إرث الحرب العالمية الأولى: قصص المسلمين والنساء والطب
يحتفل العالم في 2018 بمرور 100 عام على نهاية الحرب العالمية الأولى، وفي جراب الحاكي ما تزال ثمة قصص وحكايات بدأت منذ قرن، حينما كانت الحرب تدمر العالم، حيث خرجت من تحت الأنقاض والحطام صرخات مكبوتة تطالب بالحق في الاستماع إليها، ونمت من بين ثنايا الموت ورائحة البارود أيادٍ تسعى لاستمرار الحياة.
كان العالم يتشكل من جديد بسقوط الإمبراطوريات وبزوغ نظام عالمي مختلف، ولم تكن لغة الموت فقط هي السائدة كما تظن، فرغم الضحايا، والخراب، والأوبئة، كانت هناك قصص واستفادات عظيمة، قد لا تعرفها، أو لم تسمع بها من قبل؛ لأنك لم تقرأ إلا عن ملك الموت الذي طاف بأراضي الحرب.
حق المرأة في التصويت: لأن «الرجّالة» ماتوا في الحرب
الاتحاد الوطني البريطاني لجمعيات حقوق المرأة.
تجذبك قصتها المستوحاة من أحداث حقيقية، نظرتها المستكينة وحالتها الرثة يدفعانك لتتساءل بإشفاق: كيف كانت تحيا في هذه الظروف؟ يقودك شغفك إلى التعرف على أولئك اللاتي خاطرن بكل ما لديهن: وظائفهن، ومنازلهن، وأطفالهن، وحتى أرواحهن، من أجل حق النساء في التصويت.
دراما قوية حول الكفاح من أجل المساواة في بريطانيا، بطلتها زوجة وأم عاملة تصبح ناشطة تطالب بحقوق مشروعة، في فيلم بريطاني بعنوان SUFFRAGETTE، أنتج عام 2015، يروى دراما لناشطات بحركة تأسست في القرن التاسع عشر بالاسم نفسه، تهدف لانتزاع حق التصويت للمرأة.
ولكن من أين نبدأ؟
بسبب كثرة وفيات الرجال في الحرب اضطرت النساء للعمل؛ نظرًا لحاجة المصانع وأماكن العمل لسد الوظائف؛ وحاجة النساء والأُسر لعائل يتولى الإنفاق. وقد مثّل انتشار النساء في سوق العمل عاملًا أساسيًا في نضالهن للمطالبة بحق التصويت.
ورغم أن أقدم وقائع حصول النساء على حق التصويت في بعض الانتخابات تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر، فإن الحرب العالمية الأولى أعطت للنساء -خاصة في أوروبا- حقوقًا أكبر وأشمل، وجعلت لهن صوتًا مسموعًا عن ذي قبل؛ فقد أقرت معظم البلدان المستقلة الناتجة عن الحرب حق الاقتراع للمرأة بداية من عام 1917.
ففي المملكة المتحدة، استمر الاتحاد الوطني لجمعيات حقوق المرأة في الضغط على الحكومة خلال سنوات الحرب، وتم التوصل إلى اتفاق أوليّ عام 1917 بأن يكون الحد الأدنى لسن التصويت في الانتخابات 21 عامًا للرجل، و30 عامًا للمرأة، وكان هذا التحديد تحوطًا من حصول النساء على الأغلبية بسبب وفيات الرجال خلال الحرب. وفي 6 فبراير/شباط 1918، صدر قانون تمثيل الشعب، الذي أعطى النساء حق التصويت. وفي نفس اليوم من العام الجاري 2018،احتفلت بريطانيا بمرور 100 عام على منح المرأة حق التصويت، في ظل حكومة تترأسها تيريزا ماي، ثاني امرأة تتولى هذا المنصب في تاريخ بريطانيا.
أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد قادت النساء سلسلة من الاحتجاجات ضد الرئيس ويلسون، تحت شعارات: «نحن نساء أمريكا نقول لكم إن أمريكا ليست ديمقراطية، وهناك 20 مليون امرأة يُحرمن من حق التصويت، والرئيس ويلسون هو الخصم الرئيسي لحرمانهن الوطني»، وبعد سنوات من المعارضة، غيّر ويلسون موقفه في عام 1918، ودافع عن حق المرأة في الاقتراع كإجراء حربي، وفي 4 يونيو/حزيران 1919، صدّق مجلس الشيوخ على التعديل التاسع عشر، الذي يحظر فرض قيود على الدولة على أساس الجنس.
وقبل نهاية الحرب العالمية الأولى اعترفت كندا، وروسيا، وألمانيا، وبولندا، وإستونيا بحق المرأة في التصويت، ويدأت البريطانيات في التصويت عام 1918، تبعتهن الهولنديات والنمساويات عام 1919، أما الأمريكيات فقد فزن بالتصويت عام 1920.
ورغم خروج النساء بكثافة في ثورة 1919، التي قادها سعد زغلول بمصر، فإن المصريات لم يحصلن على حق التصويت إلا بعد يوليو/تموز 1952، في حين كانت أذربيجان هي أول بلد ذي أغلبية مسلمة يقر حقوق التصويت العامة، عام 1918.
الحرب «طبيبة الأطباء»
دائمًا ما تقرأ عن ضحايا الحرب العالمية الأولى، والخراب والدمار الذي خلفته تلك الحرب الكونية الشاملة، ملايين من الضحايا، وهكتارات من الأراضي، ومئات الآلاف من المنازل المدمّرة، والجرحى، والمصابين، لكن في الوقت نفسه كانت هذه الأمور إشراقة تدفع نحو أمل جديد في التداوي واستمرار الحياة. ولنتعرف أولًا على مدى بشاعة أول حرب شاملة تشهدها البشرية في تاريخها، والتي ضمت الأسلحة الباليستية الجديدة، وغازي الكلور والخردل، وقذائف البنادق عالية السرعة، والمدافع الرشاشة الآلية الجديدة المتطورة.
كانت جروح الجنود معرضة للعدوى والتلوث؛ إذ كانت تحتوي في أحيان كثيرة على شظايا، وتفاقمت خطورة الجروح مع ارتداء الأزياء العسكرية المتسخة في الخنادق الموحلة، إلى جانب انعدام النظافة الشخصية، وتفشي القمل، وبكتيريا القدم، بالإضافة إلى سوء التغذية، ولم تكن المضادات الحيوية قد اختُرعت آنذاك، كما أن أساليب رعاية المرضى لم تكن متطورة بالقدر الكافي؛ فقد كان التخدير بمثابة معضلة ضخمة، وغالبًا كان الجنود يستيقظون أثناء العمليات الجراحية، وكانت عمليات نقل الدم فوضوية. كل ذلك فرض تحديًا كبيرًا أمام أطباء الحرب.
أما على مستوى الأفراد العاملين في المجال الطبي، فلم يكونوا مؤهلين لذلك العمل؛ إذ لم يكن هناك وقت للتدريب، فبمجرد الحصول على مؤهل كان لا بد من المشاركة على جبهة القتال، وحتى في حالة عدم الحصول على مؤهل كانت المساعدة ضرورية، وقد كان معظم العاملين في الرعاية الصحية من المتطوعين، وهذا أثّر من جانب آخر على الرعاية الصحية للمدنيين، فالأطباء غير متوفرين إلا على جبهات القتال، وإذا توفر طبيب فلم تكن لديه أدوية؛ لأنها كانت تُرسل إلى الجبهة باستمرار.
في ظل هذه الظروف السيئة فإن سؤالنا: كيف أفادت الحرب مجال الطب؟ يغدو سؤالًا في غير محل، لكن رغم كل ذلك أتاحت الحرب فرصة كبيرة لاختبار أساليب وعلاجات جديدة، فقد توافدت على ساحات القتال أفضل الخبرات في كل التخصصات؛ لتجربة أشياء جديدة، واعتبر الكثير من الأطباء أن الحرب بمثابة زميل لا خصم، فقد كانت الحرب «طبيبة الأطباء».
