لبنان 1987: «شارب محلوق» يشعل الحرب بين سوريا وحزب الله
ضابط في المخابرات السورية برتبة رائد اسمه «جامع جامع خليفة» يقتحم موقعًا عسكريًا لقوات ميليشيا حزب الله في العاصمة اللبنانية بيروت، ويعتقل 22 من مقاتلي الحزب، ثم يأمر بتصفيتهم بالرصاص على الفور، في مجزرةٍ بشعة.
قد يبدو المشهد السابق ضربًا من الجنون أو الخيال، لكن هذا هو ما حدث فعلًا يوم 25 فبراير/ شباط عام 1987، وعُرفت تلك الواقعة بمجزرة ثكنة فتح الله، وكانت جزءًا من سلسلة طويلة من الخلافات السياسية والصدامات العسكرية بين حزب الله اللبناني الموالي لإيران من جهة، والنظام السوري وذراعه الأهم في لبنان في تلك الفترة، وهو المنافس الشيعي الأبرز لحزب الله، حركة أمل، في الجهة الأخرى.
جديرٌ بالذكر، أن تلك الواقعة المذكورة كان لها أبعاد شخصية أيضًا، فقبل عامين، تعرَّض هذا الضابط السوري عام 1985 لموقفٍ عصيب في نفس تلك الثكنة التي ذبح فيها مقاتلي حزب الله، فقد قدم على رأس دوريةٍ سورية لنزع سلاح شباب الحزب، في ظلِّ أجواءٍ من التوتر السوري – الإيراني آنذاك، لكن عاجله مقاتلو الحزب، وأوجعوه ضربًا، وجردوه من سلاحه هو والقوة المرافقة له، وأحرقوا سياراتهم العسكرية. ثم إمعانًا في إذلاله، حلقوا نصف شاربه الأيمن، مع حاجبه اليسرى، وطافوا به في الشوارع المحيطة على طريقة (التجريس) التي اشتهرت في العصور الوسطى.
علا نجم جامع جامع في السنوات التالية التي هيمن فيها نظام الأسد على لبنان، وأصبح من كبار مسؤولي المخابرات السورية في هذا البلد الممزق، وكان يحج إلى مكتبه كبار الزعماء اللبنانيين الموالين لسوريا في لبنان لتنسيق المواقف، والذين أصبح في مقدمتهم مع الوقت -وللمفارقة- حزب الله الذي ذبح جامع شبابَه، وأرهب مؤيده في الضاحية الجنوبية لبيروت شهورًا وأعوامًا.
بعد الخروج السوري من لبنان في 2005، أصبح اللواء جامع جامع مديرًا للاستخبارات العسكرية السورية في دير الزور شرقي سوريا، ليتلقى رصاصة في الرأس في أكتوبر/تشرين الثاني 2013 بعد أكثر من عامين من اندلاع الثورة السورية، والتي شارك بقوةٍ في جهود نظام الأسد في قمعها بقسوة، والتي كانت جهودًا- للمفارقة- شارك فيها وما يزال حتى اللحظة حزب الله.
لا صداقة دائمة ولا عداوة خالدة
رأينا في السنوات العشر الماضية مدى متانة التحالف الوثيق تكتيكيًا وإستراتيجيًا بين النظاميْن السوري والإيراني وتنظيم حزب الله اللبناني، وكيف أسهم هذا في تحوُّلٍ كبير في مسار الأحداث في السنوات التالية لاندلاع الثورة ضد نظام الأسد منتصف مارس/ آذار 2011، فأسهم -إلى جانب التدخل العسكري الروسي منذ 2015- في تثبيت هيمنة النظام السوري على القطعة الأكبر والأهم من الأرض السورية، وإن بدت سيطرته مثل الهيكل الأجوف. كما يشهد لبنان منذ تسعينيات القرن الماضي تحالفًا سياسيًا قويًا وتنسيقًا على أعلى المستويات بين حركة أمل وحزب الله، وكلاهما حلفاء للنظام السوري قبل وبعد رحيله من لبنان.
