«La corrispondenza»: رسائل حب من العالم الآخر
يطرق المخرج الإيطالي «جوزيب تورناتوري» صاحب «سينما براديسو» و«مالينا»، أرضًا جديدة لم يطأها من قبل، عن ثنائية الحب والموت في فيلم جديد بالغ الشاعرية من تأليفه وإخراجه بعنوان «La corrispondenza» أو «المراسلة» بعد آخر فيلم له في عام 2013 بعنوان «Best Offer». والفيلم ناطق بالإنجليزية لظروف التوزيع، وإن كانت الإيطالية لتناسب شاعرية الفيلم أكثر.
يُفتتح الفيلم بمشهد غرامي بين فتاة شابة جميلة «آمي» قامت بدورها الممثلة الأوكرانية «أولجا كوريلينكو»، ورجل عجوز «إيد» قام بدوره البريطاني «جيرمي أيرونز».
«أنت مجرة ممتلئة بنجوم غير معروفة، لن أملّ من مراقبتك أبدًا؛ حتى أكتشف آخر نجمة»، هكذا تقول «آمي» لأستاذها وحبيبها، بروفيسور «إيد»، عالم الفلك، المولع بالفيزياء والنجوم، الذي يقرر السفر طويلاً، ولا يعدها بالرجوع.
كيف يحب عالم فلك؟
ضفّر «تورناتوري» بتناغم، علاقة الحب بالفلك. يقول «إيد» لـ«آمي» عبر السكايب، «عندما رأيتك لأول مرة في قاعة المحاضرات، كنت أشرح قاعدة اللانهائية في الفلك». يخبر «إيد» تلميذته أننا موجودون في الأكوان الموازية 11 مرة، ترد ضاحكة بأنهما سيكونان بذلك معًا للأبد، يتفقان على شفرة مشتركة وهي إمضاء اسميهما في رسائلهما المتبادلة 11 مرة؛ للدلالة على اللانهائية التي لم يستطع العقل الإنساني فهمها، مثلما لم يستطع فهم الحب.
اعتمد «تورناتوري» كثيرًا على اللقطات المقربة «close up shots» لآمي وإيد، لا نعرف بدايات علاقة آمي بأستاذها، ولكننا نتورط سريعًا في علاقتهما الشاعرية، علاقة مسافات طويلة عمرها 6 سنوات، يتحدث لها عبر «السكايب» عن «هيجز بوزون»* ونظرية كل شيء، يترك لها هدية على شكل نجمة، تسأله عبر التليفون عما فعل في فرضياته الفلكية، يتحدثان دائمًا عبر الرسائل عن الحب ومدارات النجوم.
إيقاع الفيلم كله يسير على وتيرة واحدة، هادئة وبطيئة، ما عدا القطع المفاجئ لمشاهد تمثيل «آمي». فبجانب دراسة آمي للفلك، فهي تعمل ممثلة بأفلام الأكشن، وهو جزء مقحم بالفيلم إلى حدٍ ما أو غير مبرر، لماذا تعمل طالبة شغوفة بالفلك بالتمثيل؟، كذلك لم يذكرا في رسائلهما أبدًا قصة التمثيل، ولكن هكذا يلعب «تورناتوري» دائمًا، الجانب السينتمنتالي لشخصية آمي المحبة يوازيه جانب آخر لممثلة عنيفة، تخرج من حرائق، تتأرجح على حبل مشنقة، تقفز بالسيارة من علو شاهق.
حب عن بعد
يستمر الحب بالمراسلة طوال الفيلم حتى يحدث التحول، يعتذر لها بأنه لن يستطيع استقبال رسائلها مجددًا؛ لأنه مات. يرتب «إيد» بطريقة ما إرسال رسائل لآمي مع أصدقائه، ورسائل فيديو تصلها بصورة آلية في مواعيد محددة؛ ربما بحِسّ عالم الفلك الذي يريد أن يتغلب على الموت ويصبح موجودًا بطريقة ما مع حبيبته، وربما كي لا تشعر آمي بالوحدة، وربما بعين أخرى أراد السيطرة عليها بعد موته بحبه الأبوي.
رسائل ما بعد الموت تم تقديمها سابقًا في فيلم «Videodrom 1983» للمخرج «ديفيد كروننبرج»، حيث ظل البطل يجيب على كل الأسئلة بعد موته، كما تم تقديمها كذلك في فيلم «p.s I love you»، لكن فيلم «تورناتوري» أكثر وجودية، اعتمد المخرج كذلك على الألون الباردة الشجية، وموتيف تصوير السماء، والسحب والنجوم، في تناغم مع الموسيقى التصويرية لـ«إنيو موريكوني».
من فيلم «La corrispondenza»
الفيلم كله رحلة بحث لآمي التي تدور في فلك إيد الذي لا تنقطع رسائله النصية، ولا خطاباته ذات الأظرف وردية اللون، ولا وروده الحمراء، ولا هداياه، يكتب لها رسائل ليذكّرها بمواعيد امتحاناتها، يرسل لها الورود يوم تسليم مشروع تخرجها الذي حمل اسم «حوارات مع نجوم ميتة»، يكتب لها «لقد اكتشفت مكانا بقرب الماء، انعكاس الجبل على البحيرة يذكرني بوجهك»، تذهب إلى نفس المكان وترسل له رسالة بدورها، ولكنها تتذكر أنه رحل.
