رحلة حول العالم: برج بيزا المائل والمعماري المجهول
في رحلة أتمنى أن تستمتعوا بها برفقتي سأصحبكم في جولة حول العالم لاكتشاف أسرار معالم ومبانٍ معمارية شغلت العالم بغموضٍ ما حولها.
واخترت أن تكون مدينة بيزا بإيطاليا محطة أولى لهذه الرحلة، وعلى ذكر مدينة بيزا، فسرعان ما يتبادر إلى الأذهان برج بيزا المائل الشهير، وهو مقصدنا الحالي. أما الآن فلنربط الأحزمة ونستعد للهبوط.
ميدان المعجزات وبرج بيزا
بيزا هي مدينة تجارية سياحية وميناء حيوي في إيطاليا، كان يقصدها قديمًا الحُجَّاج القادمون من أوروبا كاستراحة في طريقهم لبيت المقدس.
اشتهرت قديمًا بأبراجها المتعددة، رمز القوة والثراء، المُشيَّدة على الطراز الروماني، لكن شعبها كان يشتهر بتورطه في النزاعات العسكرية والاتفاقات التجارية، حيث هاجم شعب بيزا مدينة باليرمو في جزيرة صقلية عام 1063م، وكان الهجوم ناجحًا، فعاد جنود بيزا حينها إلى المدينة بكنزٍ كبير.
وبرغم الصراعات التي خاضها شعب بيزا، فإنهم أرادوا أن يُظهروا للعالم مدى قوة وعظمة مدينتهم، فأقاموا مجمع كاتدرائية بيزا العظيمة أو ما يسمى بـ «ميدان المعجزات» الذي تضمن كاتدرائية عظيمة البنيان والمعمودية والبرج وأيضًا المقبرة.
برج بيزا هو برج جرس كاتدرائية بيزا، ويُقال إن من وضع تصميمه في الأساس هو المعماري «بونانو بيزانو»، وفي أقوال أخرى يُقال المعماري «جيراردو دي جيراردو»، لكن بالرغم من قوة تلك الاحتمالات، فالبعض الآخر يرجح أن مصممه الحقيقي هو المعماري «ديوتيسالفي» لأنه من صمم بيت المعمودية بالمدينة.
ميل البرج والتهديد بانهياره
صُمِّم البرج على أن يكون عموديًّا، وأن تكون الأساسات على عمق 10 أقدام فقط تحت الأرض، نظرًا لوجود مياه كثيرة في التربة، لكن ما إن بدأ بناء الطابق الأول عام 1173م حتى مال البرج ناحية اليسار، وحاول بناة البرج تعديل شكله عن طريق بناء الأعمدة والـ arches أطول في الجهة الشمالية بمقدار إنش واحد عن الجهة الجنوبية. وعند الوصول للطابق الرابع استمر البرج في الغوص أكثر، فاضطروا إلى جعل الأعمدة والـ arches أطول في الجهة الشمالية عن الجنوبية بمقدار إنشين.
لكن استمرار ميل البرج وقتها حال دون استكمال بنائه، نظرًا لصعوبة البناء وخوفًا من أن ينهار البرج قبل الانتهاء.
يعود سبب الميل إلى هبوط الأساسات بشكل غير متساوٍ بسبب التربة الناعمة المكونة من طين ورمل مدموك بشكل غير متساوٍ، وبالتالي لم تحتمل ثقل المبنى، وهذا ما جعل أبراجًا أخرى في المدينة مائلة أيضًا مثل برج جرس كنيسة «سانت ميشيل دي سكالزي»، وبرج جرس كنيسة «القديس نيكولاس». أيضًا تعاني الكنيسة وبيت المعمودية من هذا الهبوط لنفس السبب. لهذا فإن الخطأ وقع في الأساس على المصمم لعدم دراسته للتربة لاختيار المكان المناسب قبل البدء في التصميم، لكن سبب الاختيار للمكان ينحصر فقط في أن يطل البرج على ساحة المعجزات بجانب الكاتدرائية(1).
استئناف العمل بالبرج من جديد رغم الميل
بعد توقف دام قرنًا تقريبًا؛ عادا المعماريان «جيوفاني بيزانو» و«جيوفاني دي سايمون» لاستئناف العمل من جديد في بناء البرج عام 1272م، رغم استمرار البرج في الميلان لكن في الاتجاه المعاكس، إلا أن فريق البناء كانوا آملين أن تنجح طريقة جعل الأعمدة أطول في الجهة الجنوبية عن جهة الشمال، فتوقف البناء بعد الطابق السابع لعدم استقرار البرج واستمرار ميله تجاه الجنوب.