لكن لا يعرف كثيرون أنه في ثمانينيات القرن الماضي، لم تكن العلاقة بين حزب الله وسوريا على ما يُرام، فقد نظرت الأخيرة لسنواتٍ طويلة إلى هذا الحزب الوليد كذراعٍ إيرانية متمردة على مشروعها آنذاك للهيمنة على لبنان، ومنافس خطير على النفوذ لصنيعتها الشيعيّة في ذلك الوقت حركة أمل، والتي بعد اختفاء مؤسسها الرمز الشيعي البارز الإمام موسى الصدر، أصبحت أكثر تماهيًا مع المشروع السوري في لبنان، والراغب في تحجيم كل نفوذٍ منافسٍ له هناك، لا سيما نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات، والذي أراد أن يستقلَّ بالقرار الفلسطيني عن رغبات الهيمنة السورية.
ثم وقع الصدام الواسع بين القطبين الشيعيّين اللبنانيَّين في أثناء حرب المخيمات 1985-1988، التي شنَّتها قوات حركة أمل الشيعية بإيعازٍ سوري ضد الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، خلالَ الفصول الأخيرة من الحرب الأهلية اللبنانية 1975 – 1990.
وكانت سوريا التي انغمستْ – بإرادتها، وبإذنٍ دولي للجم الفلسطينيين وحلفائهم اللبنانيين بعد انتصاراتهم المدوية في بداية الحرب الأهلية- في المستنقع اللبناني منذ عام 1976، قد تعرَّضت لتحدياتٍ عديدة في فرض هيمنتها على الساحة اللبنانية الملتهبة، كان منها تحول الفلسطينيين إلى خصمٍ سياسي وأحيانًا عسكري لها، وكذلك اتجاه ميليشيا القوات اللبنانية المسيحية إلى التحالف مع إسرائيل ونبذ تعاونها مع السوريين والذي بدأ عام 1976.
ثم كان الضربة السياسية والعسكرية الأشد هي التي تلقتها سوريا في صيف عام 1982 الملتهب الاجتياح الإسرائيلي الواسع لجنوب لبنان وبيروت، وما تخلَّلهُ من ضربة يوم 9 يونيو/ حزيران 1982 الإسرائيلية التي دمرت الدفاع الجوي السوري بلبنان، والقوةَ الضاربة للطيران السوري في أقل من نصف نهار.
اقرأ: الجيش العربي السوري .. تاريخ العار لحماة الديار.
نضوج حزب الله: بين مطرقة إسرائيل وسندان الأسد
كانت البداية الفعلية عام 1978، والذي شهد- مع تصاعد الثورة في إيران- طرد العراق بضغطٍ من شاه إيران لآية الله الخميني من مدينة النجف إلى باريس، وذلك لدوره الكبير في تهييج الجماهير ضد الشاه. في ذلك الوقت خرج العشرات من تلاميذ الخميني اللبنانيين من العراق، ومن أبرزهم عباس الموسوي وصبحي الطفيلي، واللذان سيلعبان دورًا بارزًا في تأسيس حزب الله كممثل إسلامي للطائفة في لبنان، يتبنى النهج الثوري تأثرًا بما يحدث في إيران، التي ستحقق ثورتها نصرًا بارزًا وتتخلص من الشاه عام 1979، ويعود الخميني إلى إيران قائدًا ثوريًا مظفرًا.
في البداية حاول هؤلاء الثوريون المتديِّنون اختراق حركة أمل الشيعية العلمانية، وإصلاحها من الداخل وفق رؤيتهم (صـ 31 .. تاريخ موجز لحزب الله، أوجست نورتون)، ثم اتجهوا إلى تأسيس تنظيمهم الخاص، والذي لم يكُن قد حمل اسمَه المميز بعد.
