خيطٌ رفيع هو ما يفصل بين كل نقيضين في حياتنا، نمشي عليه خائفين من الوقوع على أي جانبٍ من جانبيه، في لحظة تمردٍ نُمسك بالخيط راغبين في تدميره، لكن في لحظة إبداعٍ نرفعه للسماء فيصبح الخيط الواصل بين يديك وبين السحاب.

الأرض مزدحمة بالناس، أنت واحدٌ ممن يصنعون الزحام وممن يشتكونه، تفر من الكون إلى شاشة هاتفك المحمول، فضاء أزرق يحتوي عقلك يأخذك لعالم آخر تصنعه بنفسك. ازدحم فضاؤك الأزرق بالأخبار، والأرض أُغلقت على من فيها، ورقبتك تأذَّت من طول الانحناء على شاشة الهاتف، فهلا رفعت رأسك ووضعت هاتفك جانبًا، سنصعد الآن للسحاب.

التقط خيطًا رفيعًا أمسكه قبلك فلاحٌ صيني ليربط به قبعته كي يستطيع التقاطها إذا غازلتها الرياح فأزاحتها بعيدًا عنه، لكن الفلاح رأى القبعة ترتفع في كل مرة أكثر فأكثر، تعانق الرياح ويرقصان معًا، أطال الخيط مرةً بعد مرة، فقد كان طيبًا لا يريد أن يكون السبب في فراق قبعته والرياح، فوُلد من خفة روحه اختراع عالمي، رأيتَه بالتأكيد منشورًا في فضائك الأزرق الافتراضي باسم «الطائرة الورقية».

يختلف الرواة في تحديد من اخترع الطائرات الورقية، إما الفلاح الصيني، أو بحار صيني. يقولون إن بحارًا ابتكر الطائرة الورقية لتخبره عن اتجاه الرياح، ولو كنا في زمن يسمح بسرد الأساطير لقلت لك إنها ربما كانت رسالة استغاثة أرسلها بحارٌ مُنهك للرياح كي تساعده في سحب السفينة، فاستجابت له الرياح وعانقت الطائرة لترقص معها رقصة حياةٍ مثلما فعلت مع قبعة الفلاح.

سلاح أقوى مما تتخيل

لكن لا وقت للأساطير، فالحقيقة إذن أن الرواة يختلفون في تحديد المهنة لكن يتفقون أن أصل الطائرات الورقية صيني. ولأنه لا وقت للرومانسية كذلك، لذا فبعض المؤرخين يقولون إن الهدف من اختراعها كان عسكريًّا في المقام الأول. ففي عام 1200 قبل الميلاد صنع الصينيون الطائرات الورقية وصبغوها بألوان مختلفة متداخلة، فيُعتبر اللون بمثابة إشارة تم الاتفاق عليها مسبقًا.

وأحيانًا كانت الطائرات الورقية رحيمةً بالطيور كما هي رحيمةٌ بك الآن، تريحك من عناء يومك وترسم البسمة على وجه طفلك، فكانت تُريح الحمام الزاجل المُستخدم لنقل الرسائل، وترسم البسمة على وجه الرسل المنهكين من رعب نقل الرسائل السرية في أوقات الحروب، وكان الصينيون يستخدمونها لذلك الغرض.

النقوش الصينية القديمة على الجدران الأثرية، وبعض الرسوم على قطع حريرٍ قديمة، أو حفر على أخشاب عتيقة، يظهرون رسومًا لأطفالٍ يحملون طائرات ورقية تحلق في السماء. كانت الطائرات في يد الأطفال صغيرةً، بينما الطائرات في يد الجنود فوق المباني الشاهقة كانت ضخمةً، وفي الحالتين يكون ذيل الطائرة بارزًا ومُتقنًا، ما يلفت نظرك إلى حقيقة شديدة الأهمية يجب أن تراعيها وأنت تصنع طائرتك الخاصة، الذيل ليس أكسسوارًا، بل مُكونًا حيويًّا للغاية.

