يعتمد الطبيب بلا شك على قدر كبير من التوفيق في التشخيص والعلاج، فإذا أجاد العملين ظل هناك قدر من التوفيق يحتاج له كي… كي ماذا؟… لا أدري بالضبط. هناك أطباء يرون حالة مُلغزة بالغة التعقيد فيكتبون بعض أقراص البانادول، فيُشفى المريض شفاء تامًا ولا يُصاب بأي أمراض لمدة عشرة أعوام.
لدي عشرات القصص من هذا الطراز، وكلها مسلّ جدير بأن يحكى، لكني سأكتفي بقصة واحدة حدثت لي منذ عشرين عامًا.
قصة واحدة عن مهندس من أقاربنا. شاب نحيل بالغ التهذيب خجول كالعذارى. استدعوني لرؤيته ذات ليلة ممطرة، فذهبت. كان يعاني ألمًا متزايدًا في بطنه مع قيئ شديد. لم تكن هناك علامات أخرى سوى بعض الإمساك، فكتبت له حقنة «ميتاكلوبراميد» وريدية مع دواء مغص وطلبت أن يخبروني هاتفيًا بما يستجد، وانصرفت وسط عبارات الشكر والعرفان.
في البيت جلست أجتر براعتي وشهامتي وكم أنا رائع، على أن الهاتف دق بإلحاح في الثانية صباحًا… وعلى طريقة الأفلام المصرية سمعت قريبتي تصرخ:
«إنه… لقد أخذ الحقنة ثم سقط أرضًا… إنه… آه ه ه ه !»
ثم وضعتْ السماعة على صوت الصرخة. لقد مات على الأرجح.
لا أعرف كيف ولا بأي سرعة ارتديت ثيابي، ولا كيف نزلت لأتوسل سيارتي الغافية في البرد والمطر أن تقبل الدوران. كانت سيارة 128 عجوزًا مرهقة ترى أن من أبسط حقوقها أن تنام ليلاً وتتقاضى معاش السادات. وانطلقت في شوارع البلدة الخالية حتى وصلت إلى بيت أقاربنا.
كان الموقف أشبه بلوحات الاحتضار الباروكية، والإضاءة خافتة بينما يلتفون حول المهندس الشاب باكين، وعلى مقعد قريب رأيت (أبلة تريزا)، وهي ممرضة مسنة تعمل في مستشفانا، وتبين أنها جارة أقاربي. كانت غارقة في العرق والتوتر وفهمت أنها هي التي أعطت المهندس حقنة الميتاكلوبراميد. قبل أن أتكلم قالت لي بلهجة متهمة:
«قلت لهم إن الميتاكلوبراميد لا يُحقن في الوريد وإنما في العضل، لكنهم قالوا إنك من طلبت هذا! عندما أعطيته الحقنة سقط أرضًا على الفور.»
ومصمصت بشفتيها. فكدت أجن غيظًا… الميتاكلوبراميد يُعطى في الوريد والعضل، لكن المرأة جعلت الأمر يبدو كخطأ آخر من أخطاء الأطباء الحمقى الجهلة إياهم. وفي عيون الأقارب رأيت نظرة تقول: كيف عرفت الممرضة حقيقة كهذه بينما تجهلها أنت؟
بحثت عن الأمبول الذي حقنته ووضعته تحت أنفها لترى كلمة IV (في الوريد) المحفورة. لكنها هزت رأسها في عدم اقتناع: «غلط».
تفحصت الفتى… لم تكن الحقنة هي السبب، ولكنه في حالة ضعف عام ووهن. لقد ازدادت حاله سوءًا بالفعل منذ رأيته هذا المساء. تفحصته بعناية فوجدت أن بطنه منتفخ لا يتحمل لمسة من أناملي، وعندما سألته عن التبرز نفى أنه فعلها منذ يومين، والقيء مستمر مع هبوط في ضغط الدم… لم يبق شيء لإقناع أي حمار أن هذا انسداد معوي… المريض يوشك على الصراخ بأنه مصاب بانسداد معوي.
