منذ ما يقارب العشرين عامًا شهدت في عائلتي حدثًا عجيبًا جدًا، إحدى نساء العائلة والتي كانت وقتها قد تخطت الأربعين عامًا وتعيش في الخارج مع زوجها عادت للحياة في مصر بشكل نهائي، رغم أنها ليس لديها أي مسئوليات تجبرها على العودة، فهي حاولت كثيرًا أن تنجب طفلاً ولكنها لم توفق، الكثير من العمليات الجراحية والأدوية والسفر لمطاردة الأمل، ثم لا شيء، إذن ما الذي يجبرها على تصفية أعمالها هي وزوجها بالخارج والعودة؟

 بعد فترة قصيرة أخبرتنا بالإجابة، طفل صغير عمره أيام، تحمله بين ذراعيها وتقدمه لنا، ابنها الذي منحه لها الله أخيرًا، تتركنا في ذهول وتمضي لغرفة أخرى كي ترضعه طبيعيًا، كان هذا الحادث وقتها –منذ عشرين عامًا تقريبًا– ثورة حقيقية، امرأة ضحت بكل شيء في سبيل طفل ليس من دمها، تركت الحياة في البلدة الأخرى المتقدمة الثرية النظيفة وجاءت بعد أن تخطت الأربعين وفي الوقت الذي لا بد أن تبدأ فيه للتخطيط لراحتها بعد أن أنهكتها العمليات الجراحية لتحتضن طفلاً وترضعه من صدرها!

الغريب بما لا يقاس، أن هذه المرأة في هذا اليوم بدت منهكة ومتوردة الوجه، وكأنها وضعت حملاً حقيقيًا توًا، تمشي بتأنٍ وهي تحتضن طفلها الصغير، وكأنها ما زالت تعاني آثار جرح الولادة، بعد شهور وأيام وسنوات، نسي الجميع أن هذا الطفل الذي أصبح شابًا الآن ليس ابنها، عاشوا في تبات ونبات، المرأة والرجل وابنهما، حتى أذن الله برحيلها فتركت في قلب (ابنها) ندبة لن تشفى أبدًا، ولكنها منحته حياة كاملة لم يكن ليحظى بها أبدًا، لولا امرأة واحدة جريئة فعلت فعلاً ثوريًا تمامًا في صمت تام.

الفئات الأقل حظًا

تقول مريم نعوم في لقائها المصور لصالح منصة الساحة الإلكترونية:

معنديش بصراحة قائمة بالموضوعات اللي عايزة أناقشها، عمري ما فكرت إني عايزة اناقش ده وده وده، لكني مهتمة وبراقب طول الوقت الفئات الأقل حظًا.. سواء ستات أو فئة معينة من المجتمع.. ده شاغلني من الناحية الإنسانية أهم حاجة.

طبيبة عيون شابة عزباء لطيفة مع الفقراء تجد فجأة طفلة تلقي لها برضيعة وتخبرها أن أهلها سوف يقتلونها إذا لم تنقذها من أيديهم وتتركها وتهرب، تحاول الشابة الاعتناء بالرضيعة إلى حين توفق أوضاعها في دار للأيتام بعد أن تأكدت من نية عائلة أمها في التخلص منها، تتعلق بالرضيعة وتبدأ في إجراءات الكفالة، لتجد نفسها فجأة أمًا محتضنة لطفل آخر تمامًا يكبر الرضيعة بسنوات وتبدأ هي وطفلها في رحلة مواجهة المجتمع. تلك هي باختصار قصة الموسم الثاني من مسلسل ليه لأ، بطولة منة شلبي في دور ندى، والطفل سليم مصطفى في دور يونس، مع أحمد حاتم ودنيا ماهر وتامر نبيل، من تأليف مريم نعوم مع ورشتها سرد، ومن إخراج مريم أبو عوف، المسلسل يعرض ثلاث حلقات أسبوعيًا على منصة شاهد المدفوعة، وقد حقق المسلسل نجاحًا لافتًا جدًا منذ حلقاته الأولى.

مؤخرًا بدأت السوشيال ميديا في الاهتمام بموضوع الاحتضان والكفالة القانونية والتي لا تخالف الشرع، وبدأت المؤسسات التي تعمل في هذا المجال في الانتشار بشكل واسع واستعراض قضيتهم وتوعية الناس بأهمية الموضوع وتوضيح الفرق بين الكفالة والتبني، بالتوازي مع انتشار المشكلات التي تواجه الأطفال في دور الأيتام والمعاملة التي يتعرضون لها، أصبح المجتمع على دراية بما يحدث في هذا العالم الموازي الذي يصعب علينا كأسر طبيعية أن نكون جزءًا منه.

ورغم أن هذه المؤسسات كمؤسسة الاحتضان في مصر ومؤسسة الوداد وحركة يلا كفالة تقوم بعمل بطولي تمامًا في هذا المجتمع الذي يقاوم أفراده كل وأي شيء ويبدؤون في مهاجمته قبل أن يحاولوا الفهم، فإن التأثير لا يزال محدودًا على أرض الواقع، فعالم السوشيال ميديا يختلف تمامًا وكليًا عن عالم الشارع، فالناس في الشارع لا يعرفون عن التبني سوى أنه حرام، ولا يعرفون عن أطفال دور الأيتام سوى أنهم نبتة سيئة، ولا يرددون سوى أن العرق دساس، ولذلك فإن دور الدراما في هذه القضايا لا يقل أهمية أبدًا عن دور المؤسسات المعنية.

