قانون بلا رؤية وطنية: تحليل موجز لقانون الكنائس المصري
في فبراير 1952 أصدرت الدائرة الأولى في القضاء الإداري، برئاسة عبد الرازق السنهوري، حكمًا بإلغاء قرارٍ لوزارة الداخلية يرفض التصريح ببناء كنيسة. فقد كانت الوزارة رفضت أن تستكمل إجراءات استصدار مرسوم ملكي لإنشاء كنيسة، وفقا للخط الهمايوني الذي كان يلزم الطوائف غير المسلمة باستصدار مرسوم من الباب العالي من أجل بناء وتشييد دور العبادة لغير المسلمين أيام الدولة العثمانية.
وقال السنهوري في حكمه الشهير أن الشعائر الدينية لكل الطوائف قد كفلها الدستور في حدود القوانين المرعية ولم يشِر للخط الهمايوني. كان هذا الحكم حكما مستنيرا يحمل رؤية وطنية تسمح لجميع أبناء الوطن بممارسة عباداتهم من دون عقبات، ولكن قرر مجلس الدولة الاختلاف مع هذا الحكم حين قال في فتواه أن إخضاع إنشاء دور العبادة إلى إذن الإدارة، وفقًا للخط الهمايوني لا يتنافى مع حرية إقامة الشعائر الدينية، ليؤكد بذلك استمرار قوانين النظام الملي البائدة إلى عهد الدولة المصرية المستقلة الحديثة.
من هذا المنطلق نلقي الضوء على قانون بناء الكنائس الذي أقره البرلمان المصري يوم 30 أغسطس 2016. وتتلخص مشكلة القانون في فلسفته التي فشلت في حسم إن كان القانون يعبر عن دولة مدنية أم دولة دينية. ففي الأولى يكون المسلمون والمسيحيون مواطنين سواسية لا تمييز بينهم في الجنس واللون والمعتقد، وفي الثانية غير المسلمين هم أهل ذمة عليهم أن يخضعوا لحكم المسلمين في مقابل الحماية التي توفرها الدولة ذات الطابع الاسلامي. وفي حين أن هذين المبدأين متناقضان شكلا وموضوعا لاختلافهما في تصورهما لدور السلطة السياسية وعلاقتها بالدين والمجتمع، لا يزال المشرعون يتعاملون مع هذين المبدأين على أنهما مبدآن منسجمان ولا تناقض بينهما، ما يدفعهم لصنع عدد من المواءمات المجحفة لحقوق الأفراد.
وبالرغم من أن هذا الصراع تاريخي يمتد إلى بداية الدولة المصرية الحديثة؛ ما يجعل من الصعب اقتلاع جذوره بين يوم وليلة أو اختزال حله في قانون ضمن ترسانة من القوانين التي تشجعه وترسخه فنجد أنه لا حل له إلا من خلال رؤية شاملة تجتثُّ أساس هذا التمييز الذي بات يهدد المجتمع وتماسكه وأمنه. وبالرغم من أن الدستور المصري الحالي لا يحسم هذه الإشكالية؛ لكن هناك العديد من المواد التي تصلح لبدء البحث عن دعائم التمييز في مصر وحقًا هي الأولى بالنقاش والتطبيق. فنص المادة 53 من الدستور الذي ينص على تجريم التمييز والحض على الكراهية يلزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كافة أشكال التمييز بالإضافة إلى إنشاء مفوضية خاصة بهذا.
قانون للمسيحيين
وفي ظل غياب هذه الرؤية الشاملة نجد أنفسنا نتحدث عن قانون الكنائس «للمسيحيين»، ونكون مضطريين للتعامل مع هذه الصياغات القانونية التي ترسخ فكرة الاختلاف العقائدي كأساس للتشريع المنفصل، وتؤكد على هذا الاختلاف في المجال العام لدرجة تجزئته وتقسيمه.
وأما مناقشة القانون بهذا الشكل في مجلس النواب – قد تمت بعد محاولات تسويق رئيس البرلمان بشكل منفرد مع النواب الأقباط، وكأن النواب الأقباط هم فقط من يعبرون عن الأقباط في مجلس النواب. وامتد الأمر إلى خارج البرلمان باستفتاءات نُشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مع تأكيد أنها لأخذ رأي «الأقباط» في القانون.
