رواية «ليا»: بين رقة الجمال وسطوته
للكلمات سحر مخادع، وبقدر جمالها فبوسعها أن تكون خبيثة ومرعبة أحيانًا… هذا هو ما أدركْته أمام هذه الحكاية، فاسم «ليا» كان له من النعومة واللطف ما لم أستطع مقاومته، اقتنيتها مأخوذة بلطف اسمها وغواية الاستكشاف، وهو ما لم يكن بلا مقابل.
بسرعة غريبة، امتصتني الحكاية كخيوط عنكبوت أحكم نسيجها حولي، لكني كنت أعقل من التخبط فيها. وبشكل ما، استنتجت أن السبيل الوحيد للتحرر منها هو في الاستسلام لها، في إعطائها فرصة التعبير الكامل عما أتخمها لتصبح أكثر خفة حين تتخلص من ثقلها فأتخلص منها. كان في ذلك شيء من المنطق لكنه كان في النهاية خادعًا، فرغم انتهائها كان أثرها أكبر مما توقعت.
هذا ما قاله الراوي الذي فوجئت لوهلة أني لا أذكر اسمه ولم أهتم بمعرفته على طول الحكاية، وهذا الأثر الذي تحدث عنه الراوي المجهول هو ذاته الذي بدأت كتابة هذه الكلمات مدفوعة به.
أنهيتها… لكن ذلك ليس بالأمر الجلل، العبرة كلها في كيفية إنهائها، في الطريق أكثر من النهاية ذاتها أو المآل. وقد كان طريقًا برغم انسيابيته واستقامته «لا متناهٍ… تسير فيه دون توقف». كنت أتقدم في القراءة بتلقائية وبلا وعي، وفي لحظات الانقطاع القليلة حين تعاودني اليقظة، ينتابني الشعور بكوني أقرأ مُسيّرة لا مُخيّرة، فقد كنت واقعة في سحر القصة أو المأساة التي لم تكشف عن نفسها حتى النهاية، بخجل موارب، فيما يبدو مهادنة لمشاعر القارئ المغيب.
هل هي رائحة المأساة؟
انعزلت الفتاة «ليا»، ذات الثمان سنوات بعد وفاة والدتها في عالم منفصل، لا يمكن للأب الوصول إليه. فقط صوت الكمان يعيدهم إلى الحياة، وقد تبين أن الفتاة تمتلك موهبة موسيقية غير عادية، وهو ما قادها إلى نجاح جارف، أبعدها أكثر عن والدها (فان فليت)، الذي أتعبه الشعور بالوحدة. وفي محاولة يائسة لاستعادة حب ابنته وقربها، يصبح متورطًا في جريمة تغير كل شيء.
الحكاية كلها تقريبًا تشبه سعيًا مبهمًا خلف الهيئة الضبابية، لذلك الذي سيحصل لاحقًا من خلال ما هو حاضر بالفعل من الأحداث في زمن الحكي، فضول خَجِل لمعرفة ما كان يمكن ألا يحدث، لكنه حدث، ونحن مطالبون بشكل ما، لا بالحكم عليه، وإنما بتفهمه، بمحاولة استيعابه، تمامًا كما فعلت القاضية التي «عملها يتمثل أيضًا في تخيل مدى صعوبة ألا يفعل ما فعل بالنسبة إليه». وردًا على جواب «فان فلييت» القاطع: «مستحيل»، وجدتني منساقة للرغبة في معرفة نقيضه الممكن.
ثمة شيء في الجهل يُغري، ربما كمحاولة لاستكمال الناقص فيك، أو هي غواية الاحتمالات، أو ربما ببساطة هي الرغبة في «قطف النجوم»، والتي تخفي علينا سذاجتنا أننا مدينون بهذه الرغبة والشغف لبعد النجوم واستعصائها على التملك، لوجودها المطلق وأشعتها المتحررة القادرة أحيانًا على ملاطفتنا، والفرار منا دائمًا. لكن هل يمكن لجذوة الشغف أن تغدو نارًا تأتي على الرطب فينا كما اليابس؟ ألّا تنضجنا، وإنما تحيلنا رمادًا في مهب الموت؟
ليا مثال، يُحيي موتها هذا التساؤل.
ربما الضوء الخافت في آخر النفق حقًا هو القطار الذي سيدهسنا، والغريب أننا سنبقى جامدين عاجزين عن إدراك معنى اندفاعه الهادر… عن رؤية شبح الهلاك المتربص بنا خلف اندفاعه، كمن أصابته الحمى بهذيانات يائسة.