بين عامي (1350م و1372م) أنهى المعماري «توماس بيزانو» بناء البرج، بعد مرور قرنين من الزمان في عملية البناء؛ فقد بنى الطابق الثامن وهو حجرة الجرس، وحرص على أن تكون الحجرة مائلة ناحية الشمال لتعديل البرج المائل ناحية الجنوب.
على الرغم من جميع المحاولات لكن البرج لم يتوقف عن الغوص أكثر، ومن ضمن المحاولات كانت محاولة صب الإسمنت في أساسات البرج حتى يتمكن من الثبات بأمر من «بينيتو موسوليني» ويعود لوضعه الأفقي، لكنها باءت بالفشل، وحدث عكس المتوقع وجعلت البرج يهبط أكثر في التربة.
وفي عام 1964 عُيِّنت مجموعة كبيرة من المهندسين والمؤرخين لدراسة كيفية تثبيت البرج بطلب من حكومة إيطاليا، وبعد مرور 30 عامًا تقريبًا من البحث الذي لم ينمَّ عن حل نهائي، أُغلِق البرج، ومُنع السياح من دخوله لاعتباره آيلًا للسقوط في أي لحظة في عام 1990.
في منتصف ديسمبر/كانون الأول عام 2001، أُعِيد افتتاح البرج، بعد أن توصلوا لحل يُبقي البرج آمنًا لمدة ثلاثة قرون، وذلك بإزالة 38 مترًا مكعبًا من التربة أسفل الطرف المرتفع من قاعدة البرج.
تأثر طراز البرج بالعمارة الإسلامية
برج بيزا كغيره من المباني الموجودة في إيطاليا في هذه الحقبة الزمنية بُني على الطراز الروماني، فظهرت الـ arches واضحة في واجهات المبنى، وكذلك الأعمدة ذات التيجان الرومانية، كما أنه بُني من حوالي 14 ألف طن من الرخام الأبيض، لكن الواضح على واجهات المبنى وكذلك مبنى الكاتدرائية هو التأثير الإسلامي، سواء من ناحية العقود الإسلامية على شكل حدوة الحصان، أو عمل الزخارف من الحجر نفسه المُستخدَم في البناء ذات الشكل المائل للطابع الإسلامي.
هذا التأثر الإسلامي له عدة احتمالات؛ إما بسبب دخول العرب للمنطقة، وبالتالي تأثر المعماريين والفنانين بالعمارة الإسلامية، أو بسبب عمل الفنانين العرب بالكنائس في ذلك الوقت. وهناك احتمال آخر، وهو تأثر الطابع الروماني بالطابع العربي القادم من إسبانيا حيث كانت الأندلس.
يبلغ ارتفاع البرج 60 مترًا في التصميم الأصلي، أما بعد التنفيذ فيبلغ ارتفاعه 56.67 متر في الجانب الأطول، و55.86 متر في الجانب الأقصر. ويحتوي البرج على حوالي 251 درجة في سلم حلزوني، وقد أُمِدَّ بمصعد كهربائي في الوقت الحالي.
بالنسبة للميل فهو مائل بـ 3.99 درجة تقريبًا، بمعنى أن قمة البرج رُحِّلت في الاتجاه الأفقي حوالي 3.9 متر من وضعها الأصلي.
بعد انتهاء الرحلة في مدينة بيزا، قمت بتجميع بعض الآراء من بعض المهندسين المعماريين حول ما إن كان يجب إنهاء العمل في البرج منذ بداية اكتشاف ميله أو كان بناؤه هو الحل الأفضل؟
تراوحت الإجابات بين أنه كان يجب إعداد دراسة للتربة قبل البدء في البناء وإيجاد حلول لجعل المبنى ثابتًا قبل البدء فيه كما فعل المعماري «نعوم شبيب» في الخمسينيات قبل أن يبدأ في مشروع إنشاء برج القاهرة، لكن الموارد لم تكن لتساعد صُنَّاع برج بيزا في ذلك الوقت، أو أنه كان يجب إزالته بعد اكتشاف الميل.
لكن الإجابة الأمثل كانت: «لو أن البناء لم يكتمل أو تمت إزالته، لما استطعنا أن نستمتع بالجمال المعماري والفني لإحدى العجائب الدنيوية السبع».
- رضا عبد الحكيم، “برج بيزا المائل: هل يكف عن الميلان؟”، مجلة الفيصل، العدد 327، أكتوبر/نوفمبر 2003.