بالإضافة إلى رفض حزب النور القانون من منطلقات طائفية ضد ما أسموه ب «توغل الاقباط»؛ فالقانون رسخ الفكر الطائفي في مصر ويرسخ النقاشات الطائفية حول القوانين. فانطلاقا من مبادئ الوطنية المصرية وجب البدء بهذه المقدمة الطويلة بعض الشي لإيضاح أن كل ما يأتي في هذا القانون الآن يعمق شرخًا في وجدان هذا الشعب هذه المرة بقوة القانون.
واقع أزمات أقباط مصر
على المستوي الواقعي لم يحل القانون الأزمات التي يتعرض لها أقباط مصر. فأزمة الكنائس في مصر مقارنة بالمساجد هي أزمة تعرضها لاعتداءات وحرق وهدم وتخريب والفشل في حمايتها. بل قد ساهم في بعض الأحيان مسؤولون مع الأهالي في هدم بعض الكنائس التي قد حصلت على ترخيص سابق، مثل حادث الماريناب الشهير.
فأغلب الأزمات المتعلقة بالكنائس ترتبط برفض المجتمع المحيط بها أن تنشأ من الأساس وبالتالي التعدي عليها. وهو تحديدا ما تجاهله القانون الحالي الذي وضع شروطًا للترخيص والبناء، ولم يجرم ولم ينص على أي عقوبات للتعدي والحرق والهدم أو التقاعس عن الحماية. إن كان يكتفي القانون في هذا الشأن بقانون العقوبات والإرهاب، فلماذا لا تطبق أحكام القانون في حالات الاعتداءات على الكنائس التي حدثت موخرا؟ وما حاجتنا إذن لقانون جديد؟
على نحو آخر إن كانت الأزمة هي الصعوبة في استخراج تراخيص لبناء كنيسة، فبالرغم من أن هذا القانون قد شرع في تقليل صعوبة الأمر مثل التقليل من سلطة الأمن على التراخيص، بالإضافة إلى إلزام المحافظ في تسبيب رفض الطلب في حال الرفض، إلا أن القانون المقر شمل أيضًا العديد من التعقيدات في طريقة استخراج التراخيص.
وعلى سبيل المثل تعددت الأعمال التي تحتاج إلى ترخيص؛ فهي طبقا للمادة الأولى من القانون أعمال الـ «بناء أو توسيع أو تعلية أو تعديل أو تدعيم أو ترميم أو هدم أو تشطيبات خارجية بالكنيسة أو ملحق الكنيسة أو مبنى الخدمات أو بيت الخلوة». ولم يفسر لنا أحد ما أهمية الترخيص في إعادة طلاء كنيسة أو صيانة ما قد يتلف داخلها من أعمال كهرباء أو سباكة الذي يدخل تحت بند التعديل والترميم. ثانيا، فالقانون لا يلزم المحافظ منح ترخيص بناء بعد ترخيص الهدم في حالة الهدم وإعادة بناء الكنائس. بالإضافة إلى ذلك فإن القانون أصبح يجرم بناء الكنائس أو التعديل فيها بدون ترخيص – حيث أنه الآن وبعد إقراره يوجب اتباعه والالتزام به. ولم يعترف القانون هنا بوجود إشكاليات عديدة تحتاج لعلاج.
أزمة تراخيص بناء الكنائس
أضف إلى ذلك شرط تمييزي لبناء الكنائس، وهو في مادته الثانية التي ربطت مساحة الكنيسة المطلوب ترخيصها بعدد وحاجة مواطني الطائفة المسيحية في المنطقة. حاول المشرعين في البرلمان تفادي العقبات التي قد تنتج عن إبهام هذه المادة القانون، من خلال ذكر الجهة التي تحدد الحاجة (رئيس الديني) في مضبطة البرلمان، إلا شرط «العدد» غير محدد وبالتالي إمكانية الاختلاف على المساحة.
