فاطمة نسومر: المرأة التي حاربتها فرنسا بـ 45 ألف جندي
فتاة بسيطة، تزامن ميلادها مع احتلال فرنسا لبلدها الجزائر عام 1830. لم تكن فاطمة بعد قد تعرَّفت على الوطن ولا على كيانها. تعرف فقط بيت أبيها الذي ترعرعت فيه، وهو من كبار رجال الصوفية في عصره. حين بدأت تتنسم ريح النضج وجدت نفسها زوجةً لرجل كبير من رجال القبائل الجزائرية، يحيى ناث إخولاف. لكن منذ يوم زفافها الأول ادعت المرض، واستمر ادعاؤها فترةً كانت طويلة بما يكفي ليقوم زوجها بإرسالها لأهلها مرة أخرى. لكنه لم يُطلقها، ولم تبالِ هي الأخرى بذلك، فظلت في عصمته طوال حياتها.
الرواية الأشهر لهذا المرض أنه مجرد عزوف عن الزواج، رغم جمالها الظاهر. فظلت ترفض الخطيب بعد الآخر، حتى خطبها يحيى، وهو من أبناء أخوالها بجانب مقامه في القبائل. كانت الشائعات قد ملأت الأسماع عن أن الأرواح قد سكنتها. فاستغلت فاطمة تلك الشائعات لتدَّعي الجنون على زوجها، ليرسلها إلى أخيها دون طلاق.
بعد وفاة والديها، انتقلت للحياة مع أخيها الكبير، سي الطيِّب، في بلدة نسومر. من تلك البلدة حصلت فاطمة على لقبها المعروف فاطمة نسومر. عرفتها البلدة بالناسكة المعتزلة، فقد درست القرآن الكريم وجانبًا كبيرًا من العلوم الشرعية بمساعدة أخيها. تلك العلوم أكسبت فاطمة قدرة على النقاش والجدال، وتشبعت نفسها برفض الظلم عامةً، والتعسف ضد النساء خاصة، فقد فهمت أن الإسلام قد كرمهن، وأن حرمانهن من التعليم ومن مجالس الرأي تعسف لا أساس له.
ساعدتها حياتها في بيت أخيها على إدراك أن حياتها يمكن أن تتخذ مسارًا آخر غير الاقتصار على الجلوس في المنزل أو في تعليم الصبيان والمريدين. فقد كان أخوها مقدمًا للطريقة الرحمانية بين أهالي بلدته، ويجتمع عنده كبار البلدة يتشاورون فيما يفعلون في الاحتلال الفرنسي الذي يعيث في البلاد ذبحًا وتدميرًا. فتوجهت لرفيقاتها ومن حولها بأن الاكتفاء بمتابعة أخبار المعارك ليس هو الدور الذي يجب عليهم القيام به، وأنها ترى لنفسها ولمن حولها دورًا آخر.
من أطراف المعارك إلى قيادتها
كانت فرنسا بدورها قد اتخذت قرارًا بأن السيطرة على الجزائر لن تتم إلا بدخول مناطق القبائل وإخضاعها. لهذا عينت فرنسا راندون حاكمًا عامًّا، وكان قراره الأساسي مواجهة القبائل. وبرز نجم الشريف بوبغلة كمقاوم للاحتلال، مثل معركة تمزقيدة. لاحقًا واجه راندون مقاومة عنيفة، ومعهم سي الجودي. وكانت فاطمة نسومر بجانب بوبغلة في المقاومة، وكانت هي التي قبضت على سي الجودي وقتلته بيدها.
لكن الوصول لتلك المرحلة سبقه مرحلة طويلة من التدرج في سلالم المقاومة. ففي عام 1849 كان الانضمام الأول لها للمقاومة. كانت بجانب سي محمد الهاشمي. ومن بعده اتصلت بالشريف بوبغلة، اسمه محمد بن عبد الله. كان قادمًا من بابور للدفاع عن جرجرة. فتلاقت الطرق وباتا رفيقي الكفاح. وفي إحدى المعارك جُرح بوبغلة، وأنقذته فاطمة من ساحة القتال. وتروي بعض الروايات أنها طلبها للزواج، لكن بالطبع لم تستطع القبول أو الرفض لأن بقاءها على عصمة زوجها كان حائلًا.
في معركة تمزقيدة انكسرت المقاومة أمام العدد الضخم للجنود الفرنسيين، وانسحبت فاطمة وبوبغلة إلى بني يني، ومن هناك بدآ دعوةً للجهاد المقدس. فانضم إليهما الطلاب وبقية الأتباع. قضت فاطمة قرابة 6 سنوات تقاتل بلا هوادة، حتى كُتب لها الفوز في أول معاركها. معركة تاظروك، والمعروفة تاريخيًّا باسم معركة سباو العلوي. في تلك المعركة طويلة الأمد كانت فاطمة ومجموعة من النساء قد اخترن طريقة مميزة للاشتراك في المعركة.
وقفن على تلة قريبة من مكان المعركة، وظللن يحمسن الرجال بالزغاريد والعبارات التحفيزية المختلفة. فاستمات الرجال في القتال، لأن هزيمتهم تعني الفتك بالنساء أيضًا. خلفت تلك المعركة 800 قتيل فرنسي، من بينهم 25 ضابطًا. وتناول المؤرخون الرواية القائلة بأنها التي قتلت سي الجودي بيدها، وأنقذت بوبغلة من الموت. كل تلك البسالة وهي لم تتجاوز الـ 23 عامًا من العمر.
