مأساة إيطاليا: هل يُفسر «غياب الوعي» وفيات كورونا؟
شهد العالم الأخبار المؤسفة الواردة من إيطاليا، وارتفاع عدد الحالات المؤكد تشخيصها بوباء كوفيد-19 بها حتى 28 مارس/آذار إلى 92,472، وارتفاع عدد الوفيات بها إلى 10,023 حالة وفاة. تثير تلك الأرقام ذعرًا في القلوب المطمئنة، فما الذي دفع إيطاليا إلى هذه الهوة المنحدرة؟
تشير بعض الحملات على وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام إلى «غياب الوعي» لتفسير تلك النتائج، معللين هذا الانفجار الهائل للحالات بإهمال المواطنين، وعدم التزامهم بتعليمات الحكومة في فرض حظر التجوال، مما أدى إلى انتشار العدوى على مستوى واسع.
لكن هذه التأملات عن «غياب الوعي» لا تؤيدها الأرقام والإحصاءات. فلو سلّمنا بصحة القول بغياب الوعي لدى الشعب الإيطالي، وعزونا سبب تلك المأساة إلى الإهمال فقط، قد نفسر انتشار الحالات بشكل جنوني، فالتجمعات تفسر انتشار الفيروس بين المخالطين، وبالتالي انتشار المرض، ولكنها لا تفسر معدل الوفاة الهائل الذي تعدى معدل وفيات الصين بؤرة المرض الأولى.
سجلت الصين حتى (28 مارس/آذار 2020) نحو 81,439 حالة، ولكنها في المقابل سجَّلت عدد وفيات وصل إلى 3,300 حالة وفاة، مما يعني أن معدل الوفيات في إيطاليا وصل إلى 3 أضعاف معدل الوفيات الصيني. وفي ألمانيا، وصل عدد الحالات المؤكدة إلى 58,247، ووصل عدد الوفيات إلى 455 حالة وفاة فقط، مما يجعل معدل الوفيات بها محدود للغاية 0.78% فقط، بالمقارنة مع 10.8% في إيطاليا. تعني هذه الأرقام أن انتشار الفيروس، الذي ربما نتج من غياب الوعي والعزل، لا يعادل الوفيات الناتجة عنه، أي أن معدل الوفيات يختلف اختلافًا كبيرًا من دولة لأخرى، وأن ثمة عوامل أخرى تقبع خلف تلك الأرقام.
نداءات الاستغاثة من الأطباء الإيطاليين
جاءت نتائج الاختبارات التي أجراها الطبيب الإيطالي مارسيلو ناتالي، البالغ من العمر 57 عامًا، إيجابية للإصابة بمرض كوفيد-19، ونظرًا إلى صعوبة الموقف في إيطاليا وانهيار المنظومة الصحية وعمر الطبيب، توفي جراء الإصابة بالفيروس الذي سبب له التهابًا رئويًا في كلتا رئتيه. قبل أن يجري الطبيب هذا الاختبار، أجرى مقابلة صحفية مع وكالة يورونيوز، محذرًا من المخاطر المحتملة للفيروس على مستوى العالم، قائلًا: إنه اضطر للعمل دون قفازات وقائية، بسبب نقصها ونقص غيرها من المواد الوقائية الأخرى للأطباء. وقال ناتالي: «لم نكن مستعدين لمواجهة فيروس كورونا، فنحن –الأطباء- غلب علينا الظن بأن المضادات الحيوية آخر كشف علمي كبير في الطب، وستكون كافية لكل شيء».
وفي ورقة علمية منشورة في الدورية العلمية المُحكَّمة كاتاليست، التابعة لدورية نيو إنجلاند جورنال، طالب الطبيبان «ميركو ناكوتي» و«لوكا لونغي» وزملاؤهما، في مستشفى البابا جيوفاني الثالث والعشرين في مدينة بيرغامو في إيطاليا، بتحويل الطريقة التي تعمل بها المنظومة الصحية، من التركيز على المريض إلى التركيز على المجتمع.