اقرأ: بشير الجميل و50 كجم TNT غيرت الشرق الأوسط
يقول أوجست نورتون في كتابه «تاريخ موجز لحزب الله»، إن الاجتياح الإسرائيلي الواسع للبنان عام 1982، والذي شهد احتلالًا إسرائيليًا كثيفًا للجنوب اللبناني وبيروت، حيث المعاقل الأهم للطائفة الشيعية، مثَّل فرصة تاريخية لصعود نجم الفصيل الشيعي الإسلامي المقاتل الناشئ، واكتسابه بشرعية الجهاد ضد المحتل المزيد من المقاتلين والحاضنة الشعبية .
اقرأ: بيروت 1982: حين استجدى «الإسرائيليون» الانسحاب
في الشهور التالية للاجتياح من عام 1982، ومطلع 1983، لم يعرف لبنان الهدوء، حيثُ تكاثفت أعمال المقاومة ضد القوات الإسرائيلية بخاصة في الجنوب، بدعمٍ إيراني بدأ يتزايد، رغم الحرب العراقية– الإيرانية المُستَعِرة آنذاك، والمستنزِفة للإيرانيين. كان الشارع الإيراني المعادي لإسرائيل يضغط من أجل مواجهة الاحتلال الإسرائيلي بلبنان تطبيقًا لمبادئ الثورة قريبة العهد آنذاك، وكان الاعتقاد السائد لدى الإيرانيين آنذاك بأن معركتي العراق ولبنان هي مواجهة واحدة، فكلٌّ من العراق وإسرائيل -مع اختلاف التفاصيل- يدعمهما أمريكا، الشيطان الأكبر كما يلقبونها.
اقرأ: لبنان 1983م .. عندما تقاتلتْ إيران وأميركا عن بعد.
في ذلك الوقت العصيب لسوريا الذي كانت تحاول فيه إعادة تسليح جيشها، واستعادة هيبتها في لبنان، لم يجدْ حافظ الأسد بدًا من دعم التمدد الإيراني، لموازنة التفوق الإسرائيلي الكاسح، فتطوَّرت قدرات المقاتلين الإسلاميين الشيعة العسكرية، فنجحوا في كيْل ضرباتٍ ثقيلة لقوات الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي اكتساب المزيد والمزيد من الشعبية والشرعية، وكان من أبرز تلك الهجمات تفجير استشهادي لبناني في نوفمبر/ تشرين الثاني 1982م أطاح بمقر القيادة الإسرائيلية في مدينة صور الجنوبية، مُخلِّفًا 80 قتيلًا إسرائيليًّا.
لم تقتصر ضربات الثوريين الإسلاميين الشيعة على إسرائيل، ففي أبريل/نيسان 1983، أطاحت سيارة مفخخة بمقر السفارة الأمريكية في بيروت ليسقط العشرات من القتلى بينهم بعض أهم عملاء المخابرات المركزية الأمريكية CIA، ثم في نفس العام، يستهدف هجوميْن متزامنيْن مقري القوات الأمريكية والفرنسية في بيروت، ويسقط أكثر من 300 قتيل ومئات الجرحى من المارينز والمظليين الفرنسيين.
لكن بعد حين، ومع إعادة تسليح السوفييت للجيش السوري، وانكفاء إسرائيل إلى أقصى الجنوب اللبناني أمام ضربات المقاومة، ومع سقوط اتفاق السلام الإسرائيلي اللبناني – اتفاق مايو/أيار 1983 – ونجاح السوريين وحلفائهم في السيطرة على بيروت الغربية مجددًا فيما عرف بانتفاضة فبراير/شباط 1984، بدأت أهمية النفوذ الإيراني تتقلص، وزادت التباينات بين السوريين والإيرانيين، لكن فات الأوان على تحجيم كيان حزب الله الوليد، والذي شبّ على الطوق، وانضمَّ إليه المئات من أفراد أمل المتدينين، ولم يعد أمام السوريين وأمل سوى المواجهة المباشرة، لكن كان يشغلهم عنها هاجس أهم، وهو عودة الوجود الفلسطيني المسلح في المخيمات، بعد 3 سنوات من خروج عرفات ورفاقه من بيروت في أعقاب الاجتياح.