على الفور طلبت أن يساعدوني لحمله للسيارة، وسرعان ما كنا نطوي الطريق طيًا إلى مستشفى طنطا الجامعي، حيث أجريت له فيلمًا استكشافيًا. النتيجة كانت مريبة فعلاً مما يسميه الأطباء (مستويات أفقية متعددة للسائل). نحن في وضع خطر فعلاً.
اتصلت بمدرس جراحة أعرفه فجاءني بصعوبة في ساعة كهذه ومع الليل الماطر. تفحص المريض ورأى الأشعة ثم أعلن في ثقة: «لا يوجد انسداد معوي».
«وما تفسير هذا كله؟»
بدا عليه سمت من يخاطب طفلاً غريرًا، وقال وهو ينتحي بي جانبًا:
«ثمة مشكلة دائمة لدى أطباء الأمراض الباطنية هي أنهم لا يملكون حاسة جراحية… انظر للمريض جيدًا… هل يبدو لك كمريض انسداد معوي؟»
«نعم»….. صاح في عصبية وهو يلوح بيده: «ما أريد قوله شيء واحد… هذا ليس مريض انسداد معوي… انتهى الأمر!».
وانصرف غاضبًا من استدعائه ليلاً.
الآن علي أن أنقل المريض وأهله عائدين لدارهم بسيارتي، وهم يرمقونني في صمت… لقد برهنت مرتين على جهلي وحماقتي: مرة عندما طلبت حقن المريض وريديًا بالميتاكلوبراميد وكاد يهلك… والمرة الثانية، عندما افترضت أنه انسداد معوي وأثرت رعب الجميع. أخيرًا جاء الجراح المتمكن الواثق الذي تعلم جيدًا، ليعيد البسمة للوجوه.
كانوا فاترين جدًا في وداعي…
وعدت لبيتي تحت المطر شاعرًا بالخزي والعار… الحق أنها كانت ليلة من عدم التوفيق، لكني حاولت جهدي على كل حال.
مرت أيام ولم أسمع شيئًا عن هؤلاء القوم…
إلى أن قابلت المهندس يمشي مع زوجته في الشارع وقد بدا أكثر نحولاً لكنه بصحة جيدة. هرعت نحوه أحييه وسألته عن حاله… قال لي: «لقد كنت في المستشفى… كانت حالة انسداد معوي تحت حاد نجمت عن درن في الجهاز الهضمي… لابد أن العدوى أصابتني من اللبن».
«انسداد معوي؟»….
«نعم… وكانت جراحة عسيرة حقًا… الحقيقة أنكم فشلتم في التشخيص في تلك الليلة وكدت أدفع حياتي ثمنًا لذلك».
قلت بصوت مبحوح: «لكني قلت إنها ………………».
لحسن الحظ أن جراحًا بارعًا يسكن بجوارنا رآني وطلب مني دخول المستشفى حالاً… ثم حياني في فتور وانصرف مع زوجته… لقد ذابت الذكرى وسط الضباب فلم يعد أحد يذكر أنني قلت إنه انسداد معوي… ولابد أنني صرت قصة يتسلون بها كلما حكوا عن أخطاء الأطباء.
هكذا يمكنك أن ترى أن أخطائي كانت عديدة… أعطيت الميتاكلوبراميد في الوريد فكاد يقتل المريض (مع أن الشركة المنتجة نفسها أوصت بأن يعطى في الوريد)، وقلت إنه انسداد معوي وهذا ما نفاه مدرس الجراحة العبقري… ثم لم أشخص الانسداد المعوي فكاد المريض يموت لولا تدخل الجراح البارع.
نعم هي مهنة صعبة كما قلت لك… والمرضى غالبًا بلا ذاكرة، لكن التوفيق هو أهم شيء وهو الذي يحمي الأطباء من الموت جوعًا.