ميراث «النور»: من الوعظ إلى الخدمة
قالت إحدى الصديقات يومًا إن أول ما ستُقرئه أبناءها من كتب هي كتب فتح الله كولن، وكنت أوافقها على ذلك إذ كنت أرى فيما يكتب جمالاً رقيقًا، وتزكية إيمانية وبصيرة قل أن توجد في الكتابات الإسلامية الحديثة.
وتصادف آنذاك أن افتتحت الحركة مدرستها – الألف على مستوى العالم – في القاهرة، لأزورها مع مجموعة من الزملاء، دوّنتُ ملاحظة بعد عودتي وجدتها في مدونتي وأنا أجلس لكتابة هذا المقال كان فيها: «لكن المميز في هذه المدرسة هو أن الهدف المعلن والذي تلمسه من سلوك الأساتذة والعملية التربوية أنه المشاركة في صناعة الإنسان الكامل الذي يرى الله مركز الكون كله وفق رؤية إسلامية».
ثم جئت مقيمًا قبل ثلاث سنوات إلى تركيا لأسمع غير ما قرأت، ولأشهد تصاعد الصراع بين حكومة العدالة والتنمية وبين الجماعة، وما صحبه من إغلاق للمدارس ومصادرة للعديد من المشاريع، بدعوى التغلغل السلبي في جسد الدولة بغية إعاقته وشلّه، وتعطيل مشروع بناء الجمهورية الجديدة الذي تشاركت الجماعة مع الحزب في التأسيس له في خلال السنوات الأولى للعدالة والتنمية، وليظهر الإشكال القديم بين الفكر والسياسة.
قديمًا مدح السلطان عبد الحميد جمال الدين الأفغاني وكانت بينهما علاقة طيبة، ثم ذمّه واتهمه بالعمالة للماسونية والإنجليز في مذكراته، وتظل العلاقة بين الرجلين مما لم يفتح للدراسة بعمق وتفصيل، لا انتصارًا لأحدهما بل كشفًا لجوانب تاريخ أسس لحاضرنا الذي نعيش فيه.
لا يغيب عن المتابع إذن أن الصراعات السياسية قادرة على تحويل أوثق العلاقات في لحظة إلى عداوة بالغة، كما أنها قادرة على إزالتها في لحظة أيضًا، وأن هذه الصراعات لا تحدث في عالم محايد أو ظروف فيزيائية مثالية، بل تحدث في عالم سريع التغير، مليء بالرغبات المتقاطعة والمتعارضة ما يجعل الصراع الذي يبدأ في نقطة، سرعان ما يصل إلى جهة أخرى غير متوقعة؛ ما يجعلنا ملزمين بتنحية الصراع السياسي عن حكمنا على أي من الأفكار والتيارات الفكرية التي تتفاعل حولنا في الحياة.
وقبل أن نبدأ حديثنا، أود أن أثبت عدة نقاط:
– منذ فشل التجربة الإسلامية المعاصرة في مصر، ورغبتي في الكتابة حول إعادة النظر في الأسئلة التي انطلقت منها الحركات الإسلامية المعاصرة حاضرة، إلا أن الرغبة في الصمت كانت أكبر، واتساع الموضوع كان صارفًا خصوصًا مع فشلي في الفترة الماضية في ضبط وقتي للانتظام في كتابة تقوم على التفكير الكثير.
– ما يلي رحلة في الأفكار، أنا فيها كالقارئ باحث يفتح بابًا إن وجد خلفه بابًا فتحه وإن وجده جدارًا عاد يبحث عن آخر، فهي مساحة لتفكير مشترك، لا منصة إلقاء نتائج تجربة منتهية.
– إن الاتفاق مع أفكار تيار ما في فترة ما لا يعني بالضرورة التسليم الكامل لصحة خياراته على امتداد تاريخه وحياته.
– الصواب الذي تم لا يستحيل خطأ إذا أعقبه الإنسان بخطأ، والحق كما قال ابن الهيثم من قديم حق في ذاته لا لقول الناس له، والباطل باطل في ذاته لا لقول الناس له.