إلى جانب ذلك، فإن العدد الهائل للجرحى، وكذلك طبيعة الجروح، فرضا إعادة النظر في أساليب علاج الجنود المصابين، وقد أدى ذلك إلى حدوث تغييرات جذرية، لاسيما في طريقة نقل الجنود من ساحة المعركة إلى المستشفى.
فقد أدرك القادة العسكريون حاجتهم إلى تغيير نظم الرعاية الطبية، وكل الخدمات الصحية، فعلى سبيل المثال، كانوا بحاجة إلى مستشفيات متنقلة، وحاملي نقالات لإحضار المصابين؛ لأنهم كانوا يظلون أيامًا في ساحة المعركة في معاناة بسبب جروحهم، وقد كانوا بحاجة إلى سلسلة من عمليات الإخلاء، لذا كانت تتم إقامة مراكز جراحة متطورة على بعد ميل أو ميلين فقط من خط المواجهة، وأصبحت سرعة علاج الجنود مسألة محورية في الحرب العالمية الأولى.
فمن بين كل 5 وفيات كانت 4 منها تحدث في الساعة الأولى بعد الإصابة، وعُرفت باسم «الساعة الذهبية»، ثم تم تعديل هذا المصطلح في الوقت الحاضر ليصبح «العشر الدقائق البلاتينية الأولى»، فقد بدأ التغيير الحقيقي في عمليات الإخلاء من هنا، ثم اعتمدت الحروب اللاحقة على التطورات الطبية التي حدثت في الحرب العالمية الأولى.
فقد شهدت الحرب في كوريا تطور المستشفى الجراحي العسكري المتنقل، وخلال حرب فيتنام، أصبح الإسعاف الطائر وسيلة أسرع وأكثر انتشارًا لعلاج الجنود المصابين، مما جعل العلاج يستغرق أقل من ساعة في المتوسط، مقارنة بمتوسط 4 إلى 6 ساعات في السابق، ولا يزال الإسعاف الطائر يلعب دورًا أساسيًا في العديد من المناطق حتى الآن. وكل ذلك بدأ على جبهات الحرب العالمية الأولى.
أبطال متدينون: المسلمون في الحرب العالمية الأولى
أثارت هذه الأوراق شغف فريق من الباحثين، فبدأوا في فحص ودراسة وثائق عسكرية، وعدد كبير من المذكرات الشخصية لمحاربين شاركوا في الحرب العالمية الأولى، وأثناء بحثهم عثروا على قصص لجنود مسلمين كانوا يقتسمون طعامهم مع المدنيين الجياع، وقصص أخرى ترصد اندهاش الضباط الفرنسيين والبلجيكيين والكنديين من معاملة الجنود المسلمين الإنسانية للأسرى الألمان، الذين برروا تلك المعاملة بأنها طريقة معاملة الأسير وفق تعاليم الإسلام.
وقد كانت الرسائل التي كتبها المقاتلون المسلمون من بين الوثائق المؤثرة في هذا البحث، ومنها رسالة مقاتل جزائري، عام 1916، يقول فيها: «أقسم بالله العظيم، أنني لن أتوقف عن الصلاة، ولن أتخلى عن ديني، حتى لو وُضعت في جحيم أشد من الجحيم الذي أنا فيه».
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2017،نشرت صحيفة الأوبزرفر البريطانية تقريرًا عن هذا البحث الذي يتناول أبطالًا مسلمين منسيين شاركوا في صفوف الحلفاء بصفة مقاتلين أو عاملين، بلغ عددهم 2.5 مليون مسلم، وذكر تقرير الصحيفة أن هذا البحث يمثل جزءًا من مشروع رائد من قبل منظمة تُدعى «مؤسسة الأبطال المنسيين 14-19».
وما زال جراب الحرب العالمية الأولى يحوي مزيدًا من القصص الممتلئة بالإثارة والغموض، فالحرب التي غيرت العالم لم تنته من البوح بتفاصيلها رغم مرور قرن على نهايتها.