طارت الطائرات من الصين إلى باقي العالم، اخترقت المجالات الجوية للدول بوصفها سلاحًا عسكريًّا لنقل الرسائل، وأحيانًا كرسائل إنذار مثل إشعال نار على قمة جبل قديمًا، أو حديثًا كالطلقات التحذيرية المضيئة التي يطلقها التائهون في الصحارى والبحار. لكن الطائرات الورقية لم تخترق الدول الأخرى بهيكلها الضعيف فحسب، بل بالأساطير الصينية التي نُسجت حولها.

أسطورة منها تحكي عن قائد صيني أراد محاصرة قصر إمبراطوار مُعادٍ عام 206 قبل الميلاد، بعد أن سار كثيرًا أوشك على التراجع، فأراد أن أن يعرف المسافة التي تفصله عن القصر الإمبراطوري الذي يراه منذ أيام لكن كلما سار شعر أنه لا يقترب. أطلق القائد طائرة ورقية، ولما رآها اقتربت من أسوار القصر، حسب طول الخيط بينه وبينها ليعرف كم تبقى له تحديدًا.

أسطورة أخرى تحكي عن ملك صيني حاصره أعداؤه وسدوا كل الثغرات التي يستطيع بها إخبار حلفائه عن الحصار ليطلب عونهم، لكن السلاح الذي لا يستطيع الأعداء قطعه، حتى لو رأوه، هو طائرة ورقية. فأطلق طائرةً رآها حلفاؤه فجاؤوه.

فيروز تخبرك 4 حقائق

السيدة فيروز ترفض ما يقوله العسكريون، وتخاطب الطائرة قائلةً:

طيري يا طيارة طيري يا ورق وخيطان.
 بدي أرجع بنت صغيرة على سطح الجيران،
وينساني الزمان على سطح الجيران.

في أغنية فيروز أربع حقائق، الأولى، أن الطائرة كانت تُصنع من الورق، لأن القدماء لم يعرفوا البلاستيك المُستخدم الآن. لكن الورق كان آنذاك سلعةً باهظة الثمن، لا يملكها إلا النبلاء وعلية القوم، لذا فالطائرات الورقية كانت آنذاك حكرًا على الجيش، ومن بعده على النبلاء، فارتبطت الطائرات الورقية بالرفاهية، وتشابك ذكرها مع ذكر فراغ الوقت.

والثانية أن الطائرات الورقية، وورق وخيطان، إذن فهي أضعف من أن تستمر في عملها كسلاحٍ عسكري، يجب عليها أن تتقاعد عن الخدمة العسكرية وتدخل في مجال الترفيه. رغم أن الصينيين لم يقتنعوا بتلك الحقيقة بسهولة، بعض الكتب قالت إن الصينين صنعوا طائرات كبيرة الحجم وقوية الهيكل بما يكفي لحمل رجلٍ قليل الوزن في الهواء يستطلع من خلالها معسكر العدو، وأحيانًا يلقي منها بعض المنشورات على جنود الأعداء لتهديدهم وحثهم على الاستسلام.

أما الحقيقة الثالثة، فهي أنه يجب عليك اختيار المكان المرتفع مثل السطح، فهو أفضل مكان لتنطلق منه طائرتك. يمكن أن تطلقها من الأرض، لكن ذلك سوف يسلب منك بضعة أمتار غالية، قد تكون هي الفاصل بين أن تكون طائرتك تحت السحاب أو فوقه، ومتعتك بطائرةٍ جاوزت السحاب أضعاف طائرة أسفله، أليس الوجود فوق السحاب هو حلمك الدائم، فاسمح لطائرتك أن تُمنحك جزءًا منه مؤقتًا، لكن الأهم، حاول ألا تسقط من فوق السطح أو من فوق السحاب.

الصينيون المتأخرون يوافقون السيدة فيروز في أن الطائرة لا تصلح كسلاح للأبد، لذا دخلت حياتهم اليومية ليس كلعبة، بل كعلاجٍ أيضًا. فإذا كنت تشعر براحةٍ نفسية أثناء إمساكك بخيط طائرة ترتفع في السماء، أو كنت تشعر بمتعة في مشاهدتها تطير، أو حتى كنت تتصارع مع طفلك ليسمح لك بإمساكها بضع دقائق، فأنت لست تافهًا كما تخبرك زوجتك الواقفة خلفكما، بل أنت تمارس علاجًا صينيًّا قديمًا.

