اللقاء الأخير : بين مشكلات الحاضر وصراعات الماضي
ربما تبدو الأسئلة الفلسفية عن الوجود والحياة والمصير من أكثر المواضيع ترددًا في الكثير من الروايات والأعمال الأدبية، ذلك أن كل كتابة هي بشكلٍ أو بآخر محاولة وسعي دائم حول استكشاف الهدف من الحياة، أو حتى رصد خاص لبعض ما يدور في نفوس أبطال العمل من أفكار وصراعات ترتبط بشكلٍ أو بآخر بفكرة الوجود والمصير، ويبقى دومًا أن لكل كاتبٍ طريقته الخاصة في تناول تلك الأسئلة والإشكاليات وعرضها من خلال عمله وأبطال روايته.
في روايته الجديدة «اللقاء الأخير» الصادرة مطلع هذا العام عن دار المحروسة، يقدّم يوسف نبيل رؤية مختلفة لعلاقة الفرد بنفسه أولاً وبأسرته ومجتمعه بعد ذلك، وكيف تكون التنشئة المنزلية أحد أهم العوامل المؤثرة في بناء الشخصية، وذلك من خلال أبطال روايته بدءًا بالضابط «مجدي الشحات» مرورًا ببطل الرواية «نور مينا» ذلك الشاب الذي قرر أن يترك كل شيءٍ في بلاده بحثًا عن حريته، بعد أن فقد علاقته بـ«حنان علام» وعلاقة الحب الاستثنائية التي ربطت بينهما، خاصة وأنه مسيحي وهي مسلمة، وكيف أثّر كل واحدٍ منهما على الآخر سلبًا أو إيجابًا، وكيف مروا جميعًا بمواقف وأحداث قلبت حياتهم رأسًا على عقب.
بناء مختلف وشخصيات جديدة
يبدو يوسف نبيل مؤمنًا بضرورة ترك المجال مفتوحًا للأبطال، ففي روايته يبرز تعدد الرواة بشكلٍ واضح منذ البداية، ورغم ذلك يلجأ أيضًا لتقنيات سردية مختلفة لجذب انتباه القارئ، فهو يقسّم روايته لثلاثة أقسام، في الأول نجد أبطال الرواية كلهم يتحدثون عن حياتهم ومواقفهم، يجمع بينهم الحدث الرئيسي للرواية وهو اختفاء «نور مينا» وما الذي يمكن أن يكون قد أدى به إلى ذلك المصير، وفي القسم الثاني نفاجأ براوٍ جديد للحكاية كلها، وهي الجارة التي غيرت علاقة بطل الرواية بها مسار حياته، حتى نصل في القسم الثالث والأخير إلى ما انتهى إليه بطل الرواية «نور مينا» في حكايته، لنكتشف أنه أصبح روائيًا وأنه يوقع روايته السابعة.
ليس البناء الروائي وحده، وطريقة تقسيم الرواية وشخصياتها ما يميز هذه الرواية، بل إن اختيار الشخصيات، والمواضيع والأحداث التي اختار يوسف أن يعرضها من خلالهم هو تميز آخر يحسب للرواية، فلدينا ضابط شرطة، في الواقع أكثر من ضابط، أحدهما بطل أساسي في الرواية هو «مجدي الشحات» والآخر اختار أن ينسحب من الشرطة مبكرًا هو «مينا سمعان»، وبين حياة مجدي والظروف التي مر بها حتى وصل إلى الحادثة الأخيرة، الكثير من الملابسات والمواقف التي تكشف عن عالم الشرطة الذي ربما لا يتم تناوله بهذه الطريقة في الروايات كثيرًا، فهنا الشرطي إنسان يبحث فعلاً عن الحقيقة، ويتورط في المشاركة في فض المظاهرات، ولكنه يفكّر بعد ذلك أكثر من مرة، ويسعى أن يقدم شيئًا نافعًا في نهاية حياته.
من جهة أخرى جاءت قصة الحب الاستثنائية بين بطل الرواية «نور مينا» و«حنان علام» فرصة وطريقة جيدة للحديث عن الحب بعيدًا عن رقابة المجتمع، وتناول أفكار التحرر والتمرد والخروج عن إطار الكنيسة والدين وما يفرضونه على الناس من قوانين صارمة لا يمكن تجاوزها بسهولة! وتتطور علاقة الحب تلك بشكل مفاجئ فيما نجده بعد ذلك في القسم الثاني من الرواية من علاقته بجارته التي نكتشف أنها أول من فتحت له باب حب الكتب والقراءة وذلك العالم الذي غاص فيه بعد ذلك بالكامل.
استطاع الكاتب أيضًا أن يعرض حياة أبطاله بشكلٍ سلس وتلقائي من خلال تداعي أفكارهم، ومن خلال الانتقالات الزمنية المدروسة اعتمادًا على مواقف تمر بها شخصيات الرواية والتي كشفت لنا ببساطة عن خلفيات مهمة لنفسياتهم ودوافعهم، ويبدو اختياره لشخصية البطلة الجارة في القسم الثاني ضروريًا لكي يعرض لنا أجزاء غامضة من حياة بطل الرواية وطفولته، لا سيما تلك المواقف التي يصعب أن يستعيدها ويحكيها، لا سيما مع وصاية والديه الشديدة.
تطرق الرواية مشكلاتِ عديدة يمر بها الأبطال في المجتمع، وربما يحسب لكاتبها أنه لم يستغرق في وصف وتفاصيل كل مشكلةٍ منهم، وإنما استطاع أن يعرض تلك المشكلات بشكل ذكي وعابر، ولكنه مؤثر في الوقت نفسه، فسيجد القارئ مشكلة السلطة وعلاقتها بالمجتمع، مع مشكلة الحب والرغبة في تحقيق الأحلام، بل إنه يمر بشكلٍ عابر على مشكلة الترجمة ويشير إلى طريقة تعامل «المركز القومي للترجمة» واستهانتهم بجهود المترجمين، وكيف أن الفساد يطال جميع مؤسسات الدولة من المدرسة إلى الجامع والكنيسة إلى السلطات العليا.
يبدو خلاص الكاتب في النهاية بسرده لحكايته، وكما تنتهي صفحات الرواية بين يدي القارئ يبدو أن البطل وهو كاتب أيضًا يشعر بأنه تحرر مما يثقل كاهله، واستطاع بكتابته عن كل ما مر به أن يتخلص من إرث الماضي وعقباته ومشكلاته، وكأن البداية الحقيقية لا يمكن أن تكون إلا بعد ذلك اللقاء الأخير مع الماضي وتجاوزه، حتى يتمكن من البدء من جديد.
يوسف نبيل روائي ومترجم مصري، تخرج من كلية الألسن، صدر له العديد من الروايات منها «مياه الروح» و «موسم الذوبان» عام 2011 والتي حصل عنها على جائزة الهيئة العامة لقصور الثقافة، كما أصدر رواية مشتركة عام 2014 مع زينب عبد الحميد بعنوان «العالم على جسدي» و«كلمات يونس الأخيرة» عام 2016. ترجم عددًا من الأعمال الهامة لتولستوي مثل «السند المزيف» و«طريق الحياة» و«في الدين والعقل والفلسفة»، كما يعمل الآن على ترجمة يوميات تولستوي التي تقع في 6 أجزاء صدر الجزء الأول منها مؤخرًا عن دار آفاق.