ترِكة الاستبداد: من الدولة السلطانية للدولة الحديثة
أولُ الأسئلةِ التي لا يمكن تجنبها بشأن «الدولة الحديثة» في مجتمعات أمتنا الإسلامية هو: لماذا تستمر هذه الدولة رغم أنها فشلت في تحقيق الأهداف الكبرى التي قامت من أجلها، واستندت إلى مقايضة: الاستبداد مقابل إنجاز الاستقلال الوطني، وتحديث المجتمع، وبناء قوة عسكرية مرهوبة الجانب (جيش وطني قوي)، وإرساء دعائم الحكم الرشيد، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وإنجاز التنمية الشاملة، وتحقيق الرفاه الاجتماعي؟
هل السبب كامن في فلسفة فكرة الدولة الوطنية/ القومية، وفي هيكليتها التي نشأت حديثًا (خلال القرنين الـ13 والـ14 الهجريين/ الـ19 والـ20 الميلاديين) في مجتمعات الأمة الإسلامية؟ أم أن مكمن الخطأ هو في ثقافة مجتمعاتنا وموروثاتها السياسية من أزمنة التدهور والاستبداد وعهود «الدولة السلطانية»؟ أم هو في السياق القطري والإقليمي والعالمي العام الذي تعمل فيه هذه الدولة الحديثة، وهو سياق يحيط بها ويضغط عليها منذ نشأتها، ولا يزال يشكل «البيئة» التي تتحرك فيها على تلك المستويات الثلاثة، بكل ما في هذه البيئة من فرص وتهديدات، وضغوط وأعباء؟
وهل هذه الدولة الحديثة وُجدت لتبقى إلى الأبد مهما حققت من نجاحات أو مهما أصابها من فشل وإخفاقات، أم أنها معرضة «للانقطاع»، على النحو الذي تكشف عنه وقائع انقطاع «الدولة» السلطانية في بعض مراحلها التاريخية، وقد أرَّخ لها المؤرخون من أمثال ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، وشمس الدين الذهبي في كتابه «دول الإسلام»، وابن ظافر الأزدي في كتابه الذي يحمل عنوانًا لافتًا في هذا السياق وهو: «أخبار الدول المنقطعة»؟
ما أراه، بادئ ذي بدء، هو أن علةَ العللِ كامنة في أصل «الدولة» بمفهومها الحديث الوافد إلى بلادنا، أكثر من كونها كامنة في بيئتنا أو ثقافتنا أو موروثات مجتمعاتنا. مفهوم «الدولة ذات السيادة» المتعالية على المجتمع وجماعاته؛ هو بيت الداء وأصل البلاء.
وهذه الدولة «الوافدة» معرضة للانقطاع مثلما تعرضت «الدولة التقليدية» في تاريخ المجتمعات الإسلامية للانقطاع؛ ليس لاشتراكهما في وباء الاستبداد فحسب، وإنما لأن استبداد الدولة الحديثة أشد فظاظة ومأساوية من استبداد الدولة السلطانية.
و«القطعُ»، ومنه الانقطاع، هو عند الحكماء : «فصل الجسم بنفوذ جسم آخر فيه»، على ما ورد في تعريفات الشريف الجرجاني. وظني أن مفهوم «الدولة المنقطعة» هو المفهوم المركزي الذي يمكن أن يساعد على محاكمة ما آل إليه مفهوم «الدولة الحديثة» وميراثها الذي تركته في تاريخنا الحديث والمعاصر، والذي ستتركه أيضًا في حاضر مجتمعات أمتنا، وفي مستقبلها القادم في حال استمرار هذه الدولة متشبثةً بأسباب البقاء، ومعاكسةً لموجبات الانقطاع والفناء؛ بعد أن انفصل جسمُها عن مجتمعها، ونَفَذَتْ أجسام أخرى فيه، وتوافرت أغلب عوامل انقطاعها وزوالها.
تشير الملاحظة التاريخية إلى أنه: كلما تعمقت ممارسات «الدولة الحديثة» في بلادنا ومجتمعاتنا الإسلامية؛ تأكدَ لنا أن هذه الدولة بمواصفاتها الحديثة قد تسببت في وقوع كثير من الأزمات والمعضلات والانتكاسات الكبرى التي ترزح تحت وطأتها مجتمعات أمتنا، ولم تستطع إنجاز أي من الوعود الكبرى التي وعدت بها وقامت من أجل تحقيقها مقابل تجرع مرارات الاستبداد.
