فيلم «كيرة والجن»: بين ضخامة الإنتاج والشخصيات النمطية
لدى فيلم «كيرة والجن» المعروض قبيل موسم عيد الأضحى ومستمر خلاله سمة ليست في بقية منافسيه، وهي تسميته بأسماء صناعه وليس نجومه، هو فيلم لمروان حامد وأحمد مراد، على الرغم من تصدر أحمد عز وكريم عبد العزيز، وهما من كبار النجوم المصريين، ملصقه الدعائي، يملك الفيلم عنصرًا يندر وجوده في السينما المصرية الحالية، وهو انتماؤه لسينما المؤلف، المصطلح الذي يعني عادة سيطرة أسلوبية المخرج ورؤيته على العمل، لكن في حالة كيرة والجن فإن مسمى المؤلف يمكن قسمته على اثنين وهو المؤلف الفعلي أحمد مراد والمخرج مروان حامد، خاصة مع تكرار تعاونهما معًا، مما جعلهما أشبه بثنائية سينمائية ناجحة.
يختار الثنائي في تعاونهما الخامس اقتباس رواية 1919 لأحمد مراد في مشروع ضخم في حجمه ومدته الزمنية، ينقل فريق العمل فترة محددة تمتد لأعوام إلى شاشة السينما، يصيغ ما يمكن تسميته بالملحمة الوطنية التي تضم فئات متعددة من الشعب المصري في فيلم يصعب تصنيف نوعه، فهو فيلم حركة درامي تاريخي، كوميدي أحيانًا وتراجيدي أحيانًا أخرى، تتسم كل عناصر الفيلم بالضخامة، من أول الأسماء المختارة، ففي كل لقطة يمكن مشاهدة نجم سينمائي من جيل أو آخر، إلى حجم المؤثرات البصرية ومقياس المعارك والمجاميع، ينتج عن ذلك التفكير في التفاصيل والحجم تجربة سينمائية مثيرة في لحظات، وفي لحظات أخرى تصبح متابعتها مرهقة، فيلم تندمج فيه السمات التي تجعل أبطاله ذوي شعبية وما يجعل صناعه ذوي أهمية فنية، لكن موازنة الاثنين معًا يصبح تحديًا يصعب كسبه.
العوالم المختلقة ومن يسكنونها
تبدأ أحداث كيرة والجن من حادثة دنشواي، ويتحرك من الحادث التاريخي العام ليسرد التاريخ الشخصي لشخصيته الرئيسية، فأثناء المذبحة المروعة يُقتل والدا كيرة، أو أحمد كيرة (كريم عبد العزيز) وهو المحرك الذي سوف يجعله جزءًا وقائدًا لجماعة سرية تقاوم الاحتلال الإنجليزي في الأعوام البادئة من 1919 والمستمرة بعد ذلك.
يقدم الفيلم أبطاله واحدًا بعد الآخر من خلال صوت راوٍ مسموع يعرفنا بهم وبأسباب مشاركتهم في المقاومة، لكن يركز بشكل رئيسي على كيرة، وصديقه المستقبلي الجن، عبد القادر الجن (أحمد عز)، كل من البطلين متضادان في سماتهما الشخصية مما يحدث تناقضًا يحرك الأحداث، ويولد الكوميديا أحيانًا، تتحرك أحداث الفيلم على نطاق زمني واسع، في سلسلة متتابعة من المشاهد القتالية والعمليات السرية للمقاومة، على خلفية تاريخية متقنة الصنع، من الشوارع المصرية الشهيرة حاليًّا، والتي لا تزال تحتفظ ببعض ملامحها حتى الآن إلى تصميم المعارك المطولة الدائرة على خلفية من الموسيقى الملحمية التي لا تتوقف.
خلق عوالم مفصلة هو ما جعل مروان حامد مخرجًا ذا اسم مستقل، مستقل حتى عن شهرة والده المؤلف وحيد حامد، منذ فيلمه الأول عمارة يعقوبيان استطاع حامد برؤية حساسة خلق عوالم يمكن تصديقها تمامًا، تسكنها شخصيات كجزء لا ينفصل عنها، ويخرج عن تلك العوالم وتلك الشخصيات مشاهد أيقونية أصبحت جزءًا من وعي جمهور السينما المصري بدون جهد حقيقي، عوالم فوضوية بصريًّا، لكنها محكمة دراميًّا وكتابيًّا، كاميرا دائمة التحرك وشخصيات ديناميكية داخليًّا وخارجيًّا، وهو ما يمكن رؤيته بوضوح في فيلم مثل إبراهيم الأبيض الذي احتوى شخصيات أيقونية، تسكن عالمًا فوضويًّا تتحرك بعشوائية، فيلم ذو تصميمات قتالية غير أنيقة لكنها مؤثرة، دموية وخالدة، لكن على كل فوضويته البصرية يمتلك خطوطًا درامية واضحة ومحكمة تسلك دائرة تمتد من بدايته إلى نهايته.
مع بدء تعاونه مع أحمد مراد صقل مروان حامد أساليبه، خاصة مع استمرار فريق عمله الأثير، خصوصًا المؤلف الموسيقى هشام نزيه، يمكن دائمًا التقاط ثيمات معينة تجمع بين عين حامد وموسيقى نزيه مما يخلق كتلة مشهدية واضحة، لكنه تطور نحو أسلوبية أكثر تنميقًا، أصبحت أفلامه أقل في الفوضوية البصرية وذات فوضوية درامية، يمكن من حين لآخر رؤية الروح البصرية الديناميكية السابقة في طبيعة حركة الكاميرا ومشاهد القتال المقربة التي يتناثر منها الدم وتتحرك داخلها الشخصيات وكأنها في دوامة لا تتوقف، لكن اختفت الطبيعة الدائرية المحكمة للسرديات نفسها، فأصبحت أفلام الثنائي، بعدما أصبحا ثنائيًّا، أشبه بعملية خلق عوالم مستمرة وقوية، لكنها لا تحوي شخصيات تسكن تلك العوالم بدون انفصال.
