جيش لبنان: من «رفيق الحريري» إلى «حزب الله»
في السابع عشر من يونيو/حزيران عام 1944، وقف الرئيس اللبناني «بشارة الخوري» في إستاد بيروت ليُسلِّم علم البلاد إلى الجنرال «فؤاد شهاب»، الذي بات أول قائد للجيش اللبناني بعد إعلان الاستقلال رسميًا عن فرنسا.
وعلى مدار العقود الطويلة التالية، لم تكن القوات المسلحة اللبنانية بعيدة عن الأحداث التي دفعت الدولة العربية مرارًا نحو الانهيار، فإما شاركت في وقوعها، أو كانت من بين من ذاقوا نتائجها.
وسط جلبة الحديث عن «نجيب ميقاتي» رئيس الوزراء المكلف بتشكيل الحكومة، وخلال حالة الغضب العارم المسيطرة على الشعب، يهدد سيناريو الانهيار جيش لبنان، أو بالأحرى أحد الجيشين الموجودين فيها إلى جانب حزب الله المدعوم من إيران.
معاناة لوجستية
بحسب موقع Global Fire Power، يحتل الجيش اللبناني المركز الـ 116 بين قائمة جيوش العالم التي صنفها الموقع والتي تشمل 140 جيشًا، بميزانية تبلغ 2 مليار و300 مليون دولار أمريكي، لكن الانهيار الدرامي لقيمة الليرة اللبنانية، وتراجع القوة الشرائية، كان لها أثر كبير على جنود أفراد الجيش الذين بات راتبهم أقل من مائة دولار شهريًا.
الأمر لم يتوقف عند صغار الجنود، بل إن راتب قائد الجيش «جوزيف عون»، الذي حذّر من أن حالة الجوع التي ضربت البلاد وصلت كذلك إلى أفراد الجيش، تهاوى إلى ما يقرب من 700 دولار فحسب، بينما كانت رواتب القيادات تصل إلى ستة آلاف دولار قبل تفاقم الأزمة.
وقبل ما يزيد عن عام من الآن، بات أفراد جيش لبنان محرومين من تناول اللحوم التي كانت تُقدَّم لهم خلال عملهم، بينما ترددت الشكاوى كذلك من التراجع الشديد لمستوى الخدمات الطبية المُقدمة لهم.
لا أريد أن أكون هنا
لكن الحديث عن شبح الانهيار والتفكك الذي يحوم حول قوات البلد المنكوب لم يأت من فراغ، إذ أشار تحليل نشره مركز كارنيجي لشئون الشرق الأوسط في يونيو/حزيران 2021، إلى زيادة حالات التغيب بين أفراد الجيش اللبناني دون الحصول على تصريح، وارتفاع عدد وقائع التقصير في أداء الخدمة، والتحاق الأفراد بعمل إضافي لتأمين احتياجاتهم، وإن بقي عدد حالات الهروب منخفضًا إلى حد ما.
ومنذ عام 2019، العام الذي اندلعت فيه ثورة تشرين ضد حكومة سعد الحريري السابقة، اختار ما يقرب من 4500 فرد من أفراد الجيش اللبناني الرحيل الاختياري عن مناصبهم، وهو ما يعني خسارة الإمكانيات والقدرات العقلية العسكرية التي عملت بيروت على تطويرها منذ الخروج من مرحلة الحرب الأهلية، وانتهى كل ذلك بعقد مؤتمر دولي، في يونيو/حزيران 2021، لمساعدة المؤسسة العسكرية للدولة العربية، وإعلان العديد من البلدان تقديم مساعدات غذائية وطبية لها.
جانٍ أم مجنيّ عليه؟
بعد انتهاء الحرب الأهلية التي أدت إلى انقسام الجيش اللبناني، وتوقيع اتفاق الطائف في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، تولى «إميل لحود» مهمة إصلاح المؤسسة العسكرية للبلاد، لكن السياسة التي انتهجها كانت تدور في فلك التحالف مع حزب الله وسوريا، التي لم تُنهِ وصايتها على لبنان إلا في 2005، وحاول لحود كذلك الاستفادة من هذا التعاون للتصدي لدولة الاحتلال الإسرائيلي.
لكن لحود اصطدم آنذاك بالضباط الموالين للعماد ميشال عون، الرئيس الحالي للبلاد، والذي انهزم في حربه على القوات السورية، وهو ما أدى إلى حرص الأول على عدم توسع نفوذ منْ تبقى منهم، كما مهّد لنفسه الطريق ليصل إلى منصب رئيس الجمهورية، بإقصاء قيادات المؤسسة من أبناء طائفته من الموارنة، لدرجة وصلت إلى منع تعزيز علاقتهم مع دمشق، ما يشكِّل دليلًا على أن هذه الصراعات كانت بعيدة عن الهوية والنزعات الدينية.
لكن الطائفية داخل المؤسسة عادت لتطل من جديد عندما وصل رفيق الحريري إلى منصب رئاسة الوزراء في التسعينيات، والذي لم يكن لحود على وفاق معه لأسباب عديدة، من بينها المبالغ الطائلة التي قدمها الحريري للجيش خلال الحرب الأهلية دوريًا وفي الخفاء، بالتعاون مع ميشال عون، خلال فترة توليه قيادة الجيش، والذي وصف هذه المساعدات، في يوم من الأيام، بأن بدونها لسار المجندون «حُفاة»، بحسب وسائل إعلام لبنانية.
