من قبيل الصدفة المحضة، لم يعلق بذهني –منذ فترة طويلة- معنى مثل هذا من قبل؛ «وكانت عصافير الصدفة تحلق على كتفيها»، هذه الجملة التي سبّبت لي زخمًا فكريًا جميلًا فيه نوع من الانتشاء بأناقة المعنى وبساطته، وتساءلت من باب التسلية ومداعبة الخيال إبان قراءتي الأولى له: ماذا لو أن الصدفة تجسّدت حقيقةً في صورة عصافير؟

ماذا لو أن جناحي العصفور يضرب الهواء فوق رأسك في كل ناصيةٍ التقيت بها –مصادفةً- حبيبًا لك، أو كنت حاضرًا في اللحظة المناسبة معه لتزداد حمى العلاقة بينكما؟ أو ماذا لو حلّق العصفور فوقك وكان شاهدًا على حدث تعرف أنه لن يتكرر أبدًا على مرّ حياتك، وبدلًا من أن تقول إنها صدفة، تشوّح بالسلام للعصفور الرابض من بعيد وكأنه يراقب هذا الحدث. رُبما من قبيل الصدفة أيضًا، قرأت هذه الجملة في طيّ صفحات رواية (كائن لا تحتمل خفته) –لـ (ميلان كونديرا)، ومن قبيل الصدفة أعجبت بها دونًا عن غيرها وألهمتني فكرةً ما، ومن قبيل الصدفة قررت أن أكتب عنها وأن أستفتح بها مقالي، ومن قبيل الصدفة قررتَ أنت عزيزي القارئ أن تشتري الرواية لتبحث عن هذه الجملة وتختبر استئثارك بها وهل ستستوقفك أنت أيضًا أم ستمرّ عليك مرور الكرام!

لكن عندما تحصل على الرواية وتقرأها بالفعل، وتتأمل في السبب الذي دفعك لقراءتها قد نختلف سويًا عن كون هذا التتابع في الأحداث قد تم من صدفةً أم لا، صحيح؟

على أيةِ حال، كتب كونديرا هذا العمل الأدبي عام 1982 ونشره عام 1984، في مقاربة واضحة ربما تكون مقصودة منه بين روايته ورواية «1984» لجورج أورويل التي تحمل أفكارًا سياسية مشابهة. رواية كونديرا المليئة بالأحاجي الفلسفية والأدبية، حتى في طريقة السرد المختلفة تمامًا عن الروايات التي عهدناها، فهو يبدأ الرواية بما يشبه المقال الذي يمهد لفلسفة «العود الأبدي» لنيتشه، ثم بعدها يأخذك في الخط الزمني للرواية غير المنتظم، ويستعرض أبطال قصته بأسلوب فريد وجريء عندما يقول بأن شخصياته وُجدت –ليس من جسد امرأة أو أمّ- بل من بعض الجمل والمواقف الموحية، (توماس) خُلق من جملة: «مرة واحدة لا تُحسب… مرة واحدة هي أبدًا»، و(تريزا) خُلقت من بضع قرقرات معوية أثناء لقائها الأول بـ (توماس).

ثم يتخلل الرواية أيضًا مجموعة من المقالات الفكرية –شكلًا- والتي لا تنفصل عن حبكة الرواية، ثم لا ينفكّ يزج بك في قلب ربيع براغ ويجعلك شاهدًا على فشله، ويضعك تحت رقابة البوليس السري والتسلّط الشيوعي، لكن… تبقى الأحجية الأولى والأخيرة التي أحاطت كل هذه الأفكار؛ من الصدفة والحب، والقرار الأخلاقي المتعلق بالرأي السياسي، ومفهوم القوة والحقيقة وغيرها من الأفكار الكثيرة جدًا. كان غطاء هذه الأفكار هو مفهوم: الخفة والثقل، ولا أدري حتى هذه اللحظة ما الفارق لو قلت أن هذه الرواية ثقيلة، أو أنها خفيفة لا تُحتمل!

