«النسوية» هذا المعنى المراوغ الذي يفسره كل حسب أهوائه، تارة تكون النسوية هي الانتصار لحقوق النساء في المشاركة في كل شيء في المجتمع ومساواتهن بالرجال في الحقوق والواجبات وفرص الحياة، تارة أخرى يعاملون النسوية على أنها الحل السحري الذي سوف يمنح النساء كل ما حُرِمن منه على مدى عمر العالم، تارة أخرى تستخدم النسوية كوسيلة لنيل حقوق أكبر والقيام بواجبات أقل بدعوى أن هذا هو حق النساء في الحياة.

وفي مجتعاتنا الشرقية يمكنك أن تحدث بلا حرج عن الكثير من المآسي التي ترتكب في حق النساء بأيدي النساء أنفسهن تحت ادعاء الانتصار للنسوية، والتي في الأغلب لا يكون لها أي علاقة من قريب أو بعيد بالمعنى الحقيقي للنسوية.

اليوم نستعرض رواية نسوية، تتحدث عن النساء، كاتبتها امرأة، ولكنها تنتصر لهن دون الكثير من الشعارات الرنانة. رواية «الضفيرة» لكاتبتها الفرنسية ليتسيا كولومباني تحكي عن ثلاث نساء، من ثلاثة أماكن مختلفة في العالم، بثلاث خلفيات حياتية ومجتمعية متباينة، والكثير من الألم، وأيضًا الكثير من المجد الحقيقي.


الهند – قرية بادلابور – ولاية أوتار براديش

المجتمع الهندي مجتمع قاسٍ، ليس كما يتصوره معظمنا من الأفلام الهندية الرومانسية الاستعراضية، الهند مجتمع قاسٍ على أبنائه جميعًا، وعلى نسائه على وجه الخصوص. الفقر، والزحام، والعنف المجتمعي يسيطر على الهند التي لا يعرف عنها معظمنا سوى السحر والغناء والألوان.

تحكي الكاتبة عن امرأة تدعى سميتا، من طائفة تسمى الداليت، وهي طائفة ليس لها أي حقوق في الهند، ينحدرون من أصول منبوذة بسبب الديانة أو لأسباب اجتماعية أخرى كارتكاب أسلافهم لجريمة أو لإصابتهم بمرض معدٍ. من يُصَنَّف داليت يبقَ هو ونسله موصومًا بوصمة العار تلك، التي تحرمهم من التعليم ومن الاختلاط بالآخرين، حتى إن هناك في الهند قانونًا يدعى «قانون عدم المساس»، ينص على تجريم مجرد لمس أحد أبناء الطائفة لأي من البشر الآخرين، خاصة في القرى والولايات الصغيرة ذات الفرص المحدودة، والتي يجب الحفاظ عليها لأبناء الطبقات غير المنبوذة اجتماعيًّا، و«سميتا» واحدة منهم دون أي جريرة جنتها.

تعمل سميتا في وظيفة قذرة، ويخبرها قلبها أنها لا تستحق هذه الإهانة، ويجبرها عقلها على محاولة إخراج ابنتها من هذا المستنقع. تحاول سميتا بكل الطرق أن تجنب ابنتها مصيرها المظلم، ثم لا يبقى أمامها حل سوى الهرب بها لمدينة كبيرة، ربما تحصل على فرصة، فرصة ضئيلة غير مضمونة لحياة شبه كريمة، ورغم ضآلة الفرصة تحاول سميتا اقتناصها، وتوشك على النجاح.


إيطاليا – باليرمو – صقلية

المجتمع الإيطالي مع أنه قطعة من أوروبا فإنه لا يزال محتفظًا بتقاليد محافظة، وبالية في بعض الأحيان، خاصة في المدن الصغيرة، الفتيات ما زلن جزءًا أصيلًا من العائلة، يواجههن الكثير من العقبات في طريق الاستقلال والتحقق، لا يواجهن حربًا شعواء كالمجتمعات الشرقية، ولكن أيضًا حيواتهن ليست قطعة من الكعك.

جوليا هي إحدى فتيات العائلات المحافظة، تشارك في إدارة عمل أبيها رغم حداثة سنها النسبية، تجد نفسها فجأة في مفترق طرق يجبرها على أن تتخذ قرارًا جريئًا، تقاوم عائلتها وطموحها، رغم أنها تحاول أن تستنقذ هذه العائلة من كارثة محققة.