الناس في الشوارع والبيوت بحاجة إلى أن يروا الجانب الإنساني من الحكاية، أن يتعرفوا عن قرب على أطرافها، أن يتفاعلوا مع الأحداث اليومية التي تساهم في تكوين الحدوتة، وأن يخرج الأمر من إطار الأحكام الشرعية والقضايا الورقية والأوضاع القانونية إلى حيز البراح الإنساني، هذا هو الدور الحقيقي للفن، أن يساعد البشر على تحسين جودة الحياة، وهذا لن يحدث أبدًا سوى بتوسيع المدارك واستيعاب كل ما يختلف عنك وعن حياتك ومشاكلك ووجهات نظرك وتجاربك بنفس قدر استيعابك لكل ما يشبهك ويتماشى مع تاريخك الشخصي.

لماذا تعاطف الجمهور مع المسلسل؟

في رحلة هذا الموسم من مسلسل ليه لأ لا نتعرف فقط على قصة ندى ويونس وكيف تحاول التأقلم مع المجتمع بعد قرارها، بل أيضًا نتعرف على قصة سالي وراجي الزوجين اللذين فقدا طفلهما نتيجة مرض مفاجئ وكيف تأثرت سالي بشدة للدرجة التي جعلت حياتها تتوقف تمامًا تقريبًا بسبب مشاعر الذنب التي تأكلها، وكيف يتعامل زوجها مع الأمر، رحلة اكتئابها ومحاولاتها للعلاج وتفسير مشاعرها والتعامل معها، قدمها لنا المسلسل في لحظات كاشفة أظن أنها قادرة على تغيير حيوات الكثيرين، سواء على مستوى تفهم مشاعرهم أو على مستوى وعيهم بكيف يجب أن يتعامل الشريك في هذه الحالات، تلك أشياء لا يعرفها الناس بالسليقة بل يجب أن يتعلموها.

أيضًا من الأسباب التي تجعل المسلسل يكسب أرضًا جديدة كل يوم هو واقعيته الشديدة، هم لم يقدموا ندى على أنها ملاك منزه طاهر لا يرتكب الأخطاء، بل إنسانة عادية تخطئ في حق زميلها الطبيب الذي يريد الارتباط بها وهي لا تخبره بموقفها الحاسم تجاه الموضوع ويبدو أنها تضعه على الرف وتسخر منه مع صديقتها، وترتكب الأخطاء التربوية في حق يونس نفسه، وتهمل صديقتها وتتخلى عنها بسبب انشغالها. أيضًا لم يقدم المسلسل الشخصيات الرافضة لتصرف ندى على أنهم شياطين وأشرار في المطلق، بل أخوها وزوجته بشر عاديون ربما قساة القلوب ولكنهم ليسوا أشرارًا، هم يمتلكون تعريفهم الخاص للصواب والخطأ ولكنهم ليسوا أشخاصًا ذوي بعد واحد فنرى زوجة أخيها تساعدها في كل المواقف التي تتعرض فيها لمصاعب الأمومة لأول مرة، ونرى أخاها يتعاطف مع الطفل الذي يرفضه تمامًا برحمة لأنه مريض.

هذه نقطة قوة شديدة من نقاط قوة المسلسل، أنه يقدم لحمًا ودمًا حقيقيين، أشخاصًا واقعيين مليئين بالمساحات الرمادية التي تمتلئ بها الحياة والتي يعج بها الواقع، الواقع الذي يراه الساذجون أبيض وأسود فقط وهو في الحقيقة أبعد شيء عن هذا، يقدم المسلسل ذلك في إطار درامي بعيد تمامًا عن الوعظ والتلقين، أو كما قالت مريم نعوم في لقائها الذي أشرنا له سابقًا:

ده اللي بيخلي الحاجات توصل للناس .. إنها مش جاية من حتة فوقية إن يللا هنوعيكم.. لأ خالص هو يللا نشوف سوا رحلة شخصية بيعاني من الحاجة الفلانية.

بط هوين؟

مأساة الدراما الحقيقية في السنوات الأخيرة ليست فقر الإنتاج ولا محدودية الإمكانيات، بل فقر الخيال، أو لنقل فقر الواقع. يتشدق صناع الدراما دومًا بالإيرادات التي تحققها أعمالهم الرديئة ويرددون دومًا أن هذا هو ذوق الجمهور، والجمهور يحكم على العمل وطالما العمل يحقق أرباحًا إذن الجمهور سعيد ويريد المزيد من هذه الأعمال.

بينما في الحقيقة أن الأعمال الجيدة تفرض نفسها على الساحة، الجمهور الذي يرى العالم مفتوحًا بين يديه بعد ضغطة زر واحدة جمهور واعٍ، يعرف كيف يفرق بين الغث والسمين، والإيرادات ليست كل شيء فهي تتحكم فيها الكثير من العوامل آخرها ذوق الجمهور وتفضيلاته، ولذلك ليس هناك كلمات نختم بها حديثنا أفضل من كلمات مريم نعوم:

المجتمع مؤهل جدًا لاستقبال أي حاجة بتحترم دماغه، إحنا اللي عاملين التنميط، إحنا اللي مقررين إن المجتمع غير جاهز أو إن الجمهور عايز كده أو إنه مش هيستوعب، بس الحقيقة إن نفس الجمهور ده ونفس المجتمع لما بنقدم له حاجة فيها قدر من التعقيد الناس بتتفاعل.