يقول الأطباء: «بُنيت المنظومة الصحية الغربية على مفهوم رعاية محورها المريض، ولكن الجائحات العالمية تحتاج إلى رعاية محورها المجتمع». يشير الأطباء في إيطاليا إلى مساهمة المستشفيات في نقل العدوى ومضاعفة عدد الحالات المصابة، محذِّرين أطباء العالم من تكرار هذا الخطأ، ناصحين إياهم برعاية الحالات الحرجة في منازلهم، لعزل الحالات عن بعضها بعضًا.
يكتب ناكوتي وزملاؤه: «لقد تجاوزنا الهاوية، وقد حُجز بالفعل ما يفوق 70% من أسرة العناية المركزة لحالات كوفيد-19 الحرجة، ولا تُحجز إلا للمرضى [ذوي الفرصة المعقولة في النجاة]» ويضيفون: «لا نقوم بالإنعاش لكبار السن، ويتركون للموت وحدهم دون رعاية مسكنة للألم، وتُخطر عائلة المريض بالهاتف، وغالبًا ما يرن الهاتف طبيب مُنهك تمامًا لم يتواصل معهم من قبل».
أسباب الارتفاع الهائل في أعداد ضحايا كوفيد-19
أشار والتر ريكاردي، مستشار وزير الصحة الإيطالي، إلى عدة أسباب محتملة لارتفاع معدَّل الوفيات الإيطالي؛ ومنها الطبيعة الديموغرافية لانتشار المرض في إيطاليا وتركزه في مناطق معينة أنهكت المنظومة الصحية بها، وشيخوخة السكان، والطريقة التي تُسجِّل بها المستشفيات الوفيات.
يقول ريكاردي: «ترتفع أعمار المرضى بالمستشفيات في إيطاليا، إذ يبلغ متوسط أعمارهم 67 عامًا، بينما بلغ متوسط العمر في الصين 46 عامًا فقط. وقد أسهمت كهولة الشعب في ارتفاع معدل الوفيات».
أفاد تقرير على موقع مركز التحكم في الأمراض الأمريكي، منشور في 18 مارس/آذار 2020، أن الوفيات من فيروس كورونا كانت تتراوح بين 10 و27% في الفئة العمرية المتجاوزة 85 عامًا، و3-11% في الفئة العمرية التي تتراوح بين 65 و84 عامًا، و1-3% في الفئة العمرية المتراوحة بين 55 و64 عامًا، وأقل من 1% في الأشخاص بين 20 و54 عامًا، ولا يوجد وفيات تحت 20 عامًا. يقترح الخبراء أن هذه الأرقام تتوافق مع إصابة كبار السن بأمراض مصاحبة تساعد على تدهور حالتهم المرضية عند الإصابة بمرض كوفيد-19. كما أشارت دراسة في دورية «جاما» إلى أن 40% من العدوى و87% من الوفيات في إيطاليا كانت في مرضى تفوق أعمارهم 70 عامًا.
يلفت ريكاردي الانتباه أيضًا إلى الطريقة التي اعتاد بها الأطباء الإيطاليون تسجيل حالات الوفاة؛ إذ يميل الأطباء إلى تسجيل سبب كل حالات الوفاة المصابة بـ كوفيد-19، بأنها جراء الإصابة بالفيروس، حتى لو عانى الضحايا من مرض آخر مزمن، أو مرضين في حالات عديدة.
ويقول: «بإعادة تقييم المعهد القومي للصحة، وجدنا أن 12% من شهادات الوفاة تظهر سببية مباشرة مع فيروس كورونا، بينما كان 88% من الوفيات مصابين بحالات مرضية أخرى، وأحيانًا حالتين أو ثلاثة».
ولكن ارتفاع نسبة كبار السن وحدها لا تكفي للتفسير، إذ تمتلك ألمانيا شعبًا كهلًا أيضًا، وتبلغ نسبة من تجاوزا 65 عامًا بها 21.1%، بينما يبلغ من تجاوزا 65 عامًا في إيطاليا نسبة 22.4%، بل يشير مؤشر بلومبرغ العالمي للصحة إلى أن إيطاليا من أعلى 10 دول في العالم على مقياس الصحة، متفوقة بذلك على ألمانيا. وعلى العكس، سجلت ألمانيا معدل وفيات يبلغ 0.78%، من إصابات تبلغ 58,247.