أما الحقيقة الرابعة فهي أن فتاةً رقيقةً مثلها كانت تُحلِّق بطائرة ورقية، فلا داعي لتمنع بنتك أو زوجتك أو أختك من التحليق بالطائرة. وأنت يا سيدتي، انطلقي بالطائرة، فالسيدة فيروز سبقتك.

أنت لست تافهًا: الطائرة علاج نفسي

آمن الصينيون أن من أطلق طائرةً حتى ارتفعت للسماء ثم تركها ترحل، فقد أبعد معها أمراضه وأوجاعه الجسدية والنفسية وحظه السيئ. أشعر بصدمتك من تخيل أنك بعد كل العناء في صنع الطائرة وتزيينها تتركها بإرادتك الحرة تُفلت، لكنه إفلاتها هو دواء أمراضك، والدواء دائمًا مُر، ولا بد لكل شيء من ثمن.

أما إذا كنت ممن يتربصون بالطائرات المتساقطة لتسرقها، فالصينيون يتوعدونك بالحظ السيئ والنحس الدائم والمشكلات التي لا تنقضي. أما إذا كنت في أفغانستان فالأمر مختلف هناك، فأنت لا تُدعى سارقًا، بل مطارد طائرات ورقية. الطبيب الأفغاني الأمريكي، خالد حسيني، في رواية «عدَّاء الطائرة الورقية» يقول إن مسابقة الطائرات الورقية تُعد تقليدًا شتويًّا دائمًا قي أفغانستان. يضيف، على لسان بطل الرواية، أن المسابقات تبدأ في الصباح ولا تنتهي حتى تُحلق الطائرة الرابحة وحدها في السماء.

حين ينقطع خيط طائرة من تلك الطائرات أو تسقط لأن لاعبًا آخر قطع حبل طائرة المنافس، يعدو إليها مطاردو الطائرات ولا يتوقفون عن العدو حتى يحصلوا عليها، ومن يحصل عليها أولًا لا يستطيع أحد انتزاعها منه. لكنه يروي أيضًا أن أحدهم تسلق شجرةً ليلتقط طائرةً معلقة فيها، فانكسر الجذع وسقط العدَّاء ليُصاب بشللٍ دائم منعه من المشي للأبد. إذن، قد لا يكون اسمك سارقًا في أفغانستان، لكن يبدو أن الأساطير الصينية بخصوص نحس الطائرة المنكوبة قد تصدف أحيانًا.

ومن تلك الأساطير أيضًا أنه إذا سقطت طائرة في بيتك، وأردت إعادتها لأصحابها، فعليك أن تثقبها ثقبين ليُبدد الجار حظه السيئ. وإذا كنت أنت صاحب الطائرة التي انقطع خيطها فلا ينصحك الصينيون باستردادها، بل يدفعونك لتحطميها بنفسك لأنها نذير شؤم.

الصقور الورقية تحكي الغيب

هل تعلم أن الدستور الياباني الحديث ينص على أن الدولة اليابانية يجب ألا تشارك في أي حرب، وأن جيشها جيش دفاعي فحسب. يُخبرك ذلك أن اليابانيين يميلون للسلم والهدوء، لذا فحين رأوا الطائرات الصينية لم يفكروا بها كسلاح، بل وسيلة ترفيه أو طقس ديني فحسب.

فقد أطلقوها في بدايات القرن السادس الميلادي كنوعٍ من الطقس الديني، فهي رمز الحظ السعيد والازدهار والخصوبة، وأحيانًا حين تُطلى بألوان داكنة ورسوم مخيفة تصبح ممثلًا عن الأرواح الشريرة الغائبة.

وكعادة الطقوس الدينية فإن لها موعدًا ثابتًا سنويًّا، فيحتفل بها اليابانيون في 5 مايو/ آيار من كل عام، في مهرجان الأطفال. تُصنع لكل طفل طائرة تحمل اسمه وتُحلق في السماء، بعض الطائرات ترسم عليها السلاحف كرمزٍ للعمر الطويل، وبعضها يُرسم عليه سمك «الشبوط» كرمزٍ للشجاعة. سمك الشبوط يمتاز أنه يسبح ضد التيار كي يصل إلى مكان مناسب لفقس بيضه، لذا يُعتبر رمزًا للشجاعة التي يجب أن يكبر عليها الطفل.

