لبنان و«إسرائيل» وترسيم الحدود: نصر أم تفريط في السيادة؟
جاء اتفاق ترسيم الحدود بين بيروت وتل أبيب بعد فترة طويلة من التعثر والتأزم ليمنع تصاعد التوترات على الحدود الجنوبية للبنان، ويمنع نشوب أية مواجهات على خلفية الخلاف على تحديد الخط الفاصل بين الجانبين، والذي اكتسب أهمية تفوق ما كان عليه في الماضي بسبب وجود الغاز الطبيعي في تلك المنطقة الطرفية.
وعلى الرغم من أنه لا توجد علاقات دبلوماسية بين لبنان وإسرائيل، فإن ذلك لم يمنع التفاوض غير المباشر حول ترسيم الحدود البحرية بوساطة من الولايات المتحدة الأمريكية، وضوء أخضر إيراني.
ماذا حدث؟
تم توقيع وثيقة ترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان من الطرفين بشكل منفصل، الخميس، وقُدمت للأمم المتحدة وثيقة رسمية حددت خط الحدود البحرية.
لم تشهد المراسم مصافحة بين ممثلي الجانبين، بل دخل الوفدان إلى خيمة مقر للأمم المتحدة في الناقورة أقصى جنوب لبنان من مدخلين متقابلين، وقدَّم كل منهما للمبعوث الأمريكي عاموس هوكشتاين نسخته من الاتفاق الموقعة من رئيسه بالإحداثيات الدقيقة، ودخل الاتفاق حيز التنفيذ بمجرد توقيع هوكشتاين.
وبناءً على ذلك أصبح حقل كاريش للغاز تابعًا بأكمله للكيان الإسرائيلي، وحقل قانا تابعًا بأكمله للبنان، لكن لإسرائيل الحق في نيل بعض أرباحه، على أن تتولى شركة توتال الفرنسية، المسئولة عن التنقيب، تعويض تل أبيب عن حصتها في حقل قانا من أرباح الشركة، وليس من الأرباح اللبنانية.
من المستفيد؟
بالتأكيد يحمل هذا الاتفاق مصالح لكل الأطراف؛ فلبنان يعاني من أزمة اقتصادية خانقة، فقيمة عملته تدهورت بشدة، والأوضاع المعيشية تأثرت بشكل سلبي، وتفاقمت أزمة الطاقة مسببة نقص إمدادات الكهرباء، لذا فإن الترسيم يتيح له استخراج الغاز الطبيعي من مياهه الإقليمية، كما يُنظر إليه كمقدمة لفك العزلة الدولية والإقليمية عن لبنان.
كما أراد الرئيس اللبناني، ميشال عون، ختام عهده بإبرام هذه الاتفاقية لتسجيل هذا الإنجاز باسمه، وهو الذي روج أنصاره لفترة ولايته باسم «العهد القوي»، وهي تسمية صارت محل سخرية شديدة بسبب انهيار الاقتصاد وضعف سلطة الدولة في عهده بشكل كبير.
كما يستفيد العديد من قادة النخبة الحاكمة بشكل كبير من بدء استخراج الغاز؛ ففي عام 2017 نجح جبران باسيل، صهر عون، بالتعاون مع حزب الله، في تعديل قانون النفط اللبناني لابتداع دور للشركات الوسيطة في عمليات التنقيب، وتم الكشف لاحقًا عن إنشاء 53 شركة وهمية مملوكة لكبار القادة السياسيين تسرق 60% من نفط البلاد.
ويجبر القانون المعدل شركات التنقيب على التعامل مع هذه الشركات حصريًّا، مما يتيح لرموز النخبة الحاكمة وضع أياديهم على الثروة النفطية، مما يضع علامات استفهام عن إمكانية استفادة عامة الشعب اللبناني من هذه الثروة ومقدار هذه الاستفادة – إن وُجدت – لذا فإن قطاعًا من اللبنانيين لم يكن مؤيدًا لإبرام هذه الصفقة في ظل وجود النخبة السياسية الحاكمة الحالية.
وتعد إسرائيل هي المستفيد الأكبر على كل المستويات؛ فعلى الصعيد الاقتصادي أصبح بإمكانها استخراج الغاز الطبيعي بحرية من حقل كاريش الذي يُعتقد أنه يحتوي على 33 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، في وقت تتطلع فيه تل أبيب لتكون وجهة لتصدير الغاز إلى أوروبا، كما أصبح لها الحق في الحصول على حصة من عوائد حقل قانا أيضًا.