كذلك مشاهد توحّد «آمي» مع البحر والسماء ونظراتها لورق الشجر الأصفر، والفضاء عبر التليسكوب عززت من جماليات الصورة، واللقطات الواسعة «wide shots» أضفت الإحساس بالفراغ.
لكن يلاحظ وجود بعض الفراغات في القصة، فنرى أن علاقة آمي بأمها سيئة، ما إن تذكرها حتى تستشيط غضبًا، ثم تعود إليها بودٍ فجأة.
تسافر آمي إلى «إيدين بورغ»، حيث كان يعيش إيد، اعتمد تورناتوري، هي لم تصدق خبر موته، ولا نحن أيضًا، تقابل زملاءه، تذهب إلى بيته لترى أولاده، تتحسس أثره وتظل رسائله في الوصول من مكانه البعيد، تغضب لأن الرسائل أصبحت في اتجاه واحد، فهو لن يستطيع استقبال رسائلها، ولكنها تسجل له رسائل مصورة، ربما تصله ذبذبات الحب وتصله رسائلها يومًا ما.
علاقة آمي وإيد برغم جمالياتها فهي ملتبسة علي الفهم، علاقة مسافات طويلة، عمرها ست سنوات، لا يريان بعضهما سوى نادرًا، ولكنهما موجودان معًا دائمًا عن طريق شتى أنواع الرسائل التي لم يحجبها حتى الموت، لا نعرف إن كان الغرض من الرسائل هو الحب أم السيطرة.
نحن بقايا غبار نجوم
وجود إيد بعد موته ونصائحه لآمي كتلميذة جعلها تتذمر وتشعر بشيء من السلطوية من معلمها، ينقطع اتصالهما لفترة كأنه مات مرة أخرى، تناجيه آمي أن يرسل لها المدد ثانية.
يخالج الشك المشاهد طوال الوقت في حقيقة موت إيد، تمامًا مثل آمي، يظل تأجج علاقتهما حتى بعد رحيل شريكها الذي يرسل لها خطابًا يخبرها بأنه يغار عليها من شخص ما، وهي بدورها ترسل له مشاجرة إلكترونية. ربما يطرح الفيلم تعريفًا آخر للموت، فهي ترتكز على وجود إيد مثلما يعتقد علماء الفلك “أن الحياة أتت من النجوم الميتة”، في أحد المشاهد تقرر آمي طلاء شقتها باللون الأزرق كأنها تسكن بين السحاب.
مراسلات “إيد” لن تستمر للنهاية، فقد أرسل رسالة مصورة لآمي وقد أعطاها ظهره، يخبرها بأننا جميعا ذاهبون للعدم مثلما أتينا، كعالم فلك يحاول منطَقة كل شيء وربما لن يستطيع تكملة لعب الرسائل للنهاية، فقد استطاع أن يكون بجانبها فترة ما بعد موته، ولكنه لن يستمر للأبد، سيرقد في مكانه بجوار النجوم.
غموض «تورناتوري» المعتاد الذي شهدته أفلام أقدم مثل «المرأة المجهولة» و«البروفيسور» ظهر جليًا منذ أول مشهد في الفيلم. يقول «إيد» لآمي: «هل تعتقدين أن هناك شيئًا لا يعرفه أحدنا عن الآخر؟»، ولاحقًا في الرسائل التي نكتشفها في كل مكان وتحول كل الناس لسعاة بريد، كذلك التوتر الممتع، والشك الذي يخالج المشاهد طوال الوقت، في حقيقة موت إيد، ربما كانت خدعة من خدع تورناتوري.
علاقة الحب بين فتاة شابة ورجل عجوز بدت تماهيًا مع فيلمه السابق «أفضل عرض»، الذي يدور حول فتاة مصابة بمرض غريب تستطيع خداع رجل عجوز يعمل بجمع اللوحات الأثرية، ولكنها تتورط معه في علاقة عاطفية.
تخلى صاحب «مالينا» و«سينما براديسو» نظريًا عن حسه الفنتازي في «المراسلة»، لكن أجواء الفيلم نفسها وفكرة رسائل الموتى فانتازية بامتياز. وبرغم أن الفيلم ناطق بالإنجليزية، فالحس النوستالجي لإيطاليا الذي سبق وأن قدمه «تورناتوري» في فيلم «باريا» و«سينما براديسو» بدا جليا سواء في موسيقى «موريكوني» المصاحبة للفيلم، والذي وضع ألحان تسعة أفلام سابقة لتورناتوري، أو في صدور اسم الفيلم بالإيطالية، أيضًا في التصوير في جزيرة «بورجوفينزوزو» الإيطالية التي شهدت علاقة الحب أولاً، ثم عادت إليها آمي ثانية وحدها.
*جسيم أولي يُعتقد أنه مسئول عن اكتساب المادة كتلتها.