تحاول جوليا استجماع زمام أمرها والوقوف في وجه الأعراف والتقاليد، فتاة شابة مليئة بالطموح، لا يعيقها سوى الخوف، الخوف من الاختلاف الذي يزرعه فيها مجتمعها بأكمله، والانفصال عن الثقافة السائدة، الحب يمنح جوليا الجرأة اللازمة، حبها العاطفي في علاقتها الرومانسية، وحبها الفطري للحياة، ورغم قلة الموارد وعظم المغامرة، تخوضها جوليا، تجازف بكل ما تملك، وتنجح.


سارة – مونتريال – كندا

كل الفرص هنا متاحة، هنا العالم الأول، العالم الذي يتشدق بالمثالية وبالتكافؤ، العالم الذي يمنح الفرص الجميع باختلاف دياناتهم وأعراقهم وأجناسهم، هنا المرأة بإمكانها أن تنجح، أن تحطم السقف الزجاجي غير المرئي الذي يحد طموح النساء ويحدد مساراتهن.

هنا تمكنت «سارة» المحامية من أن تكون شريكة في مكتب محاماة شهير، تضحي بالكثير في سبيل أن تكون امرأة متوسطة العمر ناجحة لا يشوبها شائبة، يعترف الجميع بنجاحها المدوي، ويختفي كل هذا عند أول بادرة تجعلهم يشيرون لها بإصبع الاتهام رغم أن الأمر خارج عن إرادتها، تمرض سارة ويتركها الجميع للسقوط.

تكتشف سارة أن هذا العالم الأول زائف تمامًا، وأنها لا تستند إلى أي شيء، وأنها رغم كل شيء مدانة، ليس لأنها امرأة ولكن لأنها إنسان. هنا الكل معرض للتمييز، كما يساوي العالم الأول بين الرجال والنساء في الفرص فإنه أيضًا يساوي في التنكيل بهم بشتى الطرق. تكتشف سارة أن إنسانيتها وأنوثتها انسحقتا تحت وطأة الحداثة، تقاوم سارة وتحاول النهوض من جديد، وتنجح.


عقول النساء في قلوبهن

المرأة كائن عاطفي، عقلها يعمل بإيعاز من قلبها طوال الوقت، تعيب المجتمعات عليها ذلك، ويمنعونها من ممارسة الحياة بدعوى أنها لا تصلح، وأن القلوب لا تستطيع إدارة العالم. الكاتبة هنا صنعت ضفيرة من ثلاث حيوات متباينات وبمنطق عملي تمامًا، لتثبت أن قلوب النساء بإمكانها إنقاذ عقولهن، وأن العاطفة ليست شيئًا مشينًا نخجل منه وندفعه بعيدًا حتى نثبت جدارتنا للحاق بسباق الحياة المجنون.

انتصرت الكاتبة للنسوية دون أن تهاجم المجتمعات الثلاثة دون تعقل، فقط اختارت بذكاء مشاكل حقيقية تواجه البشر بشكل عام في الثلاث الحكايات، وجعلت نساءها يتعرضن لها ويستطعن التغلب عليها. فسميتا ليست وحدها الموصومة وإنما طائفتها كلها بما فيهم زوجها، وجوليا ليست مقيدة لأنها فتاة، ولكن لأن الصعوبات تواجه عائلتها كلها بما فيهم عميدها وكبيرها، وسارة دفعها الجميع للسقوط لأن المرض هاجمها، والمرض يصيب الجميع، فقط الكاتبة استطاعت أن توظف عاطفية المرأة واندفاعها جيدًا ليكونا ميزة تمكنها من السيطرة على الأمور.

لم تهاجم الكاتبة المجتمعات لأنها تتعسف ضد المرأة، ولكن لأنها تتعسف ضد الإنسان، فقط جعلت قلوب بطلاتها ساخنة وحارة لأنهن يشعرن بالظلم أكثر لأن العاطفة لديهن تغلب العملية لدى الرجال. الرجل تكمن قوته في التكيف والصلابة أمام المصائب، أما المرأة فجعلت الكاتبة قوتها في قلبها الذي لا يعرف كيف يواجه هذه المصائب بكم الآلام المصاحب لها، فتغيره وتحاول الخروج منه. نجحت بطلات ليتسيا كولومباني في الانتصار للنسوية الحقة، بلغة راقية وبناء قوي للرواية وتضفير جيد جدًّا للثلاث القصص، لتصنع ضفيرة، الضفيرة التي تميز المرأة، والتي بإمكانها أن تعيرها لأخواتها في الإنسانية حتى تصنع كل منهن مجدها الخاص.