رائدة حرب العصابات
الهزيمة أصبحت نقطة تحول في المنهجية الفرنسية في الحرب. فبدأت سياسة الإبادة الجماعية والقتل للجميع. تغلغل براندون في منطقة جرجرة واحتل منطقة عزازقة. وقام الجنرال الفرنسي بتوزيع كافة الأراضي الخصبة على المستعمرين الذين أتوا معه. ومع مقتل بوبغلة، اختلفت المصادر حول وقت وكيفية موته، لكن النتيجة الواحدة أن القيادة انتقلت لفاطمة، وأحد المقاومين يُدعى الحاج عمر.
فكثفت فاطمة مقاومتها، وبدأت تحرز انتصارات متتابعة على أطراف المناطق التي يحتلها الفرنسيون. للحد الذي دفع الفرنسيين لطلب تعزيزات إضافية. انسحبت فاطمة، التي باتت معروفة بين أتباعها بلالة فاطمة، كلمة أمازيغيّة للنساء احترامًا لسنهن أو رتبتهن، لكنها وُضعت قبل اسم فاطمة تبجيلًا لها. في مستقرها بعد الانسحاب، بالقرب من تيروردا، تحولت هي للمقاومة نفسها. فبات الناس يرون في مجرد وجودها مقاومة وانتصارًا على المحتل. وصارت مقصدًا للناس من مناطق الجزائر المختلفة، يطلبون منها العلم أو يتطوعون لمشاركتها في القتال.
لكنها لم تكتفِ بذلك، وقامت بتشكيل فرق سريعة من المجاهدين للهجوم المباغت على العدو، وقطع طريق المواصلات والإمدادات. تلك الفرق الخاطفة، وأسلوب حرب العصابات، أربك القيادة الفرنسية وخلط أوراقها. لذا في عام 1857 حشد براندون جيشًا قوامه 45 ألف جندي، وقاده شخصيًّا. بجانب وجود المارشال مكاماهون، القادم بعتاد إضافي من القسطنطية دعمًا لبراندون. توجه براندون نحو قرية آيت تسورع، التي تتمركز فيها فاطمة. المفاجأة أن جيشها من المتطوعين بلغ 7 آلاف رجل، وبضع نساء، في بعض الروايات. بالطبع كانت الغلبة للمحتل الفرنسي بفضل التفوق العددي، والنوعي بامتلاك السلاح، لكن كانت الخسائر الفرنسية كبيرة جراء المقاومة الشرسة.
لاحقًا في 11 يوليو/ تموز عام 1857 تقابل الفرنسيون مرة أخرى مع قوات لالة فاطمة. احتدمت المعركة فخرجت فاطمة بنفسها على رأس الجيش للحرب. أثار ظهورها رعبًا في نفوس الفرنسيين، فلم يكونوا اعتادوا وجودها مباشرة في المعركة، كما أنها قد أُحيطت بالأساطير جراء سنوات المقاومة الماضية. طلبت فاطمة إيقاف الحرب والتفاوض، وافق الفرنسيون لكن كان الأمر فخًّا سارت إليه فاطمة دون أن تدري.
الأسطورة لا تموت
حين ذهب الوفد الذي اختارته لالة فاطمة للتفاوض غدر بهم الفرنسيون واعتقلوهم جميعًا. وأمر الجنرال الفرنسي جنوده بمحاصرة فاطمة وباقي النساء والقبض عليهن. تم القبض عليها برفقة 30 مقاومًا آخر. اقتيدت في البداية إلى زاوية العيساوية في منطقة بني سليمان. لكن خشية أن يثور الجزائريون لأجلها قررت فرنسا عدم قتلها وألا تبقى في منطقتها المألوفة. لهذا وُضعت تحت الإقامة الجبرية برعاية الطاهر بن محيي الدين.
اختارت فاطمة لنفسها مكان الإقامة، وقصرت حياتها على التعبد والدراسة. لم تطل بها الحياة طويلًا بعد معركتها الأخيرة. وفي سبتمبر/ أيلول عام 1863 تُوفيت فاطمة. المفاجئ أنها بعد كل ذلك التاريخ الحافل تُوفيت وهي ابنة 33 عامًا فقط. لهذا أثارت وفاتها الشك دائمًا. الرواية القريبة من الصحة تقول إنها توفيت جراء إصابتها بمرض عضال شل حركتها، ثم أودى بحياتها. خصوصًا بعد تأثرها الشديد بوفاة أخيها الأكبر عام 1861. وفي روايات أخرى فإنها قد ماتت مسمومة بتدخل فرنسي، لأن القوات الفرنسية كانت تخشى من تأثيرها.
ما كانت تخشاه فرنسا هو أسطورتها التي غزت فرنسا قبل الجزائر. فأطلق عليها المؤرخون الفرنسيون جان دارك جرجرة. نسبةً إلى البطلة القومية الفرنسية التي قادت فرنسا في عدة معارك وانتصارات مهمة في حرب المائة عام. لكن فاطمة كانت ترفض ذلك اللقب، وكانت تحب أن تُنادى بخَولة جرجرة. تنسب نفسها بذلك إلى المجاهدة خولة بنت الأوز التي كانت تتنكر في زي الرجال وتحارب بجانب الصحابي الجليل خالد بن الوليد.
لكن حتى بعد أن غيَّب الموت جسدها، فلم يُغيِّب التاريخ سيرتها. فأطلق اسمها على العديد من الجمعيات المهتمة بشئون النساء. والعديد من المدارس والشوارع، ولها العديد من التماثيل الموزعة في أنحاء الجزائر. وفي عام 2004 أطلقت الجزائر اسمها على باخرة عملاقة تنقل الغاز المسال.