وبدلاً من توجيه النقد الصارم إلى أداء «الدولة» وبيان علل إخفاقها في تحقيق أهداف المجتمع وتطلعاته؛ يوجه أنصار هذه الدولة الوافدة نقدهم لمجتمعنا ذاته، أو لفئات وجماعات منه؛ وكأن هذا المجتمع بفئاته وجماعاته هو المشكلة، وليس هو أساس الحل.
ولديَّ شكٌ كبيرٌ ينمو يومًا بعد يوم في قدرة هذه «الدولة الحديثة» على حل أي إشكالية من الإشكاليات الكبرى التي تواجهها مجتمعات أمتنا في مجملها، ما لم تتغير فلسفة هذه «الدولة الحديثة»، ويعاد بناؤها على أسس مستمدة من أصول اجتماعنا السياسي ومرجعياته الإسلامية العليا؛ وهي أصول ومرجعيات تجعل «الدولة» خادمة للمجتمع، وجزءًا من كلٍ، ومحكومةً بأصول الشريعة ومقاصدها، وليست حاكمة لها أو متحكمة فيها، وأولها الكرامة الإنسانية، والحرية، والعدالة، والسلام العام.
هنا ينشأ سؤال أكثر واقعية، وهو: هل يمكن الصبر على هذه «الدولة الحديثة» بأمل أن تنجح فيما فشلت فيه خلال قرن أو قرنين من عمرها، أو أكثر من ذلك قليلاً أو أقل قليلاً ؟ أم يكفي ما فات من وقت، وما حدث من كوارث، ولابد من البحث الجاد عن بديل، أو بناء نموذج آخر لإدارة «الخير العام» بما هو فضاء مجال مفتوح للمنافع العمومية المشتركة لأبناء مجتمعاتنا المعاصرة؟
لقد أدى مفهوم الدولة الحديثة ذات السيادة؛ عمليًا، إلى إحجام «السواد الأعظم» من أبناء مجتمعاتنا عن الاهتمام بقضايا المجال العام، وتسبب في العزوف عن المشاركة السياسية «الحديثة» بشكل واعٍ وطوعيٍ وفعَّال. وبقي هذا المجال حكرًا مغلقًا على النخب الحاكمة ذات الثقافة المغتربة أو الثقافة الوافدة.
ويكتسب اقتراحنا الذي أشرنا إليه في تفسير محنة الدولة الحديثة في مجتمعات أمتنا؛ قوة إضافية من مجمل التحولات والتحديات التي تواجهها هذه «الدولة»، ذات المرجعية الوستفالية على المستوى العالمي؛ وليس على مستوى مجتمعاتنا أو مناطق أو أقاليم معينة دون غيرها من خريطة العالم.
إن المنظومةَ المفاهيمية المرتبطة بالدولة والسياسة باتت مهددة بالانهيار بفعل التآكل المستمر لمضمون «سيادة الدولة» بمعناها الحديث. وهذا التآكل حادثٌ على المستويين: النظري والعملي. وهو آخذ في التصاعد بتأثير كثير من التحولات الجذرية التي يمر بها النظام العالمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على الأقل.
ومع انتهاء الحرب الباردة، ودخول العالم في عصر ثورة المعلومات والإنفوميديا؛ تفاقمت عوامل تقويض أسس المفهوم الوستفالي للدولة وسيادتها. وليس من المستبعد في المستقبل المنظور أن تقضي تلك التحولاتُ على فكرة سيادة الدولة قضاءً مبرمًا، وتحل محلها صيغة أخرى لاحترام كرامة الإنسان، وصون حريته، وضمان العدالة، وتأمين السلام والطمأنينة العامة.
وبما أن «السيادة» هي حجر الزاوية في بناء الدولة الحديثة؛ فإن تآكلها، ومن ثم احتمال انهيارها بالكامل؛ أمر يحمل في طياته تغييرًا جذريًا لنظرية «الدولة المدنية الحديثة» التي سادت منذ بدايات عصر النهضة الأوربية، ولا تزال تقاوم من أجل البقاء: إما بالبحث عن حلول لأزماتها المعقدة وتجديد نفسها، أو بالبحث عن أطر سياسية جديدة تحل محلها؛ على نحو ما هو حادث بالفعل في حالة دول الاتحاد الأوربي، على سبيل المثال.