ليس ثمة شك أن المنظومة الصحية الإيطالية قد أصيبت بالإعياء جراء التدفق الهائل للحالات على المستشفيات، فانهارت المنظومة الصحية بها، مما أدى إلى وفاة الحالات على أبواب المستشفى لعدم توافر حيز يسع كل تلك الأعداد. يقول المدير التنفيذي لبرنامج الطوارئ في منظمة الصحة العالمية دكتور مايك ريان: «لا يتعامل الأطباء في إيطاليا مع حالة أو حالتين في العناية المركزة، بل ما يصل إلى 1200 حالة. إن إنقاذهم عدداً كبيراً من المرضى معجزة بحد ذاتها، رغم الوفيات العديدة».
مدينة فو: الاختبارات الجماعية قد تكون حلًا
تُعتبر مدينة فو من المدن صغيرة الحجم في إيطاليا. وقد بدأت السلطات في إيطاليا بإجراء الاختبارات الجماعية فيها نتيجة تأثرهم بخبر أول وفاة من كوفيد-19، فبدأت «جامعة بادوفا» باختبار جميع القاطنين بها، البالغ عددهم 3000 فرد، فنجحت تلك الطريقة في عزل الأفراد المصابين بالفيروس قبل ظهور الأعراض عليهم، أي في فترة الحضانة التي ينقلون فيها الفيروس لغيرهم دون إدراك إصابتهم به في المقام الأول، فنجح ذلك في القضاء على تواجد الفيروس بالمدينة تمامًا. وكانت النتائج التي أسفرت عنها تلك التجربة مثيرة للاهتمام، فبحلول الوقت الذي اكتشف فيه الباحثون أول حالة تشتكي من أعراض الفيروس، أظهرت الاختبارات أن 3% من السكان قد أصيب به بالفعل، ولكنهم لم يُظهروا أعراضًا بعد.
يدرك الباحثون أن هذا الإجراء نجح في مدينة فو نظرًا إلى حجمها الصغير، ويصعب تكراره في المدن الكبيرة والتي خرج فيها الوضع عن السيطرة بالفعل مثل ميلان، ولكنهم يوجهون رسالة لصُنَّاع القرار في المنظومة الصحية بالعالم للاستفادة من التجربة، لفحص أكبر عدد ممكن، والتعرُّف المبكر على الحالات وبالتالي عزلها.
حظر التجوال ليس كافيًا
حذَّر مايك ريان في لقائه مع وكالة بي بي سي من اكتفاء الدول بمجرد الحظر وإغلاق المنشآت فقط، مشيرًا إلى أهمية اتخاذ تلك الدول إجراءات الصحة العامة الضرورية للتعرُّف المبكر على الحالات وعزلها.
يقول ريان في هذا الصدد: «يكمن الخطر الآن في حظر التجوال، إنها إذا لم تُصحب بإجراءات قوية في الصحة العامة، من حيث الكشف عن الحالات وعزلها وفحص مخالطيها. فعندما تُزال تلك القيود قد يعود خطر الفيروس للتحليق في الأجواء مجددًا».
يضرب ريان مثالًا بالصين وسنغافورة وكوريا الجنوبية، إذ قامت كل من تلك الدول بإجراءات مكثفة لفحص كل حالة مشتبه بها، بالتزامن مع الحظر المفروض، بالمقارنة بأوروبا، التي حلت محل آسيا لتكون بؤرة المرض الجديدة.
يضيف ريان: «بمجرد تسارع الانتقال، علينا أن نلاحق الفيروس ونحاربه».
لذلك، فبينما يلعب غياب الوعي والإهمال الشعبي دورًا في انتشار الفيروس في المجتمع بصورة واسعة، نتيجة الحاملين للمرض دون إدراك في فترة الحضانة، ونقله لغيرهم من الأصحاء، فإن المسألة لا تقف عند غياب الوعي فقط، بل يجب أن تُصحب بإجراءات أخرى تقع على عاتق السلطات الصحية في كل دولة. وقد يكون فيروس كورونا المستجد اختبارًا لكفاءة النظم السياسية في العالم، مختبرًا قدرتها على الإيفاء بوعودها للشعوب، ومُعيدًا لترتيب الأولويات التي تُنفق فيها أموال الشعوب، إذا كانت سلامتهم شاغلاً حقيقياً للحكومات.