أحجية الحب الخفيف

بالعودة إلى الصدفة التي ابتدأنا بها، قد أختلف أو أتفق مع (توماس) –أحد أبطال الرواية- عندما أصدر حكمًا على علاقته بـ (تريزا) زوجته بأنها قائمة على الصدفة، فبالمثل لو قلنا إنه لولا هذا المقال لما قرأت الرواية، قد نقول إنه لولا وجود حالة خطيرة مصابة بمرض التهاب السحايا في المدينة التي تسكن بها (تريزا)، ولولا أن (توماس) حلّ بديلًا عن رئيس القسم الذي –بالصدفة- أصابه عرق النسا، لما تواجد في مقهى المستشفى ولما التقى بـ (تريزا) التي وصفها بأنها «التجسيد المطلق للصدفة» و«وأن عصافير الصدفة تحلق على كتفيها»، قد يكون هذا رومانسيًا وآسرًا لقلب الفتاة عندما تستذكر الرّفة الأولى لجناح الفراشة التي أدّت إلى إعصار الحب بينك وبينها، لكن في حالة توماس، كان هذا المعنى يتسم بالجدية في عقله، وكان وصفًا لمفهوم الحب الثقيل الذي تقيد به ولم يستطع أن ينفكّ عنه؛ صدفة اللقاء بـ (تريزا)… قبضة يدها التي اعتصرت كفّه في كل مرةٍ يستيقظ فيها من النوم… رحيلها المفاجئ، ثم التحاقه بها بحثًا عنها… قرقرات المعدة التي عكّرت حالة الصفاء الرومانسي للقائه الأول… هذه المعاني وغيرها أثقلت كاهل (توماس) فجأةً وألجمته عن خفة الروح والجسد التي يسعى إليها.

الخفة التي لا تتقيد بشروط ولا واجبات ولا إلزامات، الخفة التي تزيل عنه عبء المسئولية تجاه كل شيء. لكن… هل حقًا الحب خفيف أم ثقيل؟

يقول كونديرا على لسان (توماس):

إن الحب بينه وبين تريزا كان جميلًا لكنه كان متعبًا، كان عليه أن يخفي شيئًا ما، أن يتكتم وأن يستدرك وأن يرفع من معنوياتها وأن يواسيها وأن يتلقّى ملامات غيرتها وأحلامها وألمها وأن يشعر بالذنب… الآن قد زال التعب ولم تبقَ إلا الأشياء الجميلة.

للأسف كان (توماس) مخطئًا ومتسرعًا، لم يزل التعب، وبقيت الأشياء الجميلة وغير الجميلة، إذ اكتشف أنّه لم يحتمل هذه الخفة مع (تريزا)، ووجد نفسه يطارد هذا التعب ويلحق بهذا الثقل ليمتلكه.

هنا نحن أمام أحجية مثيرة ورؤية استعرضها (كونديرا) في طيّ الرواية؛ الحب من حيث كونه ثقيلاً أم خفيفًا، أعتقد أن الحب لو كان خفيفًا لطار مع أول هبّة ريح وامّحى بلا عودة… الحب الخفيف هشٌ لا معنى له، ولكَ عزيزي القارئ رأيك لو اختلفت. أما الصدفة، فهل تميل الصدفة مع كفة الخفّة أم كفة الثقل؟ وهل لو وصفت الحب بأنه محض صدفة أو مفاجأة… هل هذا وصف مقبول أم مرفوض؟ أنا أقبل أن أتغزل بالقدر وبالصدف غير المحسوبة.

أحجية الابتسامات الباردة

(توماس) جراح بارع وكاتب صحفي شهد محاولات الإصلاح السياسي في تشيكوسلوفاكيا عام 1968 فيما يُطلق عليه: (ربيع براغ)، وشهد أيضًا فشل هذا الربيع الذي لم يصمد سوى بضعة أيام غزا بعدها حلف وارسو الأراضي التشيكية وألقوا القبض على (دوبتشيك) زعيم الحزب الشيوعي وقائد عملية الإصلاح وزجّوا به في السجون، وقوي النفوذ الأمني وازدادت رقابة البوليس السري لحياة المواطنين والكتاب والمثقفين.

في لحظة ما قرر (توماس) أن ينشر خواطره التي تعارض الحزب الشيوعي في المجلة، واحتدمت هنا أزمة الخفة والثقل في عقل (توماس) من جديد، هل يتنازل عن بعض أفكار خاطرته؟ وهل يوافق على اقتطاع أجزاء منها؟ وهل يقبل أن ينشر مقالة أخرى فيها احتياط وتوضيح للزلل الذي ارتكبه في المقالة الأولى؟ كان رد (توماس) : «أستاذي… إنه آخر شيء يمكن أن أتمسك به في هذا العالم».