إن سلبيات تآكل سيادة الدولة الحديثة قد أصابت أغلب دول أمتنا الإسلامية بدرجات متفاوتة، وبحسب درجة قوة كل دولة منها؛ بل إنها أصابت ولا تزال تصيب كل الدول التي تشكلت على أسس حديثة ــ قومية أو وطنية أو عالمية ــ على مدى القرون الثلاثة الأخيرة عبر قارات العالم؛ القديم منها والجديد؛ كل دولة بحسب درجة قوتها.
فالدولة الأقل قوة هي الأقل حظًا من السيادة، والأكبر قوة حظها أكبر من السيادة. وللخروج من هذا المأزق الذي يفضح اختلال مفهوم السيادة ومفهوم المساواة عمليًا؛، فإن البعض يذهب في مراوغة مكشوفة إلى أن هذه «السيادة» ليست مفهومًا «ساكنًا»، وإنما هي مفهوم متغير دائمًا مع تغير الواقع؛ أي أن الواقع هو الذي يحكم المبدأ وليس العكس.
وهذا الادعاء الذي يصور السيادة في حالة تغير مستمر ليس له من معنى سوى الإعلان عن إخفاق مبدأ المساواة بين الدول، والعودة إلى المبدأ الروماني العتيد الذي يقول إن «القوة تخلق الحق وتحميه». والمهم في هذا السياق أن لحظة انهيار «السيادة» جزئيًا أو كليًا هي ذاتها لحظة تراجع «السياسة» بمفهومها البراجماتي الغربي الذي يصورها باعتبارها تنافسًا عقلانيًا على حيازة القوة وتوزيعها بين القوى المتصارعة.
وتلك اللحظة أيضًا هي ذاتُها لحظة زوال استقلال «الدولة» وانفرادها دون غيرها بسلطة الأمر والنهي، ليس فحسب في علاقاتها الخارجية، وإنما أيضًا في علاقتها بمواطنيها الذين يقعون تحت سلطتها، ومن المفترض أنهم يطيعون أوامرها دون إكراه أو إجبار.
استمرار التمسك بمفهوم «الدولة» الوستفالي في ظل تحولات النظام العالمي المعاصر يعني بالضرورة نهاية «السياسة»، ونهاية السياسة تعني بالضرورة الدخول في دوامات العنف القاسية والفوضى الشاملة. فالدولة الوستفالية عبارة عن كيان سيادي متحيز في بقعة جغرافية نسميها باسم «الوطن».
والمفترضُ حسب تقاليد وستفاليا أن هذا الكيان له سلطة مستقلة عن أي قوة خارجية. والمفترض كذلك أن تخضع للدولة «قومية» أو أكثر من القوميات؛ بشرط دخول جميع القوميات تحت مظلة «المواطنة» بمعناها متعدد الأبعاد؛ سياسيًا وقانونيًا واقتصاديًا وثقافيًا.
والدولة بهذا المفهوم الوستفالي العتيد تعبر عن تغلب «القوة» و«الإكراه» على التسالم والرضا والتعاون كأسس لبناء الاجتماع الإنساني/ السياسي. وتقع «السياسة» في قلب كيان «الدولة»، ومنه تتغلغل إلى مختلف نواحي الحياة الاجتماعية.
«السياسة» بحسب مفهومها الغربي في ظل الدولة الحديثة لم يعد لها صلة بالمعنى الأفلاطوني المثالي الذي كان يعرفها بأنها: «فنُّ خلقِ وحدةٍ في الأفعال الإنسانية، وتنظيمها، وتوجيهها إلى غاية عامة، وهذه الغاية العامة هي الخير العام»، بل باتت السياسةُ المدنية الحديثة تعني أساسًا: التنافس بالقوة على حيازة أكبر قدر من القوة، أو هي في تعريف حديث آخر تعني: «التخصيص السلطوي للقيم». وعليه فإن القوةَ هي جوهر «السلطة» السياسية.
وجوهر السلطة ذاتها هو «الأمر» المُطاع. ولا يمكن تصور سلطة دون قوة، ولا معنى للأمر دون طاعةٍ وامتثال. ومعنى هذا: أن السلطة مسارٌ مقصدي يؤثر في طرفين على الأقل هما: الآمر، والمأمور.