الأزمة أن المادة في صلبها تمييزية. لأن هذا الشرط يختلف عن شروط بناء المساجد التي تشرف عليها وزارة الأوقاف طبقا لقانون ٢٠٠١، لأنه منع بناء المساجد أقل من ١٧٥ متر. وعلى خلاف هذا قد ربط قانون الكنائس مساحة الكنيسة بعدد مواطني الطائفة وهو شرط تقييدي مقارنة بشروط بناء المساجد. وإضافة في التعقيد والإبهام لم يحدد القانون نسبًا رقمية محددة لربط المساحة بالعدد يتوجب على المحافظين اتباعها ولهذا سوف يلجأ المحافظ لتقديرها وفق مزاجه الخاص.
وما هي النسبة الملائمة؟ هل هو متر مربع لكل أسرة أو إثنتين أو عشرة؟ بل أضف لذلك أيضا أن القانون لا يحمي استخدامات ملحقات الكنيسة – مثل مبنى الخدمات – لأي غرض آخر سوى الذي أقّر في الترخيص، وبالتالي لو تم رفض توسيع الكنيسة لأي سبب يكون مجرمًا استخدام ملحق الكنيسة – كمبنى خدمات – في التعبد.
ولعل النقطة المضيئة في القانون أنه يساهم في حل أزمة ترخيص الكنائس المبنية بالفعل من دون ترخيص والمساهمة في توفيق أوضاعها. فقد اعتبر القانون مرخصا للكنائس القائمة بالفعل في تاريخ إصدار القانون وفقا لشروط معينة. لكن من ضمن شروط الترخيص اشتراطات غير واضحة مثل الالتزام ب «القواعد» التي تتطلبها شؤون الدفاع عن الدولة، فما هي تلك القواعد؟ هل هذا الأمر يتعلق بالمحافظات الحدودية مثلا؟ وهل اعتراض بعض المؤسسات السيادية على كنائس في بعض المناطق التي قد تراها حيوية بالنسبة لها له معيار محدد؟ ومع الاعتبار الكامل لدواعي الدفاع عن الدولة فهل أشار القانون إلى أي قواعد لحماية الكنائس؟
فإنه على الرغم من أن مضبطة البرلمان قد سجلت أن القواعد المتعلقة بالأمان والأمن شروط «تقليدية» مثل الارتفاعات بالقرب من المطارات وفي أي حال حظر وقف الشعائر فيها، إلا أن القانون لم يحمِ هذه الكنائس من الاعتداء ومنع وقف ممارسة الشعائر فقط، وهو ما يعيد إلى الذاكرة الاعتداء على سور (غير المرخص) لدير الأنبا بشوي بوادي النطرون في فبراير ٢٠١١، وإصابة رهبان وعاملين بطلقات نارية من قبل أفراد من الشرطة العسكرية، طبقا لبيان رهبان الدير – الأمر الذي لم يمنع ممارسة الشعائر في الدير – لكن لم يتم حظره في القانون الحالي.
ولا يغلق القانون ملف الكنائس غير المرخصة، الأمر الذي قد تحدث بسببه خلافات بين الجهات المعنية بهذا الشأن، فأرجأ القانون هذه الخلافات لتتولاها لجنة مشكَّلة من قبل رئاسة مجلس الوزراء. وماذا عن الكنائس المغلقة بدواعٍ أمنية، إن القانون لم يقل كلمة واحدة في هذا الشأن الذي يعد استمرارًا للوضع الحالي، فهذه الكنائس قد أغلقت بالفعل والتزمت جهات تنفيذية بقرارات عرفية من أهالي يرفضون كنائس في منطقتهم، فهل تُحل الأزمة عندما تبني كنيسة ثم يقوم الأهالي بالضغط لإغلاقها؟
ففي حين يفرض هذا القانون شروطًا أمام استخراج تراخيص الكنائس ولا يشير إلى دور الدولة في حماية الكنائس؛ الأزمة التي تؤدي لتفجر صراعات طائفية واستقطاب مجتمعي نحن بغنى عنه. بالإضافة إلى ذلك لم يضع من وضعوا القانون بعض المحددات لعمل موظفي الدولة. ففي حين أنه قد تم تدارك مجلس النواب لعدم إشارة القانون إلى حق الطعن عند القضاء الإداري في حين رفض المحافظ إعطاء ترخيص، وتم ذكره في مضبطة مجلس النواب، وهذا إيجابي لكن لم يتم الإشارة إلى المدة الزمنية لاستخراج الوزارات المختصة اللائحة التنفيذية للقانون، الأمر الذي قد يجعل من القانون حبرًا على ورق.