كما كان يخشى الرئيس اللبناني السابق أن يحاول الحريري التدخل في شئون المؤسسة العسكرية من خلال الضباط المسلمين المنتمين للمذهب السني، ما أدى كذلك إلى إقصائهم، مع التكلف في إظهار عكس ذلك بالحرص على مشاركة هؤلاء الضباط اللقاءات بين الجانبين. ورغم ذلك فإن هذا الصراع أيضًا يمكن وصفه بأنه سياسي في المقام الأول، لا سيما مع معارضة رئيس الوزراء لاستمرار سيطرة دمشق على بلاده.
علاقة جيش لبنان بحزب الله
كل هذه الأمور تقاطعت مع اتساع نفوذ وقوة حزب الله، ذراع طهران في الدولة العربية، ليدور السؤال عّما إذا كانت القوات المسلحة اللبنانية عجزت بالفعل عن وقف تمدده أم أنها دعّمته بصورة أو أخرى.
تشير الباحثة «نايلة موسى»، في تحليل نشره مركز كارنيجي، إلى أن الفترة التي تلت انتهاء الاقتتال الطائفي شهدت تنامي العلاقات بين الطرفين، لكن هذا الأمر أخذ منحى جديدًا بعد أحداث 2008، حينما سيطر الحزب والقوات الموالية له على مناطق واسعة من أراضي العاصمة، للثأر من الإجراءات التي اتخذتها السلطات بشأنه آنذاك، فما كان من الجيش اللبناني إلا أن ينتشر في شوارع بيروت كقوة «عازلة» لا أكثر، ليتم اتهامه بالانحياز للحزب والتقاعس عن التصدي له، ما دفع عددًا من قيادات الجيش من السنّة لتقديم استقالتهم، معتبرين أن مهمة المؤسسة تتلخص في حماية جميع السكان.
وأودت تلك الأحداث، التي شهدت مواجهات مع عناصر سنّية، بحياة العشرات، وهي الأحداث التي أتت بعد عامين فحسب من إعلان التحالف بين «عون»، العائد من منفاه، وحزب الله.
أحد المسئولين العسكريين في لبنان أكد، في تصريحات إعلامية قبل أيام قليلة من انفجار مرفأ بيروت في أغسطس/آب 2020، أن جيش بلاده لا يتمكن كذلك من التصدي لعمليات نقل الذخيرة التي يمتلكها الحزب، بموجب قرارات السلطات، لكن هذا الأمر امتد كذلك إلى الأسلحة التي يتم نقلها في الخفاء في أماكن سيطرته.
بيروت أيضًا لم تجد غضاضة في الاعتراف بأنها لا تستطيع الوقوف منفردة أمام إسرائيل أو خطر الجماعات الإرهابية المحيطة بها من كل جانب، وهو ما برز في العملية المشتركة بين الطرفين لمواجهة عناصر تنظيم داعش في 2017.
لكن هذا يقودنا إلى سؤال آخر حول مدى تأثير ذلك على علاقة الجيش النظامي بلبنان والغرب، إذ يرى الكاتب نيكولاس بلانفورد، في تحليل كتبه مارس/أذار الماضي 2021، أنه غالبًا ما كان صعبًا على الولايات المتحدة الأمريكية، الداعم الأكبر لبيروت عسكريًا، أن تفهم العلاقة بين الطرفين فهمًا كاملًا.
يصف «بلانفورد» العلاقة بين الجيش اللبناني وحزب الله، بالمعقدة للغاية، ففي الوقت الذي تتعاون فيه المخابرات الحربية اللبنانية مع الحزب، لا سيّما في الأنشطة المتعلقة بمكافحة أنشطة التجسس التي تقوم بها إسرائيل أو الجماعات المتطرفة، يُبدِي العديد من ضباط الجيش انزعاجهم من مسألة مشاركة الواجبات الدفاعية مع جماعة يشرف عليها المرشد الأعلى الإيراني، مضيفًا أن نفوذ الحزب قد توسع لدرجة تعجز القوات المسلحة أو أي جهاز أمني أو سياسي داخل الدولة عن إخضاعه.
الجيش اللبناني والفساد
وكما ضرب الفساد كل مؤسسات الحياة في البلد الذي يقترب عدد سكانه من 7 ملايين نسمة، سبق أن طالت الاتهامات مؤسسته العسكرية أيضًا، فقبل 4 سنوات، تكشّفت «فضيحة المدرسة الحربية»، عندما ألقت قوات الأمن القبض على سبعة أشخاص من بينهم «أحمد الجمل» أحد القادة المتقاعدين لجهاز الأمن العام اللبناني، بتهم تلقي رشاوى لتسهيل إلحاق بعض الطلاب بالكلية الحربية، وسط تساؤلات نقلتها الصحف المحلية هناك عن سبب عدم إدراج أي عسكريين في لائحة الاتهامات.
وزير الدفاع السابق «إلياس أبو صعب» قال إن قيمة الرشاوى التي حصل عليها المتهمون وصلت إلى ما يقرب من 20 مليون دولار أمريكي، وفقًا لصحيفة The Daily Star.
لكن الأمر تطور لاحقًا، بعد إصدار قانون الإثراء غير المشروع، فتم توجيه اتهامات إلى قائد الجيش اللبناني السابق «جان قهوجي»، المقيم في إحدى الدول الأوروبية حاليًا، وعسكريين آخرين، بتلقي الرشاوى والتربح من وظائفهم، والتورط في مخالفات، من بينها تسهيل انضمام الضباط إلى القوات المسلحة للبلاد.
وفي نهاية العام الماضي (2020)، أصدرت السلطات القضائية حكمها بحبس «أحمد الجمل» لمدة عامين، وإلزامه بسداد غرامة قدرها نصف مليار ليرة، والحجز على ممتلكاته.