حرب المخيمات 1985-1988: حزب الله ينتهز الفرصة
في منتصف الثمانينيات، كان ياسر عرفات هو المطلوب الأول لسوريا، فقد وصلت الخصومة السياسية بينه وبين حافظ الأسد إلى طريقٍ مسدود، لا سيما مع محاولات عرفات إعادة الوجود الفلسطيني المسلح إلى المخيمات اللبنانية تدريجيًا.
أوعز السوريون لحركة أمل بحصار وتطويق المخيمات الفلسطينية لا سيَّما القريبة من بيروت كبرج البراجنة وشاتيلا، لتبدأ حرب المخيمات التي قُتل فيها المئات من المقاتلين من الجانبين، وتعرض الآلاف من المدنيين الفلسطينيين للتجويع والقتل والتهجير. لم يكتفِ المقاتلون الفلسطينيون بالدفاع عن مخيماتهم، إنما شنُّوا العديد من الهجمات المضادة لإجبار أمل والسوريين على التفاوض وكسر الحصار، مما أثار ثائرة السوريين أكثر وأكثر.
وهناك تصريح مُعبِّر- في اجتماعٍ مغلق- نقله ممدوح نوفل قائد قوات الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في لبنان إبان حرب المخيمات، والذي شارك بقوة في الهجوم الفلسطيني المضاد الجريء ضد حركة أمل في منطقة صيدا أواخر عام 1986 في كتابه عن قصة الحرب على المخيمات في لبنان، عن القيادي الفلسطيني ياسر عبد ربه -الذين كان آنذاك نائب الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين- أن السوريين متأثرون من سقوط مواقع حركة أمل في قبضة الفلسطينيين أكثر من تأثرهم لسقوط الجولان في قبضة إسرائيل، وأن تحرير تلك المناطق على يد حركة أمل، أهم عند السوريين من تحرير الجولان.
يذكر نوفل أيضًا، أن حزب الله استفاد كثيرًا من الصدام العنيف بين الفلسطينيين وحركة أمل، فقدْ استُنزِفت الأخيرة عسكريًا وأخلاقيًا من جراء الصمود الفلسطيني، كما استغلّ الحزب رفض العديدين من أبناء الطائفة الشيعية لتوريط أمل وسوريا الأسد لهم في صدام إسلامي- إسلامي ضد الفلسطينيين، لا يستفيد منه سوى أعداء الجميع، إسرائيل، وميليشيا القوات اللبنانية المسيحية.
اقرأ: حرب المخيمات .. الفصل المنسي في الكفاح الفلسطيني
ويعتبر نوفل، أن الفلسطينيين كانوا يشعرون بالراحة لأي تنسيقٍ ميداني أو سياسي مع حزب الله في مواجهة حركة أمل والسوريين، ولذا فقد بحثوا بجدية تسليم بعض المواقع التي استعادوها من حركة أمل في صيدا إلى حزب الله، وذلك لاستمالة الطائفة الشيعية، دون التفريط في النصر الميداني.
حزب الله وعرفات .. اجتماع على عداوة سوريا الأسد
مع الإرهاصات الأولى لظهور حزب الله، كان للفدائيين الفلسطينيين دورُ بارز في تدريب مقاتليه وتسليحهم. ومن المفارقات أن حركة فتح قد أسهمت أيضًا بشكل كبير في دعم وتأسيس حركة أمل أوائل السبعينيات.
يذكر أوجست نورتون، أن كثيرًا من ناشطي حزب الله قبل تأسيسه كانوا على علاقة تنظيمية بالفدائيين الفلسطينيين الذين كانوا القوة الأبرز في الجنوب اللبناني في سبعينيات القرن العشرين، واكتسبوا خلال ذلك كثيرًا من الخبرات الفنية الحربية.
