أساطير الأولين — قصة قصيرة
كان الأستاذ «خالد مهيد» رجلاً وقوراً محترماً بين الناس، لا يذكرونه إلا بالخير ويرون فيه القدوة الحسنة لأبنائهم وبناتهم. يُشهد له بالصدق إن هو تحدث، وبالأمانة إن ائتمنه الناس، وبالاستقامة إن هو تكلم في أمور الدين، وبسعة العلم والمعرفة إن هو تحدث عن أمور الدنيا. يحبه الكبار والصغار، ويتودد له زملاؤه في العمل من المدرسين، ويتعجب من قدموا للقرية حديثاً لحب الناس لهذا الرجل البسيط وتقديرهم المبالغ فيه لرأيه وتقديسهم لكل ما يقول.
ما كان يخفى عن الناظرين هو حياته التي لا تكاد تخلو من المغامرات، فقد كان الأستاذ متزوجاً من امرأتين. زوجة تعيش معه في القرية التي تم تعيينه بها، وأخرى تعيش في مدينة الدار البيضاء تربي أولاده وتصون بيته ولا تشتكي من غيابه الذي أصبح أمراً مُتَعَوَّداً عليه، منذ أن تم تعيينه في قرية نائية في أعالي جبال الريف.
كان الأستاذ خالد ينعم بكل المزايا التي تأتي مع الحب اللامشروط والمتفاني للناس، كانوا يمطرونه بالهدايا لينالوا رضاه، وليحظى أبناؤهم بمعاملة خاصة في الفصل الدراسي. كانت حياته الخاصة غامضة غموض أساطير أجدادنا التي لا تمت للمنطق بصلة. إلى أن جاء الأستاذ منير إلى القرية.
لم يكن يخفى على الأستاذ منير وجود امرأة أخرى في حياة سعادة الأستاذ المبجل، بل كان يعرف أباه وإخوته وأبناءه واحداً واحداً، لكنه فوجئ إذ نقلت إليه الأفواه المُعجَبة أن الأستاذ خالد مهيد كان متزوجاً من امرأة قروية أعجب بها منذ أن وطأت قدماه القرية.
لم يعرف الأستاذ الوقور الخوف قبل مجيء الأستاذ منير إلى القرية، بات يرعبه احتمال أن يفتح الرجل فمه فيتهدم الوهم الذي بناه فوق رأسه. ستقتله زوجته بالتأكيد. أي منهما ستفعل يا ترى؟ أتلك التي ضحت بوقتها ومسيرتها المهنية لتربي أولادها؟ أم تلك التي منحته شبابها وجمالها واختارته دون غيره من جموع الخاطبين الذين تقدموا لها؟
والهدايا التي تتدفق عليه كمياه الأنهار العذبة؛ وحب الناس وإخلاصهم؛ والسمعة الجيدة والاحترام العظيم؛ ماذا يحل به يا ترى إن افتضح أمره بين الناس؟
كان يقيس احتمالات الخسارة والربح ويفكر كيف بإمكانه أن يخرج سليماً من هذه الورطة، عندما قرر أنه لن يسمح لرجل تافه كمنير بأن يُخرِّب حياته ويقوم بتشويه سمعته، لا بد له أن يتصرف قبل فوات الأوان.
ظلّ يفكر بطريقة ما يواجه بها الأستاذ منير، لكنه في الوقت نفسه لم يرد أن يبدو عدائياً في مواجهته له، فهو في نهاية الأمر منْ كان في موقف ضعف وليس العكس، وعليه توخي الحظر لكي يتجنب انفجار القنبلة الموقوتة التي كانها زميله القديم.
الحقيقة أن علاقتهما كانت تتجاوز الزمالة بكثير، كانت بينهما صداقة قد أكل عليها الدهر وشرب. بل كانا أعز الأصدقاء قبل أن تختار «أسماء» خالد زوجاً لها، وتدير ظهرها لمنير الذي كان مُتيماً بحبها. شهد على ذلك الحي كله وطلبة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الذين تابعوا الحرب الضروس بين الرجلين منذ بدايتها.
رحل منير عن الحي وانتقل بعيداً عن الدار البيضاء منذ تخرجه ولم يكن يعود سوى خلال الأعياد لزيارة أهله وتفقد أحوال الأصحاب. كان يؤمن في دواخله أن رجلاً مثل «خالد مهيد» ليس قادراً على إسعاد أسماء، لم يكن خالد بالرجل القنوع بل كان يحب أن ينال نصيبه ونصيب غيره من كل شيء في هذه الحياة، وعادةً ما كان مُيسراً في ذلك، لكنه كالطفل الذي سرعان ما يمل من اللعبة التي بين يديه ويبحث عن غيرها وإن كانت بعيدة المنال.
