في رثاء «علاء عبد الخالق» وزمن «الأصدقاء»
يطرح رحيل «علاء عبد الخالق» الكثير من الأسئلة عن الفن والحياة والصداقة، من خلال علاقة أبناء الجيل الواحد، ثم علاقة الجيل بمنْ سبقوه، سواء بالتواصل أو الانقطاع، وموضوع الهوية الجمالية التي تعبر عن حالة فنية وتقوم على الوحدة والاتساق أو التعدد والاندماج.
ظهر علاء وفرقة الأصدقاء في مطلع الثمانينيات بتبني الموسيقار عمار الشريعي لهم، وهو من الجيل السابق عليهم، فكان بمثابة الأب الروحي أو الراعي الفني لهم، وكانت أعمالهم الأولى مثل «الحدود» و«يوم بعد يوم» من كلمات عمر بطيشة الذي ينتمي مثل عمّار إلى جيل الآباء، لكن هذا التواصل الفني لم يدم، فسرعان ما انفصل الأصدقاء عن عمار، وفي الوقت نفسه انفصل كل واحد منهم في طريق، بمعنى أن التواصل بين الأجيال حلم لم يكتمل، وكذلك التواصل بين أفراد الجيل الواحد، انتهى مبكراً أيضاً.
إن فكرة الفردوس المفقود أو الخروج من الجنة الأولى والزمن الجميل والحلم الذي نعيش عليه ونحاول استعادته، فكرة تطاردنا نحن البشر الذين نعاني الفقد دائماً ولا تكتمل لنا تجربة ناجحة في الواقع، وذلك بحكم متغيرات الزمن.
ظلّت مرحلة الأصدقاء والحدود وعمار تراود جيل الثمانينيات، الذي يعد الآن جيل الآباء، ومع محاولة الأصدقاء للعودة من جديد وإشباع حنين جيلهم القديم، رحل علاء، ليؤكد أن دوام الحال من المحال، وأن الزمن لا يعود، وأن ما لم نحققه في الوقت المناسب لن يتحقق أبداً.
رحيل علاء نفسه مرثية للعمر الجميل الضائع الذي عاشه جيل الثمانينيات بكل تحولاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأخيراً التحول الرقمي، وانعكس ذلك في شكل الأغنية وطريقة تقديمها وجمهورها، ولك أن تتخيل الفارق بين الأغاني مثل «الحب له صاحب» و«مرسال» و«افترقنا» و«راجعلك» و«خيرها في غيرها»، وأغاني المهرجانات التي تضرب بمطارقها على رؤوس جيل الثمانينيات، الذي يرحل نجومه تباعاً، ففي الموسيقى رحل علاء عبد الخالق وأحمد الحجار، وفي التمثيل رحل ممدوح عبد العليم وهشام سليم وعبدالله محمود ووائل نور.
تميّز صاحب «بحبك باستمرار»، بالأغنية الإنسانية، مُتجاوزاً أغاني الحب العاطفية التي تُدغدغ مشاعر المراهقين أو موسيقى الديسكو التي يرقص عليها شباب بلا هوية، فعلاء اختار الكلمات الدالة على حالات وجدانية لها عمق، تُعبِّر عن عاطفة تجاه الحياة، وساعده على ذلك وجود شعراء وُجد عندهم النموذج الجمالي قبل النموذج الغنائي السريع السهل، فتعامل مع شعراء مثل: مجدي نجيب وعماد حسن وعوض بدوي وإبراهيم عبد الفتاح، إضافة إلى أنه كتب لنفسه أحياناً، مثلما لحّن لنفسه أيضاً، مع قدرته على اختيار ألحان ذات طابع شرقي لأحمد الحجار وأحمد منيب ووليد سعد ورياض الهمشري وفاروق وصلاح الشرنوبي، وأخيراً حميد الشاعري الذي أضاف لمسته في التوزيع.