كذلك يذكر يزيد صايغ في كتابه عن الكفاح الفلسطيني المسلح، أن عرفات أمر بتوزيع أطنان من الأسلحة على القوى الوطنية اللبنانية ومنها حزب الله، وذلك قبل انسحابه من طرابلس اللبنانية في ديسمبر/ كانون الأول 1983، عقب اتفاق الهدنة الذي أنهى الصدام العسكري العنيف بين منظمة التحرير الفلسطينية من جانب، وخصومها المنشقين عن حركة فتح من الموالين لسوريا ومعهم وحدات من الجيش السوري من جانب آخر. وخلال عامي 1984 و1985، تعاون الفدائيون الفلسطينيون مع مقاتلي حزب الله في شن هجماتٍ عديدة ضد القوات الإسرائيلية في جنوبي لبنان.
ومع بداية حرب المخيمات التي شنّتها حركة أمل بإيعاز من سوريا ضد الفلسطينيين في المخيمات قرب بيروت وفي جنوب لبنان، ظهرت أوجه عديدة للتعاون بين الفدائيين الفلسطينيين وحزب الله، واعتقلت أمل العشرات من الفلسطينيين الذين يحاولون تهريب الأسلحة إلى كلٍ من فتح وحزب الله.
وزوّد حزب الله الفلسطينيين المدافعين عن مخيم شاتيلا المُحاصَر من قبل حركة أمل بالعديد من وسائل الصمود، مثل الآلاف من أكياس الرمل، ومعدات الاتصال اللاسلكي، ووسائل حفر الأنفاق والخنادق للحماية من القصف المدفعي العشوائي من قِبل السوريين وحركة أمل.
وكان الموقف الإيراني في العموم معارضًا لتصفية الوجود الفلسطيني في لبنان، وتجسَّد هذا في بعض التحركات الرمزية مثل إرسال إيران لمندوبيْن تابعيْن لها إلى مخيم الرشيدية قربَ مدينة صور، والمُحاصَر بشكلٍ خانق من قِبل قوات أمل. وذكر ممدوح نوفل في كتابه عن حرب المخيمات، أنه في خضم معركة السيطرة على قرية مغدوشة الإستراتيجية شرقي صيدا، لم تنقطعْ الاتصالات والتنسيق بين القوات الفلسطينية المشتركة وقوات حزب الله.
وخلال شهري يناير وفبراير عام 1987، هرّب حزب الله بعض الأغذية الضرورية إلى مخيم برج البراجنة الفلسطيني قرب بيروت.
إجمالًا، استفاد حزب الله من الضربات الجريئة التي سدّدتها قوات منظمة التحرير الفلسطينية لحركة أمل في منطقة شرق صيدا جنوبي لبنان، لا سيّما احتلال قرية مغدوشة أواخر عام 1986، وينقل ممدوح نوفل، أن الأمين العام لحزب الله آنذاك عباس الموسوي ذكر له في اجتماع مغلق بينهما أن نجاح الفلسطينيين في شرق صيدا هو نجاح لحزب الله ضد نبيه بري قائد حركة أمل، وظُلمه، وأن هذا النجاح أربك المشروع السوري المشبوه في لبنان، وأن العد العكسي لإنهاء هيمنة حركة أمل بدعمٍ سوري على الطائفة الشيعية قد بدأ، وأن حزب الله هو الوريث الشرعي لنفوذ حركة أمل.
كان الموسوي يرفض الهيمنة السورية على لبنان، ويراها سياسة استعمارية، ولذا فقد تمسك بالدعم الإيراني لموازنة النفوذ السوري.
أمل وحزب الله: حرب الإخوة
لم يكُن مستغربًا أن تتطور الأمور بين الغريمين الشيعيين إلى مرحلة الحرب المفتوحة في عام 1987، فإلى جانب التناقضات الفكرية والتنافس الميداني، واختلاف مصالح الداعمين، كان لجهود حزب الله في دعم صمود الفلسطينيين دور في تحجيم مكاسب أمل والسوريين من حرب المخيمات، وإحراجهم أمام العالم العربي والإسلامي بوجهٍ عام، وأمام شيعة لبنان والفلسطينيين بشكلٍ خاص. وعرفت تلك الصدامات بين حزب الله وأمل بحرب الإخوة.