– إن الخيارات السياسية للحركات الفكرية ليست سوى تجلٍّ بشري للأفكار، وكون عالم الأفكار أوسع دائمًا وأكثر حرية، فإن تجليات الأفكار الحركية ليست بالضرورة منطبقة على الأفكار، بل قد تبدو أحيانًا نشازًا، والحق أني لم أحسم أمري بعد في هذه المسألة، فلعلنا نصل إلى نتيجة عقب انتهاء هذه السلسلة.
بسم الله نبدأ
منذ عهد مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك وتركيا يمكن أن نسميها «الدولة النموذج» للشرق المسلم بحيث تظهر فيها التجربة وتستوي قبل أن تخرج إلى العالم العربي. كانت حرب استقلالها أولى معارك التحرر الوطني، وكانت تجربتها العلمانية ملهمة للتيار العلماني العربي الوليد آنذاك، يدلل علي ذلك شهادة السيدة هدى شعراوي لمصطفى كمال بأنه أبو الشرق كله لا أبو الأتراك فقط. وكما اهتم الإعلام العربي بتجربة أربكان، اهتم بتجربة أردوغان بل لعل فترة مضت كان يروّج فيها لتجربة العدالة والتنمية باعتبارها «النموذج المعتمد» للإسلام المعتدل الذي يمكن أن يحاكيه الإسلاميون العرب، كان ذلك قبل التطورات الأخيرة في السياسة التركية، بل قد نذهب أبعد من ذلك إذا استحضرنا قول بعض المؤرخين الذين يعيدون بنوة الإسلام السياسي الحديث كله إلى «العثمانيين الجدد»، ذلك التيار الذي ولد في القرن الأخير من حياة الدولة العثمانية داعيًا للتحديث على أسس إسلامية أصيلة.
أيًّا يكن، فكل ما سبق وشواهد أخرى جغرافية وتاريخية تجعل التجارب التركية مركزية وفاعلة في الحياة العربية، وهو ما يجعل تناولها باهتمام وعمق ضرورة دائمًا.
جذبت جماعة الخدمة اهتمام الإعلام لدورها السياسي الذي لعبته في السنوات الأخيرة، ونجاحها في التغلغل في جسد الدولة التركية الذي ظل عصيًّا على الاختراق لغير الكمالية والكماليين تنفذًا قادرًا على التحكم في مسار الدولة عند الحاجة، وجذب أيضًا المعنيين بتاريخ الحركات الإسلامية خصوصًا عقب فشل التجربة الإسلامية العربية في الصمود أمام الدولة العسكرية؛ ما يجعلنا معنيين بالبدء في قراءة تجربة جماعة الخدمة المعروفة باسم مؤسسها فتح الله كولن.
ولد كولن في إحدى الروايات عام 1938، وهو نفس العام الذي توفي فيه مؤسس الجمهورية التركية وواضع أسسها العلمانية مصطفى كمال أتاتورك، وكان ميلاده في أرزوروم «أرض الروم» شمال شرق تركيا وإحدى أهم المناطق المحافظة التي انطلقت منها حركات الاعتراض الأولى ضد نهج أتاتورك التغريبي، كما شهدت هذه المدينة إعدام أول امرأة في أعقاب ما عرف بثورة القبعة.
ولد فتح الله إذن وحوله تفاعل عميق بين تيارين هامين، تيار التحديث الذي تتبناه الدولة الجديدة وتدفع في سبيله بقوة السلطة؛ سيرًا على آثار أوروبا دون اعتبار للموروث التاريخي للأمة التركية، مع صناعة نسخة خاصة من الإسلام تخدم الدولة الجديدة، وتحول الإسلام إلى نسخة كنسية مختصرة، وتيار محافظ وجد نفسه وقد تفانى في الدفاع عن أرضه ضد الاحتلال خلال حرب الاستقلال العثمانية / التركية محرومًا من التعبير عن نفسه وهويته، بل عاجزًا حتى بحكم القانون عن قراءة ما دوّنه أجداده من معارف وعن قراءة شواهد قبورهم.
ومع التحول الديموقراطي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حاز الحزب الديموقراطي رئاسة الحكومة. ورغم عدم معارضته لجمهورية أتاتورك إلا أنه خفف من سيطرة الدولة على السياق الديني للجمهورية، خصوصًا في الإجراءات التي تصادمت بشكل كبير مع الأتراك كمنع الأذان باللغة العربية، وتقييد عدد الحجاج، وإغلاق المدارس الدينية.