وربما كان السبب الذي دفعه إلى ذلك، أن داخلته أفكار أخرى غير النضال والكفاح، مثلًا: كان مندهشًا عندما راهن الجميع على عدم استقامته وأنه سيمتثل، بدلًا من أن يراهنوا على استقامته، مثال آخر أنّه استثقل ابتسامة الفوقية الأخلاقية التي مرّرها له أصدقاؤه المضطهدين مثله، كانوا يثبّتون ابتسامةً ثابتة باردة على وجوههم عندما يستجوبه ويسألوه: هل سينضم إلى جماعة الأخلاق والشرف المتميزين الذين ناضلوا؟ أم سيتنازل ويصبح جبانًا… وبذلك «يصبح الجبن سلوكًا عامًا للجميع باستثنائهم – أولئك الذين نالوا أوسمة الشرف المفقود».

لم يقدر (توماس) أن يفلت من أسر الثقل الذي أحاط به من الجانبين؛ ثقل الابتسامات والثقل الأخلاقي الذي سيؤنبه لو امتثل، وثقل الاضطهادات التي ستلحقه، وبالفعل، لم يمتثل وطُرد من وظيفته وانتقل إلى الريف. وهذه أحجية تطرحها الرواية، رُبما هي أكثر وضوحًا من حيث الجانب الأخلاقي، لكنها ليست بهذه البساطة من حيث العواقب، لذلك قد يختلف الأمر عند كل واحد منا لو حلّ محل (توماس).

أحجية القوة… وداعًا كارنينا

كنت أشعر أثناء قراءة الرواية بأن ذهني مرهق بالأفكار، كان الازدحام الفلسفي والدسامة التي امتلأت بها الرواية قد طوقت عقلي بغمامة تحتاج إلى من يزيل غبارها ويخفف وطأتها قليلًا، ربما تعمّد (كونديرا) ذلك وقصد أن يُعبّئ ذهن القارئ، ثم اختتم الرواية بفصل من أجمل الفصول وأمتعهم وأكثرهم إنسانية وجمالًا، والمفارقة أن هذا الفصل كُتب خصيصًا للكلبة كارنينا، ليس لها تحديدًا، بل لابتسامتها، نعم (ابتسامة كارنينا) الأخيرة وهي تودّع الحياة بعد أن أصابها السرطان وحُكم عليها بالموت.

رُبما كانت علاقة (تريزا) بالكلبة كارنينا أكثر عمقًا من علاقتها بـ (توماس)، ربما لأنها لا يشوبها التساؤلات المزعجة ولا الحيرة الدائمة، ولا يجمعهما سوى حبٌ دائم سويّ خالٍ من التوتر والرغبة والاحتياج، لذلك كان فراقها قاسيًا… وربما عندما حاولت جارة (تريزا) أن تواسيها وأن تخفف عنها الدموع وقالت لها: «ماذا دهاكِ، مهما يكن، لا يجدر بكِ أن تبكي من أجل كلبة». لم تفهم المرأة أن مواساتها انقلبت لوجع أكثر ألمًا لها.

وننتقل من كارنينا إلى أحجية أخرى أثارها (كونديرا) في روايته، وهي القوة، هل حقًا «الطيبة الحقيقية للإنسان لا يمكن أن تظهر في كل نقائها وحريتها إلا حيال الذين لا يمثلون أية قوة»؟! كانت (تريزا) ترى نفسها ضعيفة دائمًا مقارنة بـ (توماس)، وكانت (تريزا) أكثر قوة من كارنينا الكلبة، ومن هنا تنتقل الطيبة والحب مثلما ينتقل الماء بالخاصية الأسموزية من المنقطة الأكثر كثافة إلى الأقل كثافة، يقول (كونديرا): «يجدر بالضعيف أن يتعلم كيف يكون قويًا، ويرحل عندما يصير القوي أضعف من أن يستطيع إيذاء الضعيف»… وهو ما يضع القوة والطيبة –من كونها مشاعر إنسانية- في خانة الثقل؛ أن تفكّر فيما يحتاجه الآخرون وما تستطيع أن تعني به من أجلهم، هو ثقل إنساني لا يتّفق وخفة اللا مبالاة وعدم الاكتراث بالمشاعر والقضايا الأخلاقية والإنسانية.

إن هذه المقالة لم تستعرض الكثير جدًا من الأفكار الموجودة في الرواية، بل حتى لم تتحدث مطلقًا عن (فرانز) و(سابينا) البطلين الآخرَيْن، ولم تتطرق لكثير من الأفكار الفلسفية والسياسية المطروحة بكثرة فيها. لا أقول إنها مراجعة كافية وافية لرواية بهذه الضخامة الفكرية، ولكن اكتفيت فقط بأن أبسّط قدرًا من الجمال الموجود في هذه الرواية، ما يمنح القارئ سعةً للبحث عن عناصر الجمال الأخرى.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.