بالإضافة إلى ذلك لم يلزم مجلس الوزراء أو اللجنة المشكَّلة من رئيس مجلس الوزراء بمدة زمنية لاتخاذ إجراءات لتوفيق أوضاع الكنائس التي بُنيت من دون التراخيص اللازمة.
قانون متواضع لا يحل أزمة أو يحمي الكنائس
وبناء على ما سبق فإن هذا القانون المتواضع لم يقدم حلا لأزمات عديدة لاستخراج تراخيص لكنائس جديدة، ولم يقدم حماية عملية للكنائس. فبالرغم من أنه قد يكون متسامحا شكليا مع ترخيص وبناء الكنائس، محاولا أن يعطي شكلا من أشكال التوازن إلا أنه لا يخلو من التعقيدات. وفي حين وافقت الكنائس الثلاثة على هذا القانون، وأعلن قداسة البابا تواضروس الثاني أنه أنهى أزمة امتدت 160 عامًا، وتحدى القس أندريه زكي رئيس الطائفة الإنجيلية أن يجمع المعترضون على هذا القانون مليون توقيع، وأشاد ممثل الكنيسة الكاثوليكية بالقانون قائلا أنه :«يلبي جميع مطالب الشعب القبطي»، يبقى السؤال لماذا وافقت عليه الكنائس حتى أنه هناك من تحدى الآخرين بجودته مع العلم أن الكنائس قبلت في هذا القانون بنودًا رفضتها في مشروع قانون في 2011. ويبقى السؤال لماذا أقره البرلمان بالرغم من أزماته العديدة؟
تفسير الأمر لا يخرج عن إطار التمدد السلطوي للدولة من خلال دفع الاستمرارية السياسية لقادة الطوائف الدينية من أجل السيطرة على رعاياهم، وبالتالي إبقاء الشعب تحت السيطرة الدينية – السياسية. فقد بدأ هذا الدور السياسي لقادة الطوائف بعيدًا الإجراءات الاستثنائية بعيد ثورة ١٩٥٢، عندما حلت منظمات المجتمع المدني وحلت المجالس الملية التي كانت مكونة من علمانيين يديرون الشؤون الداخلية للطائفة – ورسخ إلغاؤها لعلاقات سياسية مباشرة بين قادة الكنيسة الروحيين ومسؤولي الدولة.
وفي تصوري حتى وإن كانت هناك بعض الخلافات حول بعض بنود القانون، فتتحول إلى أمر ثانوي مقابل بناء علاقة وطيدة مع مسؤولي الدولة، الأمر الذي يعني عدم إمكانية إحداث تغيير جذري من خلال هذه العلاقة. وإذا أضفنا إلى ذلك عدم إلمام رجال الدين بأساليب الصياغة القانونية، بل وحصر مناقشة القانون في أضيق نطاق مع تعتيم شديد على المناقشات حوله التي دارت في غرف مغلقة، نجد أنه كان هناك شبه استحالة لعملية تصويب بنوده حتى وصل للبرلمان.
وحين وصل للبرلمان الذي كان يسرع في مناقشة بنوده حتى يقره في أول دورة انعقاد طبقا للدستور، كان تفاعل رئيس البرلمان مع النواب على أن القانون قد نال موافقة الدولة والكنيسة ونال رضى الكنائس الثلاث وطالب النواب بإقراره «كما جاء من الحكومة» – الأمر الذي دفع النواب للجوء للمضبطة البرلمانية، لشرح المواد المبهمة وحد من قدرتهم على تعديل القانون – فهو أمر في رأيي لا يقلل من شأن النواب فحسب، بل يوجه تساؤلات حول استقلالية السلطة التشريعية ورشادة أسس الحكم في مصر. لكل هذه الأسباب مجتمعة خرج هذا القانون مفتقدا لرؤية وطنية.