في البدء كان النور
أفسح المجال الديموقراطي الطريق لرسائل النور التي كتبها الشيخ سعيد النورسي للانتشار، خصوصًا مع حكم المحكمة الدستورية الذي برأها مما يمس الدولة ونظامها، ورغم أن النورسي لم يوص بحليفة بعده، إنما أوصى لستة من طلابه نجحوا في إدارة الجماعة شورى فيما بينهم، فافتتحت المجالس التي تقرأ فيها الرسائل، وانتشرت في عموم الأناضول.
جاء أول انقسام في صفوف الجماعة مع التفكير في استغلال قبول الدولة للرسائل بطباعتها بالحرف التركي الحديد «اللاتيني»، فانقسمت الجماعة وفق موقفهم من ذلك إلى قسمين، «النساخ» وهم الباقون على عهدهم القديم من المحافظة على الرسائل بالحرف العثماني «العربي» والجماعة الأم.
رغم اتخاذ الجماعة موقفًا مجانبًا للسياسة، فقد ظهر انقسامها الثاني في ولاءات أفرادها للتيارات السياسية البارزة آنذاك، بين حزب العدالة الذي يرأسه سليمان ديميريل وحزب النظام الوطني الذي أسسه المهندس الشاب العائد من ألمانيا نجم الدين أربكان.
لم تسلم تركيا من الصراع الأيديولوجي الذي عمّ العالم خلال فترة السبعينيات وتكاثف في الشرق المسلم، خلال هذه الفترة ظهر فتح الله كولن متمايزًا عمن حوله.
جاءت نشأته في المدارس الدينية الرسمية، ووظيفته هي الوعظ في المدارس الرسمية للدولة، وصقلت هويته الدينية في مدارس النور. كان اختلاف فتح الله الأول والأهم عن جماعة النور هو العودة لمركزية المسجد التي بعدت عنها تركيا منذ عهد المؤسس أتاتورك، فإذا كانت جماعة النور تقرأ الرسائل وتدارسها في مدارس خاصة فإن منابر المساجد وحلقها هي البيئة الأصيلة لمدارسة الفكر الإسلامي وتربية أبناء المسلمين.
أما نقطة التمايز الثانية فكانت من موقفه من الدولة الحديثة، ففي فترة كانت الحركات الإسلامية تعلن عداءها للدولة الحديثة باعتبارها تجليًا غربيًا يعارض روح الفكرة الإسلامية، كان موقف الواعظ الشاب الذي أسر الناس بحديثه يرى أن الدولة لا يمكن أن تعادى، وأي موقف لجماعة خاصة ينبغي أن يكون متسقًا مع رؤية الدولة الداخلية والخارجية.
مع تشكل حركة فتح الله كولن، بدا أنها تأخذ شكلاً أقرب لجمعيات المجتمع المدني منها إلى «الجماعات» الدينية وفق ما هو مألوف في الشرق المسلم.
جاءت نهاية السبعينيات ملحمية دامية في الشرق، فإيران شهدت ثورة إسلامية أطاحت حكم الشاه، وحرمت الولايات المتحدة حليفًا هامًا في المنطقة جعلها تنظر بريبة لتصاعد الفكر الإسلامي السياسي في تركيا متمثلا في حزب السلامة الوطني الذي أسسه نجم الدين أربكان وشارك به في الحكومة، ريبة انتهت بانقلاب عام 1980.
وضع انقلاب 1980 حدًّا لمرحلة كاملة من الصراع / التفاعل الأيديولوجي في تركيا، حُسِم الصراع في الساحات والميادين لصالح العسكر ومبادئ الجمهورية، وبدا أن تركيا قد خسرت تجربة الستينات والسبعينات، غير أن الصراع الفكري كان قد بدأ، فعادت الحركات الإسلامية التركية إلى ذواتها تراجع مرحلة طويلة من التفاعل والتدافع، أما فتح الله كولن فكان قد حمى أتباعه من أن تمسهم تبعات الهزيمة النفسية التي أعقبت الانقلاب.
«إذا تجوهر الإيمان في القلب انقلب إلى منجمِ حب ومحبة، فأنَّى لمعدن الكراهية أن ينجم فيه؟. فكما الشيطان في الكراهية مغمور فأنـت -يا مؤمن- بالمحبة معجون».