقائع، أجمل ما استمتع به في الحياة. العب والعب فتحكم بسعادتك وتعاستك، استدعِ خطوتنا الأولى لتغلق دائرتنا الساحرة، أتعرف ذلك الذي يصمونه كجانٍ؟ ملاكنا المظلوم، إنه ليس سوى نتاج طبيعي لهؤلاء المذنبين! إنه نتاج ثقافتهم الضحلة، وربيب قذارتهم الطينية، هم من علّموه، وهم من أذاقوه، إنه نتاج الظواهر الاجتماعية.
ارفع صوتك، كرّر بكل ما تملك من قوة «كلنا جناة، كلنا ضحايا»، قاوم كل قول يتحدث عن كون الظواهر الاجتماعية في أساسها هي من منحت هذا الامتياز للجاني ليتمكن من فرض سيطرته، شوّش على كل حديث يفسر عجز ضحاياهم عن المطالبة بحقهم بسبب هذه الظواهر الاجتماعية، هذه الأقوال تعززهم وتنقصنا، لا تدع لها المساحة في الظهور، استدع خطوتنا الرابعة معك ستفيدك كثيرًا، وكن مجدًا متيقنًا أنك كلما كررت هذه الخطوات كلما سعدنا بصغير بين صفوفنا، غير أن تكرارك المعتاد منهك، عليك أن تجعل من وسوستك رسولك، املأ بها كل عقل يمكنك أن تملأه، اجعلهم يعملون لأجلك، ويؤمنون بقولك، اجعلهم عبيدًا.
الصحوة
لمسة حانية من لطف الله أيقظتني إذ رأيتها تتجلى بينما أفتح عيني، قمت مسرعًا وضعت رأسي في طريق الماء المنهمر حتى ارتوى عقلي وهدأ. جلست مستعدًا لما أكتب غير أن المؤشر الوامض ذكرنّي بمقالٍ غير مكتمل، كتبت في هامشه، القضية مُحددة، واضحة المعالم: جانٍ ومجني عليهن ووقائع يندى لها الجبين، الجريمة نتاج يد الجاني وحده، بفعلته وحده، يُسأل عنها وحده، من يلين في حديث الردع والدفع للتحقيق له انحياز يستحي كشفه، أي حديث يُكثّف في غير ذلك –الردع- له رائحة عطنة، ولم أكتب في متنه سوى عناوين خمسة لأفكارٍ عليك ألّا تؤمن بها، وإلّا فأنك مشروع مُتحرِّش أو مُغتصب، يسوق الأدلة مبكرًا قبل فعلته ليضمن داعميه وقت الانكشاف.