تحدث منير وأفصح عن كل ما حدث في الماضي والحاضر، لم يستطع أن يكتم الحقيقة لوقت طويل، وأصبح اسم الأستاذ خالد على كل لسان. يُقال إن الحقيقة أحياناً تخفي نفسها عمداً وتختبئ خلف كذبة بيضاء، فكذبتان، فثلاثة. تتكاثر الأكاذيب على مهل، في انتظار أن تأتينا الشجاعة لقول الحقيقة التي رغم بشاعتها تُجنبنا الألم.
وجد منير فرصة ذهبية للانتقام وما كان ليفوِّتها، وما هي إلا أسابيع قليلة حتى انتشرت الشائعات كالنار في الهشيم. تدور الكرة الأرضية ومع دورانها تختلف مواضعنا على سطح البسيطة، قد تكون في موضع قوة اليوم وتمسي ضعيفاً لا حول له ولا قوة، تلتمس الرحمة والغفران الذي بخلت به على الآخرين.
واختفى الأستاذ منير، وهَبَّ كل من في القرية للبحث عنه وقد تملكهم الرعب من أن يكون قد أصابه أذى. وتوجهت أصابع الاتهام إلى الأستاذ خالد قبل غيره. واستدعي للتحقيق من طرف الشرطة. دخل إلى غرفة التحقيق والخوف واضح على محياه، وابتدأ المحقق حديثه قائلاً:
– أنت متهم بقتل الأستاذ منير كامل طعناً بسلاح أبيض.
– مات؟
– وجدنا جثته في بئر تبعد عنه بمسافة قصيرة.
– أؤكد لكم أنه لا علاقة لي بمقتله.
– ليس هذا ما يقوله الناس للأسف.
– الناس يتكلمون دائماً، ولكن لا أحد منهم يعرف الحقيقة.
– حقيقة حياتك الخاصة التي أخفيتها لسنوات؟
يرفض الحديث ويطالب بحضور محام على الفور، وفور أن يتسنّى له العودة إلى بيته يجد زوجته في انتظاره. كانت تبكي وترتجف بشكل مثير للريبة، وما هي إلا دقائق قليلة حتى نطقت بكلمة زعزعت كيانه:
– قتلته؟!
– ما الذي تهذين به يا امرأة؟
– قتلته لأجلك، كي لا تعود لها وكي لا تتركني وحيدة.
– أجننت يا امرأة؟
– أنت لن تتركني أليس كذلك؟ أنت لن تعود إليها.
وهكذا هوت الأسطورة وانقلبت رأساً على عقب، كان «مصعب الأردني» ليُشبِّه ما حدث بطبق المقلوبة، وكان ليضحك مع صديقيه عن تفاهة الحياة وشقائها لو كان الموضوع يخص شخصاً غريباً عنه، لكن الأمر بات يتعلق بأقرب أصدقاء له وبرفاق دربه القدامى.
كان منير يحب نكات مصعب بقدر ما يحب أسماء، لكن تبيّن في نهاية الأمر أن الحياة عبارة عن كتلة نكت سمجة. ضحكت الحياة ملء ثغرها على ما حدث، وشمت أهل القرية في محبوب الجماهير السابق الأستاذ خالد. حتى أساطير الأولين تطالها الألسنة والأقوال اللاذعة، لا أحد في هذا العالم يستطيع إسكات الشائعات، والأسوأ من ذلك أن معظمها تولد أساطير وتصبح مسلمات.
ظهرت براءة الأستاذ خالد من كل ما قيل في حقه، لكن زوجته صدقت الشائعات كما صدقت أساطير الأولين من قبل، عن كائنات من نسج المخيلة الشعبية، مثل «عيشة قنديشة» و«ملك الجن شمهروش».
اتضح في ما بعد أن الأستاذ منير قد أخطأ التقدير واتهم رجلاً بريئاً بما ليس فيه. صحيح أن خالد مهيد كان قد تقدم لخطبة أسماء قبل سنوات بسبب رهان بينه وزملائه في الكلية، وأن هذه الأخيرة وافقت جهلاً منها بحقيقة الأمر، لكن ما لم يكن يعرفه الأستاذ منير هو أن الخطبة لم تتم، إذ فسختها أسماء بعد أن تبين لها أنها قد أخطأت التقدير حين فضلت خالد على صديقه واكتشفت خيانة الرجل الذي وثقت بصدق نواياه لها. ولكن لكي تحفظ الأسرة سمعة ابنتهم ومشاعرها فقد قرروا أن يبيعوا الأهل والجيران كذبة، واشترى الناس الكذب بثمن بخس.
جاء القرية أستاذ آخر، أحبه أهل القرية حباً جماً وأقسموا على الإخلاص له. أستاذٌ يُدعى «مصعب».