إن السلطة «الفعلية»- لا القانونية- بدورها هي أوضح العلامات الدالة على «السيادة»؛ بغض النظر عن شرعيتها أو عدم شرعيتها الاجتماعية أو السياسية أو القانونية. والسيادة لا تكون إلا لكيان واحد اسمه «الدولة» بحسب التقاليد الوستفالية كما سلف.
ولكن الواقع يشير إلى أن سيادة الدولة الكاملة لا وجود لها إلا إذا كانت: واحدة، ودائمة، ومطلقة، ولا تتجزأ، ولا يمكن التنازل عنها، أو عن جزء منها، بحسب نظرية جان بودان، التي هي -أقصد نظرية بودان في السيادة- استنساخٌ لبعض أسماء الله الحسنى وصفاته العليا وإسباغها على هذا الكيان المسمى باسم «الدولة»، أو بالأصح «الدولة المتألهة». بل إن جان بودان نفسه عرَّف السيادة بأنها: «سلطة فوق المواطنين والأشخاص، وهي عليا وفوق القانون».
والقول بأن الدولة ذات سيادة مطلقة وأنها تحتكر وحدها استخدام العنف المشروع، هو قول يفيد عدم وجود شيء أعلى منها، أو أنها تعبير عن مجيء الإله إلى الأرض بحسب فلاسفة نظرية السيادة.
وبهذا تكون «سيادة الدولة المدنية الحديثة» مقصدًا في ذاتها ولذاتها، ومنها تنبثق جميع الهيئات والمؤسسات الأخرى. وتبني هذه الهيئات والمؤسسات مشروعيتها بالاستناد عليها، وبالرجوع الدائم إليها؛ رجوعًا فعليًا أو افتراضيًا يقوم به الممسكون بأزمة السلطة.
يصدق هذا التصور عن السيادة لو كانت «الدولة» كائنًا أزليًا أبديًا، ولكن عظة التاريخ -وكثيرًا ما يكون التاريخ واعظًا غليظ الكبد فظ الطبع- تؤكد لكل ذي عينين أن مفهوم «الدولة» مفهوم «حادث» وليس أزليًا، وأن وجودها ليس أبديًا. وفي رأيي أنه معرض «للزوال» والانقطاع كما انقطعت دول كثيرة عبر التاريخ. وعظة التاريخ غليظ الكبد فظ الطبع تؤكد أيضًا على أنه: عندما تكون «الدولة» مطلقة السيادة، فإنها تكون كاملة «الطاغوتية» أيضًا، وعندما تصل لكمال الطاغوتية تصل أيضًا إلى انقطاعها الكامل.
تجارب الشعوب والأمم تكشف عن أن الحكام كثيرًا ما غرتهم «سلطة الدولة» فأساؤوا استخدامها، ثم سرعان ما وقعوا ضحايا لها. وقد كان لبعض علماء السلطان في تاريخ «الدولة السلطانية» دور في تبرير تلك الإساءة وإلباسها رداءً شرعيًا. ونشأ في تاريخنا ما يعرف باسم «فقه التغلب»، وباتت له آليات راسخة وفعالة في إزاحته فقه الحرية، والشورى، والإجماع، والعدالة، على نحو ما تواتر حدوثه في عهود الدولة السلطانية، وانتقلت هذه الآليات إلى الدولة الحديثة، وتبلورت وترسخت في قوانين الطوارئ والأحكام الاستثنائية.
والعجيب أن استفحال الاستبداد الداخلي لـ «الدولة المدنية الحديثة» في مجتمعات أمتنا الإسلامية، قد حدث في وقت تآكلت فيه سيادة هذه الدولة خارجيًا حتى كادت تختفي من الوجود العلامات الظاهرية الدالة على وجودها. ودخلت هذه «الدولة الحديثة» في أزمة وجودية مع دخول العالم في عصر ثورة المعلومات والتكنولوجيا فائقة التطور والسرعة والدقة، وبعد أن تعرضت لعاصفة «الربيع العربي» أيضًا.
وليس من مخرج من هذا المأزق إلا بالسعي لبناء «مجال تعاوني مشترك بين المجتمع والدولة»، أو «بين الأمة والسلطة»، مع التركيز على تجديد حيوية الأنساق الاقتصادية والاجتماعية في تكوين هذا المجال المشترك باعتباره القاعدة الصلبة لصون الكرامة الإنسانية، ولممارسة الحرية، ولتحقيق العدالة الاجتماعية، ولضمان الاستقرار السياسي، والازدهار الحضاري في آن واحد.