كانت لدى علاء روح الصداقة التي تجعله يُغني ألحاناً لزملائه المطربين مثل محمد محيي، فقد اعتاد فكرة فريق العمل منذ فترة تكوينه، إضافة إلى ترفعه عن المنافسات وتجنبه للهوس الإعلامي، وحفاظه على الروح الرومانسية في الفن والحياة.
لعلاء عبد الخالق حضور في أدبيات الغناء وسردياته، فنجد فصلاً عنه في كتاب «إذاعة الأغاني» لـ«عمر طاهر» الصادر عن دار الكرمة 2015، وهو من الفصول الجميلة التي تقدم حالة ثقافية اجتماعية لجيل التسعينيات حين كان عمر في الجامعة، وذلك مع تصاعد المد الأصولي في هذه المرحلة المضطربة، وكان على الفن أن يؤدي دوره في استعادة التوازن الروحي والنفسي والاجتماعي أيضاً، فأصبحت بعض أعمال جيل علاء علامات تساعد في تنمية الحس الجمعي بالجمال والتواصل، ومن هذه الأعمال: أغنية «إيدي بتدور على إيدك» التي أهداها علاء لوالده، فاتخذها كثير من الشباب نموذجاً للعلاقة الروحية بين الأب والابن، وهذا ما عرضه عمر طاهر في شكل قصصي في كتابه.
ونجد في ديوان «هذيان لا يليق بمجنون»، الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 1997، للشاعر «رضا العربي»، وهو من جيل التسعينيات، إشارة لعلاء عبد الخالق من خلال أغنية «وافترقنا» من ألبوم «وياكِ»، حيث يستحضر رضا من الأغنية عبارة «ذكراكِ في الأماكن… أكبر من النسيان».
هذه النماذج تدل على وجود علاء عبد الخالق في عالم المبدعين وفي الحياة الثقافية المصرية لدى جيل الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، مؤكداً قيمة القوة الناعمة في المحافظة على الروح الخاصة بالهوية القومية، مع وجود الخيط الإنساني الذي يربط اللحظة بالتاريخ، أو يصل بين العصور والأماكن بشاعرية وسلاسة تعبيرية.
رحل مغني «مكتوب»، فأعاد إلينا ذكريات من الشجن والفقد، ومنحنا مساحة نعود فيها إلى زمن الأصدقاء الذين حرصوا على الوجود الإعلامي، مؤكدين قيمته في نفوسهم، ربما يكون في هذا السلوك نوع من العزاء عن افتقادنا لصوت له عذوبته ولمسته للمشاعر، وخطابه الإنساني، ولكن الأهم من ذلك هو أن نُفكِّر في القيم التي كانت يمكن أن تتحقق لو استمر مشروع جيل مُقاوم لكل التحولات الضارية، لا يستسلم للأزمات، ولا يتفكّك أمام المستحدثات، التي غالباً ما يكون فيها الكثير من الزيف والقليل من الذهب.
لقد حافظ عبد الحليم حافظ على مشروعه الغنائي، فنجد بدايته بـ «صافيني مرة» مع محمد الموجي، وختامه بـ «قارئة الفنجان» مع الموجي أيضاً، وصعوده بالشعر الفصيح مع كمال الطويل بأغنية «لقاء» لصلاح عبد الصبور، وانتهائه بالشعر الفصيح لنزار قباني، والذي بدأ منه كاظم الساهر ثم توقف.
هذا الطرح يضعنا أمام مسؤولية الالتزام للفن، وهو التزام يتطلب كثيراً من الوعي والمرونة والمقاومة والقدرة على الموائمة بين النزعة الفردية التي توجد عند الفنان والاندماج الجمعي الذي يحتاجه كل مشروع، هذه القيم تضعها أمامنا حياة علاء عبد الخالق، إضافة إلى ما تركه من أعمال جيدة بوصفه مرسال جيل الفقد.