كما أن تل أبيب بهذا الاتفاق حصلت على مكاسب سياسية ودبلوماسية مهمة، تمثلت في الاعتراف الضمني بها من جانب بيروت بعد رفض دام عقودًا طويلة، واعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد أن لبنان «اعترف» بدولته من خلال موافقته على ترسيم حدوده البحرية معها، قائلًا: «هذا إنجاز سياسي فليس كل يوم تعترف دولة عدوة بدولة إسرائيل في اتفاق مكتوب أمام المجتمع الدولي كله».
وذلك على الرغم من حرص المفاوضين اللبنانيين على عدم التقاط أي صورة مع وفد الكيان العبري، تحاشيًا لاتهامهم بالتطبيع مع العدو الصهيوني، وعدم اعتبار بيروت المعاهدة اتفاقًا ثنائيًّا تفاديًا للاعتراف بشرعية إسرائيل.
وداخليًّا تحاول الحكومة الإسرائيلية تعزيز حظوظها في الانتخابات المقبلة عن طريق تسويق هذا الإنجاز الذي لم ينجح فيه رئيس الوزراء الأسبق، بنيامين نتنياهو، الذي يستعد للعودة إلى رئاسة الحكومة مرة أخرى ويعول على الانتخابات المقبلة في إزاحة منافسيه عن السلطة.
وتستفيد الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق من عدة جهات؛ فقد أشرفت على هذه المفاوضات وتوسطت فيها بغرض تحقيق مصالح حليفتها إسرائيل، وبدء استخراج الغاز الطبيعي من هذه المنطقة في وقت يعد فيه دخول أي منتِج جديد للسوق الدولية مصلحة استراتيجية لأوروبا ومكسبًا سياسيًّا لواشنطن لأنه يضعف من فعالية سلاح الطاقة الذي يستخدمه الروس ضد الغرب.
وتستفيد إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن من إحراز هذا الهدف في ظل عجزها حتى الآن عن إضافة دول جديدة إلى اتفاقات التطبيع الإبراهيمية على غرار ما فعلته إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب.
ما وراء الاتفاق
أتى الاتفاق بين بيروت وتل أبيب في ظل أجواء من التفاهم والتواصل بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية؛ وقد تجلى ذلك في إبرام تفاهمات بين الطرفين في هدوء، أسفرت عن رفع طهران حظر السفر المفروض على المواطن الإيراني-الأمريكي باقر نمازي وأفرجت مؤقتًا عن ابنه سياماك في 1 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، وتَوافقَ الطرفان كذلك على دعم تشكيل حكومة عراقية مقربة من طهران بعد تعثر دام لعام كامل، وبالتزامن مع ذلك وافق الطرفان أيضًا على إبرام اتفاق ترسيم الحدود اللبنانية الإسرائيلية.
فحزب الله كان يهدد ويتوعد بتدخل عسكري في ملف ترسيم الحدود عن طريق ضرب منصات التنقيب عن الغاز الطبيعي في حقل كاريش وفق معادلة «ما بعد بعد كاريش»، والتأكيد على «حق المقاومة في الإقدام على أي خطوة في الوقت الملائم، ووفق الحجم الملائم، من أجل الضغط على العدو الإسرائيلي»، لكنه فجأة غيَّر موقفه وخرج أمينه العام حسن نصر الله، على شاشات التلفاز ليعلن قبوله بأي اتفاق ترضى به أجهزة الدولة اللبنانية، على اعتبار أنه ليس جهة مختصة بتقييم هذا الأمر، بل «الدولة هي التي تأخذ القرار الذي تراه لمصلحة لبنان»، في 1 أكتوبر/تشرين أيضًا وهو نفس اليوم الذي تسلم فيه الرئيس اللبناني ميشال عون، رسالة خطية من الوسيط الأمريكي أموس هوكشتاين، حول اقتراحات ترسيم الحدود البحرية.
ورغم ما يحمله الاتفاق من فوائد اقتصادية للبنان عندما يبدأ استخراج الغاز بعد عدة سنوات، فإنه جاء ليذكر اللبنانيين بتحكمات القوى الإقليمية والدولية في قرارهم، وكيف أن استغلالهم لثرواتهم التي تقع داخل مياههم يتطلب توافق القوى الخارجية وليس إرادة شعب لبنان.
