المعرفة واللغة: كيف توجّه اللغة تفاعلنا مع المعرفة
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
أريد أن أثير انتباهك للطريقة التي تشكل بها اللغة تفاعلنا مع المعرفة. وبما أن هدفي ليس توضيح ما هي المعرفة، ولكن كيف يتم إدراكها، سنعرّف المعرفة على أنها ببساطة معرفة الأفكار والحقائق وأيضًا معرفة الناس والأشياء. سأقوم بالتركيز على ديناميكيات «الملكية في مواجهة العلاقة» الموظفة في اللغة وتضميناتها، وسأستخدم الإنجليزية والفرنسية لتوضيح وجهة نظري. أولًا سأتدارس ضمائر الملكية في كل لغة، على أن كل ضمير يشير إلى نوع من العلاقة مع فكرة ما، ومن ثم سأغطي وظيفة أنواع المعرفة حيث أن كل نوع يتطلب معاملة خاصة، ومن هنا فهم أو طريقة إدراك المعرفة من خلال هذا الطريق. أتمنى أن أستطيع من خلاله توضيح كيف تشكل اللغة أساسيات معرفتنا. أخيرًا سأناقش بعض النتائج الفلسفية.
الملكية والعلاقة
فكرة الملكية تعني بشكل واسع أن تمتلك (من امتلاك ownership) شيئًا ما، قد يكون فكرة أو مكانًا أو شيئًا ماديًا. حاليًا أنا أشرح فكرة الملكية possession من خلال مصفاة اللغة الإنجليزية، وهذه اللغة تمتلك وجهة نظرها الخاصة عن الملكية. لاحظ الجملة الأخيرة «اللغة تمتلك وجهة نظر» وذلك يدل على أن وجهة النظر هي إحدى ممتلكات المالك (اللغة الإنجليزية). ولكن لاحظ الفرق أيضًا بين (her computer) بالإنجليزية، وبين (son ordinateur) بالفرنسية. في الإنجليزية ننسب ضمير الملكية (her) لنوع المالك (أنثى)، أما في الفرنسية فالكمبيوتر له نوع وهو مذكر وننسب فعل الملكية له (son) بغض النظر عن نوع المالك ذكرًا كان أو أنثى. في الإنجليزية لا يوجد تفريق في أسماء الأشياء (ذكر) و (أنثى)، ولكن في الفرنسية نجد هذا التفريق، فالكمبيوتر مذكر، ولذا فحتى إن كان مالك الكمبيوتر ordinateur أنثى سيظل ضمير الملكية مذكر (son).
ولكن هذا الاختلاف في استخدام ضمائر الملكية يحتوي على بعض النتائج الضمنية. (هي كسرت ذراعها she broke her arm)؛ هذه العبارة الإنجليزية توضح وجود متميز (مفارق) للجسد عن المالك فهي صاحبة الذراع الذي تم كسره. في الفرنسية أيضًا هناك وجود منفصل للجسد عن المالك (Elle s’est cassée le bras)، ولكن هنا في الفرنسية العبارة تعطي للذراع ملكيته الخاصة، فهو الذراع (المذكر le bras) الذي كسرته، وليس ذراعها الذي كسرته. هذا الجزء من اللغة يوضح كيف نتفاعل مع المعرفة، فنتعامل مع الفكرة على أنها حقيقة خاصة بمالك ما يتم الحصول عليها، أو كفكرة مطروحة يمكن مناقشتها، ومن خلال تحديد ضمير الملكية يمكن تحديد هل التعديل الواقع على الفكرة سيقع من أجل مصلحة الفكرة نفسها أو من أجل مصلحة العارف بهذه الفكرة.
المعرفة والتفاعل
يتحدد دور الشخص كمالك للمعرفة أو متآمر معها من خلال لسانه الأم. كمثال، دعنا نفترض أن شخصًا ما يدعى «تيم» (يعرف knows) أن 2+2=4، وأيضًا يعرف knows شخصًا يدعى بوبي. من الواضح هنا أن في الإنجليزية يوجد فرق في طبيعة المعرفة المبنية على الفعل (knows)، فهو إما يقع على شيء (مسئلة رياضية) أو على شخص (بوبي). يُضَمَّن هذا التمييز في الجمل المختلفة ولا يصدر بشكل مباشر، فمن خلال الجملة وبشكل غير مباشر نفهم أن 2+2=4، حقيقة رياضية، ولكن تلك المعرفة الخاصة بالشخص (بوبي) قد نفهم منها أنها سطحية «أنا أعرف (know) شخصا يدعى بوبي» أو قد تكون معرفة عميقة «أنا أعرف know أن بوبي صديق وفي». لدى تيم خياران للتفاعل مع المعرفة: بإمكانه أن يختار أن يعرف كيانًا عبر نوع من الهيمنة، عن طريق استحضار (تذكر memorizing) مجموعة من البيانات عنه، أو يختار أن يعرفه من خلال الدخول معه في نوع من المحادثة تتطلب تنشيط التفكير النقدي والتحليل، معرفة تتطلب نوعًا من الحميمية وليس تذكرًا متكررًا كحديث الببغاوات. الإنجليزية تعتمد على نوع من التضمين للأدلة عند استخدام الفعل يعرف (knows) تشير إلى أي نوع من المعرفة تحتويه المعطيات.