مقاومة الاغتراب
بعكس ليا وفان فلييت، وحتى بعكس شبح شخصية «المغاربي» الحاضر بغيابه منذ البداية، وبرغم الطريقة التي ظهر بها فجعلته أشبه بحكم حازم لا مراء في كلماته، ما يجعل له سطوة وحضورًا بارزًا رغم الغياب. أنت، كقارئ، تُمنح شيئًا من الوعي أو امتياز المعرفة، فتستشعر قدوم ذلك المجهول وتتربص به بكل أناة وصبر، وفي أثناء ذلك لا تملك إلا أن تترك قلبك للراوي المجهول يخرجه ويعتصره كإسفنجة قبل أن يعيده إليك مثقلاً بحمل من المشاعر المختلطة بين الحزن والأسى والتعاطف، هل كانت السعادة بينها؟ لا. على الأقل، ليس بما يكفي لترسم على شفاهك ما يزيد عن شبح ابتسامة باهتة.
أثناء القراءة، بقيت «ليلة لشبونة» (رواية للكاتب إريش ماريا ريمارك) حاضرة في بالي بغير قليل من الشبه مع هذا العمل. فبرغم تعرض كلٍ منهما للجانب المعقد والمظلم من الإنسان، إلا أنها تقوم في الأساس على واحدة من الثيمات الأكثر كلاسيكية وصراحة في تعبيرها عن الجزء الأبسط منا: الحاجة للتواصل والتعبير عن النفس، رغبة الإنسان في الحكي والمشاركة، في نيل شيء من الفهم كنوع من مقاومة الوحدة والاغتراب، فينتهي الأمر بأحد الغريبين ساردًا قصته على مسامع الآخر، الذي يصبح بدوره طرفًا آخر للحكاية، التي سيجد نفسه فيما بعد مضطرًا للتخفف من عبئها بمشاركتها، وهذه المرة معنا نحن.
قدر محتوم!
هذه الرواية هي حلقة أخرى في سلسلة العود الأبدي، عودي أو انجذابي أو ضعفي تجاه ما أدعوه بـ «التجارب العفوية»، المنبعثة من اللا شيء وأعماق المجهول. فمنذ ما يقرب من ثلاثة أعوام وقطار الليل إلى لشبونة على قائمة القراءة، وضعتها أو نويتها بوصف أدق بعد مشاهدة الفيلم المقتبس منها، كنت أحاول تخيل مدى جمال النص إن كان الفيلم استطاع جذبي والتأثير بي، لكن الأمر بقي متوقفًا على النية حتى صادفتها مؤخرًا في المكتبة، فظننت أن وقتها حان، لكن ذلك كان قبل أن تقع عيناي على «ليا» فتسحرني رقة اسمها ونعومته، هذه النعومة التي تحولت شيئًا فشيئًا لألم مكتوم لا فكاك من سطوته المتنامية.
لم يكن الألم النابع فقط من بين الأسطر، ولا المتمثل في المشاهد الحية المتشكلة في خيالي، وإنما كان له وجود ملموس، وقعٌ لا يمكن إخطاؤه في المقطوعات التي ارتبطت أنغامها بخلفية مشهد القراءة، كانت النسخة الكاملة من مقطوعات «شوبان» و«إريك ساتيه» تتكرر بلا انقطاع، مضفية على الحكاية ما يشبه دليلاً دامغًا على واقعيتها.
وفي النص نفسه، أسرني الحضور الطاغي للموسيقى، واحتضنتني مع ليا، ولكن سرعان ما تحولت لاحقًا لطوفان جارف انتقم من الحب المتخطي له، الحب الذي لم يكن للموسيقى بذاتها وإنما للأشخاص المرتبطين بها، هذا الحب الذي يمكن أن يستحيل سببًا في خسارة من نحب لخسارتنا أنفسنا بالذات. انشغالنا به الذي يبدو أن له القدرة على إعمائنا عن أنفسنا، من نكون وكيف نكون، فنهتم بالوسيلة وننسى الجوهر الذي نريد التعبير عنه بها من الأساس. حين يصبح الغنى تعبيرًا زائفًا عن الفقد، ومؤلمًا لا سبيل لتداركه.
وبرغم كل شيء أو بسببه، يبقى السؤال ملحًا أبدًا: هل كان للأمور أن تكون على غير ما كانت وما آلت إليه؟ هل مآلها قدر محتوم أم أنه اختيار حر يبقى مقيدًا بضعفنا وعودنا اللا متناهي؟
في هذه الحكاية أحببت باسكال مرسييه، أحببت صدقه وبساطته وجماله، وأكثر من أي شيء الحميمية الكامنة في جملة: «برغم المغاربي، أو بسببه»، والتي ما فتئ يكررها، ومعها يتكرر إحساسي بألفة متنامية تجاه شخص يشاركني طريقة في التعبير كثيرًا ما ارتبتها وإن لم أوفق أبدًا لنبذها أو الاستغناء عنها، فهي رغم كل شيء الأكثر تعبيرًا عن ذهولنا أمام الحياة ومكر فخاخها.