ورغم إعلان حزب الله المقرب من طهران أن الاتفاق لا يحمل ضمانات أمنية، بما يحمله هذا التصريح من تهديد مبطن، فإن ذلك لا يغير من حقيقة الأمر شيئًا؛ فترسيم الحدود مع كيان ما هو اعتراف ضمني به بموافقة حزب الله ومن ورائه طهران، وإن ظل لبنان من الدول الرافضة رسميًّا للتطبيع مع كيان الاحتلال رغم الضغوط التي مورست عليه في هذا الصدد.
وسبق أن وقع الرئيس اللبناني الأسبق بشير الجميل اتفاقًا مع تل أبيب ينص على الاعتراف بها عُرف باتفاق 17 أيار عام 1983، إلا أنه ألغي بعد أقل من سنة قبل المصادقة عليه.
ويعزو حلفاء حزب الله إليه الفضل في توقيع الاتفاق لأنه انتزع التنازلات من إسرائيل عبر تهديداته باللجوء للقوة، وأرسل في 2 يوليو / تموز الماضي، ثلاث طائرات مسيرة غير مسلحة فوق حقل كاريش كاستعراض للقوة وإكساب تهديداته مصداقية، وقد تصرف الحزب بحرفية في التعامل مع الموقف، فنأى بنفسه عن توقيع الاتفاق كيلا يُتهم بالتطبيع مع العدو، وفي نفس الوقت أعلن موافقته عليه وصوره كنصر مؤزر للبنان تفاديًا لاتهامه بالوقوف ضد صفقة تحمل فوائد كبيرة للبنانيين، وأيضًا لأن إظهار عيوب الاتفاق وتصويره كتنازل عن جزء من السيادة يضر بشدة بصورة الحزب الذي يتخذ اسم «المقاومة» مرادفًا له.
ولاقى الاتفاق الحالي انتقادات لاذعة في لبنان بسبب اتهام النظام بالتنازل الرسمي عن 1430 كيلومترًا مربعًا من المياه اللبنانية بسبب اعتماد الخط 23 لترسيم الحدود البحرية الجنوبية للبنان بدلًا من الخط 29.
واتهم الباحث والمؤرخ اللبناني، عصام خليفة الذي حاول مؤخرًا الترشح للرئاسة، الرئيس ميشال عون، ورئيس البرلمان، نبيه بري، ورئيس الوزراء، نجيب ميقاتي، بـ «الخيانة العظمى»، لتفريطهم في مياه لبنان، محذرًا من أن العدو سيتخذ من التنازل عن المياه منطلقًا لإعادة النظر في الحدود البرية وإعادة ترسيمها أيضًا.
وسبق أن سعت «قوى التغيير» لمنع توقيع هذا الاتفاق، وهي كتلة من 13 نائبًا ينتمون إلى تيار المحتجين الذين نزلوا إلى الشوارع في أكتوبر/ تشرين الأول 2019 للمطالبة برحيل النخبة السياسية الفاسدة.
وحاول تكتل نواب «قوى التغيير» في البرلمان دون جدوى تمرير مشروع قانون يجبر الدولة على عدم التنازل عن الخط 29، واعتماده كخط رسمي للحدود الجنوبية للمنطقة الاقتصادية الخالصة البحرية للبنان.
وبحسب الكاتب اللبناني حنا صالح، فإن اعتماد الخط 23 لترسيم الحدود يفتقر للأساس القانوني؛ فالخط 29 الذي ينطلق من رأس الناقورة كان منطلق الحدود البرية المرسمة في اتفاقية «بوله نيو كمب» التي جرت بين لبنان وفلسطين عام 1923، بين دولتي الانتداب فرنسا وبريطانيا، وتم تثبيتها في عصبة الأمم عام 1924، واعتُمدت كأساس في اتفاقية الهدنة بين لبنان وإسرائيل عام 1949، مما يمنح لبنان حقوقًا في حقل كاريش.
كما أنه بحسب الرئيس السابق للوفد التقني العسكري المفاوض حول الحدود البحرية، العميد بسام ياسين، فإن الخط 23 هو خط إسرائيلي المنشأ، وليس قانونيًّا، كما اعتبر أن اتفاق 17 أيار 1983 – الذي تم إلغاؤه ورفضه سابقًا – كان يعطي لبنان مساحة أكثر من التي أخذها في الاتفاق الحالي.