المختلف عند اليابانيين أنهم لم يعرفوها باسم «الطائرات الورقية» بل سموها الصقور الورقية، وأول ذكر لها كان في قاموس ياباني جُمع عام 981 ميلادية. ويقول اليابانيون إن البوذيين استخدموها لأغراض دينية، كما اعتادوا أن يربطوا فيها بعض أغصان القمح عند طيرانها طلبًا للمحصول الوفير. وباعها اليابانيون في الأضرحة والمعابد كأداة مسحورة تُستعمل لطرد المرض والحظ السيئ.

في البدء كانت الطائرة الورقية

على عكس الأرض فالسماء أرحب، وبينما يمكن إخفاء جيش في الأرض، لا يمكن إخفاء طائر في السماء، لذا جابت الطائرة الورقية العالم أجمع. بعض الرسومات الرومانية تُظهر أن الرومان استخدموا الطائرات الورقية كراياتٍ حربية، دلالةً على الشموخ، فالجيش ضخم لدرجة أن الراية القماشية العادية لن تكون ظاهرةً لآخر الجيش، لذا فالبديل هو راية تشق السماء دون توقف.

يمكن للطائرة الورقية أن تحكي لك تاريخ الإنسان كاملًا، فقد شهدته وحشًا همجيًّا لا يبالي إلا بالدماء والغزو، وشهدته ضعيفًا يؤمن بالخرافة والأساطير، وشهدته مخترعًا بارعًا يخترع الورق، وشهدته فنانًا دقيقًا ينقش على الحجر والخشب، وأخيرًا شهدته عالمًا يهرول وراء التجربة لا النظرية، ويسعى لضبط كل شيء بمنطقٍ علمي بحت.

عام 1789 في اسكتلندا، السير ألكسندر ويلسون ربط عدة طائراتٍ ورقية في خيط واحد لكن على ارتفاعات مختلفة، وعلى كل طائرة مقياس لتسجيل درجة حرارة الجو. أطلق ألكسندر قطاره العمودي من الطائرات، ثم أعاده مرة أخرى للأرض، ومعه دليل على اختلاف درجات الحرارة في طبقات الجو.

ثلاثة أعوام لاحقة، بنجامين فرانكلين، اسم يبدو مألوفًا للغاية في السياسة الأمريكية، فهو من أبرز الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية، لكن الطائرة الورقية تعاونت معه بوصفه عالمًا لا سياسيًّا. فرانكلين أطلق بمساعدة ابنه طائرة ورقيةً مثبت فيها عمود معدني، طائرة استثنائية أُطلقت في ظروف استثنائية كذلك، في عاصفة رعدية. العمود المعدني امتص ضربة البرق فلم يحرق الأشجار، فأثبت فرانكلين بذلك أن البرق ظاهرة طبيعية ليس غضبًا من الآلهة كما اعتقد العالم لفترة طويلة، كما أثبت أن له خصائص الكهرباء.

إذن، فالطائرة الورقية هي التي أهدت للأمريكيين الأعمدة التي ترتفع على بيوتهم حتى اليوم لتحتوي البرق وتقنعه ألا يحرق بيوتهم. لكن لا تحاول أن تُعيد تلك التجربة الآن، فحوادث الطائرات الورقية قد تكون مميتة.

المعجزة الصادقة ومسيلمة الكذَّاب

بعض المخطوطات القديمة تُشير للطائرات الورقية بـ«غراب النار المقدس» لأن الجنود كانوا يضعون في ذيلها نارًا تزداد كلها ارتفعت في الهواء، حتى يسقطها الجنود على خيام أعدائهم. أبناء فلسطين اليوم أعادوا بعث تلك الأسطورة، فبعض أطفال فلسطين أطلقوا عشرات الطائرات الورقية ضد الجانب الإسرائيلي في «مسيرات العودة». لكنها كانت طائرات حارقة يحتوي ذيلها على علبة معدنية بداخلها قطعة قماش مغموسة بالسولار وتشتعل فيها النيران.

أبناء فلسطين لم يكونوا أول من يستخدم الطائرات الورقية لإيصال رسالة، فقد سبقهم الصينيون واليابانيون، ومسيلمة الكذَّاب.