ولكن في حين أن الإنجليزية فقط تتضمن الفروق بين نوعي المعرفة، تشير الفرنسية مباشرة لهذه الفروق. فالفعلان (savoir) و (connaître) بمعنى يعرف؛ ولكن الأول -savoir- يأتي ليعبر عن الحقائق (أنا أعرف أن اثنين واثنين يساوي أربعة je sais que deux et deux sont quatre)؛ أما الآخر -connaître- فيأتي ليعبر عن المعرفة الحميمية (familiarity) كمعرفة شخص أو فكرة (أنا أعرف بوبي je connais bobby). هنا يظهر الفارق بين معرفة شيء بشكل صارم ومعرفة شيء بحميمية غامضة؛ وذلك بالتفريق بين الطريقتين المختلفتين للتفاعل مع المعرفة: التذكر والحميمية (memorizing vs familiarity). بكلمات أخرى تحدد اللغة كيف يتم إدراك المعرفة سواء كانت حقائق يتم اكتسابها أو أفكارًا تتم مناقشتها، وذلك اعتمادًا على إذا كانت المعرفة مبنية على حقيقة تجريبية أو على مفهوم مجرد، حيث أن الفرق بين التذكر والحميمية مضمن فقط في الإنجليزية، ويذكر مباشرة في الفرنسية.
المعرفة في مقابل التفكير
تحدد اللغة أي اتجاه في تفاعلنا مع المعرفة (طريقة المعاملة و/أو النوع) سنعطيه الأهمية الأكبر. فالإنجليزية تستخدم كثيرًا من الأسماء والصفات والأحوال لتعطي وصفًا مرئيًا لمصطلحات وصفية محددة. أما الفرنسية فتعتمد على أوصاف أوسع، ولكنها تؤكد على الحاجة لتوضيح إذا كان جزء من المعرفة ينتمي للحقائق أو للمعرفة الحميمية.
ما هي الأهمية الفلسفية لهذا؟، اعتمادًا على إذا كان المتحدث يركز على طريقة التفاعل مع المعرفة، أو الطريقة التي تتفاعل بها المعرفة، نصل لتصورين مختلفين تمامًا للمعرفة. لو النوع الخاص بالتفاعل مع المعرفة تم تأكيده، تحديد الأولية هذا قد يقود للتعامل بنفس الطريقة مع مواد أخرى، كالأماكن والأشخاص مثلًا. فلنأخذ كمثال مبدأ كانط الغاية-الوسيلة. فيقول كانط إننا يجب أن نتعامل مع الناس كغايات في ذواتهم، وليس كوسائل لتحقيق غاياتنا. في هذا المبدأ، يؤكد كانط أنه ليست صفات الوجود هي المستخدمة كوسائل، ولكن طريقة تعاملنا وتفاعلنا معه هي الوسائل. أيضًا ديكارت يركز على تفاعل العقل مع العالم الخارجي، وينصحنا بعدم الوثوق بحواسنا فيما يتعلق بالعالم الخارج عن تفكيرنا الواعي. اللغة توضح لنا كيف نعطي الأولوية للأفكار، فعل إعطاء الأولوية لأفكار على أخرى تمليه علينا اللغة.
الاعتراف بهذا التمييز ربما لا يجعلنا نتخلص من تأثير اللسان الأم على التعامل مع المعرفة؛ ولكنه قد يعطينا وعيًا جيدًا بكيفية تفاعلنا مع المعرفة من خارج مملكة المعايير والافتراضات اللغوية. الاعتراف باختلاف الطرق التي ندرك بها المعرفة ربما يساعدنا على فهم العلاقات التي نستخدمها في المعرفة. هذا الوعي ربما يساعدنا على توضيح الغموض والتأطير في استعمالنا لمفهوم المعرفة؛ بينما ربما لا يكون هناك صورة موضوعية واحدة لمفهوم المعرفة، سنكتسب بصيرة مؤطّرة لتجليات مختلفة لمظاهر المعرفة.
سواء كانت أم لم تكن اللغة أصل معتقداتنا وتصوراتنا، كما ناقش البعض، من الواضح أنها مساهم مهم في تشكيل تصوراتنا. إنها العدسات التي من خلالها نبني أفكارنا ومعتقداتنا عن العالم. وعلى الرغم من عدم قدرتنا على الهرب من محدودية عدسات لغتنا الأم، فالاعتراف بالطرق المختلفة لإدراك المعرفة في اللغات الأخرى ربما يساعدنا على فهم مناهجنا الفلسفية في التعامل مع المعرفة. ربما أيضًا تساعدنا على ممارسة الفلسفة بحساسية أكبر تجاه الطرق التي تتفاعل بها المعرفة خارج معاييرنا اللغوية. ربما لا يحل هذا مشاكلنا الفلسفية؛ ولكنه سيساعدنا على التفكير خارج صناديقنا اللغوية لإدراك حدودها والارتفاع عنها لتحليل أفكارنا المسبقة التي تقيد تصوراتنا.