خلال أسابيع من القتال الشرس، تمكَّن مقاتلو حزب الله من السيطرة على مقر أمل في ضاحية بيروت الجنوبية، ثم فرضوا هيمنتهم على تلك المنطقة التي تعتبر معقل الشيعة في العاصمة اللبنانية، بينما كان لأمل الغلبة النسبية في معارك الجنوب اللبناني ضد الحزب، والتي امتدت إلى العام التالي، حيث سيطرت أمل على بلدة النبطية الإستراتيجية في الجنوب. وفي عام 1988 أيضًا، ونتيجة للحرج السياسي بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى -انتفاضة الحجارة- عام 1987 في الداخل الفلسطيني المحتل ضد إسرائيل، اضطر السوريون وأمل لإيقاف حرب المخيمات، وبالتالي تفرَّغت أمل لصراعات النفوذ ضد حزب الله.
وقد استغلّ السوريون الفوضى العارمة التي اجتاحت بيروت، لا سيَّما ضاحيتها الجنوبية الشيعية جرَّاء تلك الصدامات بين مقاتلي حركة أمل وحزب الله، وخروج مظاهراتٍ من أهل تلك الضاحية للمطالبة بالتدخل السوري للجم الفوضى، وبدأوا في نشر قواتهم مجدَّدًا في بيروت بشكلٍ واسع للمرة الأولى منذ الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وتخلَّل الانتشار السوري مواجهات عسكرية عديدة مع مقاتلي حزب الله لا سيما بعد مجزرة ثكنة فتح الله التي أشرنا إليها في صدر المقال.
ومن المفارقات أن تلك الحرب الأهلية الشيعية قد فرَّقت بعضَ الأسر على جانبي الجبهة، فمثلًا كان الأمين العام الحالي لحزب الله حسن نصر الله في مواجهة أخيه حسين نصر الله المنتسب لحركة أمل آنذاك.
وكان من أبرز أحداث تلك الحرب أيضًـا، اغتيال داود داود ل ، القيادي من أصل فلسطيني في حركة أمل يوم 23 سبتمبر/أيلول عام 1988 جنوبي بيروت، وقد اتهمَت «أمل» في حينه إسرائيل بالمسؤولية عن هذا الاغتيال، حتى لا تتفاقم الأمور عسكريًا في الشارع الشيعي، والحركة ما تزال منهكة بعد ثلاثة أعوام من الصدام مع الفلسطينيين وحزب الله. لكن أشار كثيرون بأصابع الاتهام لحزب الله، حتى إن الحواجز السورية التي انتشرت في موقع الحادث كانت تعتقل كل من يصادفها من منتسبي حزب الله.
يُذكَر أنه في ذروة حرب المخيمات أصدر بعض مشايخ الشيعة الموالين لحزب الله فتوى سرية بإهدار دم داود، وذلك لارتكابه جرائم حرب ضد الفلسطينيين وخصوم أمل. وقد ثارت ضجة محدودة في لبنان عام 2019 بعد ترشيح حركة أمل لابنه محمد داود وزيرًا للثقافة، إذ اعتبر هذا نكأً لجراحٍ قديمة.
وقد تكرر فرض الهدنة بين الجانبين باتفاقٍ سوري – إيراني، ثم لا تلبث الخروقات أن تقع، ويعود القتال، واستمر ذلك إلى نهاية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990، حيث اتفق الطرفان على الحفاظ على الأمر الواقع المفروض على الأرض في توزيع مناطق السيطرة والنفوذ، وتعزز التحالف بين الغريمين الشيعيَّين مع توافق مصالحهما بمرور الوقت، وكذلك متانة التحالف بين الراعييْن السوري والإيراني، واتفاقهما على دعم حزب الله بشكلٍ مشترك كرأس حربة لمصالحهما في مواجهة إسرائيل، والقوى اللبنانية الأخرى.
وهكذا لم يكن مستغربًا أن يلقي حزب الله بثقله السياسي والمعنوي في محاولة عرقلة الانسحاب السوري من لبنان عام 2005، وهو الذي كان يحارب سوريا قبل أقل من 20 عامًا، ثم يقدم المئات من مقاتليه فداءً لمصالحه مع نظام الأسد بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011.