ببيضة قارور وراية شادن … وتوصيل مقصوص من الطير جادف

هذا ما يرويه الجاحظ في كتابه «الحيوان» عن حيل مسيلمة كذاب لإقناع العرب بنبوته، فيقول الجاحظ إن مسيلمة كان يضع البيض في الخل طويلًا حتى يصبح البيض ككرة مطاطية فيُدخلها في قارورة ضيقة دون أن تنكسر. أما الثانية فـ «راية شادن»، الاسم الذي عرف العرب به الطائرة الورقية.

يقول إن مسيلمة صنع عدة طائرات ورفعها في السماء، وفي ذيلها وضع بعض حلقات معدنية لتصدر صوتًا حين يضربها الهواء في بعضها، ونادى في العرب قائلًا: «إن الملائكة تنزل عليَّ وهي ذوات أجنحة، ولمجيئها زجل، وخشخشة، وقعقعة؛ فمن كان منكم ظاهرًا فليدخل منزله، فإن من تأمل اختطف بصره».

يُعلق الجاحظ بكلامٍ نصه: «صنع راية من رايات الصبيان التي تُعمل من الورق الصيني ومن الكاغد وتجعل لها الأذناب والأجنحة وتعلق في صدورها الجلاجل وتُرسل». والكاغد تعني أيضًا الورق الصالح للكتابة، أو كما عرفه العرب آنذاك، القرطاس.

الطائرات الورقية المقاتلة

إذا كنت ممن يفكر في صناعة أكبر طائرة ورقية في العالم أو حتى في شارعك، فاطمئن، أنت لا تفعل ذلك بدافع الفراغ كما تخبرك أسرتك، بل أنت تشارك في سباق عالمي لن ينتهي. عام 1983 أقام اليابانيون مسابقةً لصناعة الطائرات الورقية، جذبت تلك المسابقة عددًا كبيرًا من الفنانين الذي أبدعوا في أشكال الطائرات الورقية، كذلك يُقام مهرجان دولي للطائرات الورقية في فرنسا. تلك المنافسات جعلت العالم يدرك أن شكل ووزن وحجم ومواد صناعة الطائرات، كل شيء، كل شيء يمكن أن يتغير، المهم أن تبقى النسب ثابتة.

أليس الهدف الأسمى للفن أن يتسامى بروح صاحبه، أن يحمله للأعلى فوق السحاب، حيث الهدوء والرحابة؟ إذا كنت متفقًا أن هذا هو هدف الفن حقًّا، فلنعترف إذن أن الطائرات الورقية هي تكثيف الفن وملخصه. لكن لتحملك الطائرة الورقية للأعلى عليك أن تساعدها بتزويدها بخيطٍ قوي، ليس سميكًا أو ثقيلًا، يجب أن يكون خفيفًا ليساعدها في التحليق، لكن يمتاز بالقوة. أما طول الخيط فيتوقف على حسب المقدار الذي تريد أن تصل إليه في السماء.

لكن كعادة الإنسان في العودة إلى الوحشية بعد الحضارة، وفي تسليح كل ما هو سلمي، فقد أقيمت مهرجانات للطائرات الورقية المقاتلة. كل طائرة ورقية يوضع عليها قدر من شظايا الزجاج وأنصال حادة لتقطع خيوط وهياكل الطائرات المجاورة. تلك المهرجانات تقام في الصين وكوريا واليابان وأفغانستان، والمفاجأة أن أكثر من يبرع في هذه المسابقة هم أبناء مدينة ناجازاكي اليابانية، فكأنما يثأرون في الطائرات الورقية من طائرةٍ واحدة يتمنون لو حطموها قبل ان تحطمهم بالقنبلة النووية.

إذن، فالطائرة التي بين يديك الآن هي حلقة الوصل بين إنسان اليوم وإنسان الماضي، فهي أكبر حلم لطفلك الآن، وأول حلمٍ تحقق للإنسان القديم بجعل شيء يطير في الهواء. والخيط الذي تمسكه في يدك، هو حلقة الوصل بينك وبين السماء، فأطلق له العنان أكثر، فسوف يحملك فوق همومك، ويتسامى بك بعيدًا عن جسدك الذي أسرته الجاذبية.