يمكن بسهولة رؤية ذلك في كيرة والجن، فعلى الرغم من حجم المجهود المبذول في خلق العالم التاريخي عن طريق أزياء المصممة ناهد نصر الله والمكياج وتصميم المواقع المتقن، فإن صناع الفيلم لا يملكون سطوة على نجومه، لا تتحول الشخصيات في أي لحظة إلى جزء من العالم الذي يصيغه الفيلم، خاصة أحمد عز الذي يتحرك ويتكلم كشاب من الألفية الثالثة من القرن الواحد والعشرين، وليس كسكير في طريقه للتحول إلى بطل في أوائل القرن العشرين، يتلفظ عز بكل نكاته الرجولية المعهودة، ويتحرك وكأنه هو نفسه في أزياء تاريخية مختلفة، يخرج كريم عبد العزيز من ذلك الوصف في بعض الأحيان ويتلبس شخصيته بشكل يمكن تصديقه، لكن معظم شخصيات الفيلم الأخرى تملك السمة الأولى، لا يوجد ما يميزهم كشخصيات تاريخية عن شخصياتهم الحقيقية كممثلين، يركز الفيلم بشكل رئيسي على شخصيتي كيرة والجن الذي يحمل اسميهما، لكن الثنائي حامد ومراد صاغا فيلمهما كفريق من المنتقمين، على غرار منتقمي مارفل أو العظماء/الساموراي السبعة، وجعلوا المقاومة مكونة من سبعة أشخاص فعلًا.
بناء الشخصيات كأنماط جاهزة
يبدأ كيرة والجن في تقديم شخصياته كفريق متكامل من المقاومين المنتقمين، يعرفنا أسماءهم وسمات شخصياتهم الأساسية التي تضم ديانات متعددة وأصول متنوعة، سواء كانت مصرية أو من خارج مصر، لا يمضي الفيلم أي وقت أو جهد في تقريب تلك الشخصيات من المتلقين بعيدًا عن كونهم ديانات أو جنسيات مختلفة، على الرغم من طول مدة عرضه، لكنه يصور نفسه وكأنه ملحمة تقودها مجموعة متنوعة من الأبطال، يلقى هؤلاء الأبطال مصائرهم واحدًا تلو الآخر دون تأثير يذكر، فنحن لا نعرفهم أو نتعاطف معهم، بل إن بعضهم لا يملكون أصواتًا حرفيًّا، هم مجرد رموز لأقليات يستحسن ألا نسمع صوتها، أكثر الأمثلة تطرفًا على ذلك هو شخصية راغب (علي قاسم) الذي يوصف فقط بأنه يهودي أبكم، فهو أقلية مصرية لكن من الأفضل تهميشه لأبعد حد، إلى الحد الذي يفقد فيه صوته حرفيًّا ومجازيًّا.
بعيدًا عن إفقاد الصوت الحرفي فإن الفيلم يختزل مقاومته النسائية في شخصية دولت فهمي (هند صبري)، امرأة صعيدية مسيحية، توفر على الفيلم تنويع الأقليات، تمضي دولت النصف الأول كله من الفيلم تقريبًا دون جمل حوارية، تبدأ في التعاطي بالكلام فقط حين يعطيها الجن اهتمامًا ويقع في حبها ويصلح طهرُها وشجاعتها فلتاتِه الأخلاقية ويصبح رجلًا أفضل، بعيدًا عن كونها عنصر حب لأحد الأبطال فإن دولت تأثيرها محدود، والاهتمام المعطى لشخصيتها محدود، لكن لسبب ما تلقى هي أمام الكاميرا أقسى عقاب حدث طيلة أحداث الفيلم، تتركز الكاميرا على المأساة التي تحل بها أكثر مما ركزت على الانتقام من أي إنجليزي في الفيلم، وهو ما يعطي إشارات مزدوجة وغريبة عن طبيعة تمثيل العنف في فيلم مقاومة ضد الاحتلال.
يستمر الفيلم في تمثيله الملتبس للشخصيات النسائية والأقليات، فيعطي روبي دور زوجة مدجنة لكيرة، تتواجد فقط لكي ينتهي دورها مبكرًا وتتسع المسافة أمام البطل لقصة حب مزدوجة الجنسية مع فتاة إنجليزية (رزان الجمال) كتب لها دور أشبه بأدوار أميرات ديزني المتمردات على رفاهية العيش في القصور، تؤدي قصص الحب للبطلين دورًا في زيادة القرب منهما وإعطائها ما يمكن خسارته، فتتكثف رحلتهما الشخصية والتاريخية، لكن يحدث ذلك على حساب رسم شخصيات ثانوية أكثر قوة وتأثيرًا.
كوينتين تارانتينو بنكهة مصرية
يقتبس الفيلم الكثير من روح فيلم كوينتن تارانتينو الشهير أوغاد مغمورون (inglourious basterds) ، في بعض السمات البصرية والسردية، مثل الخطر المهدد في كل مشهد بكشف المقاومة لوقوع مقرها أسفل المقهى الذي يقضي فيه أفراد الاحتلال وجنوده أوقاتهم، لكنه بسبب ذلك التأثر يملك أجواءً ملتبسة، ولا يملك -tone- أو مزاجًا موحدًا، فهو ليس ساخرًا كفاية لتحمل كل الكوميديا الصادرة عن شخصية الجن مثلًا، وليس ميلودراميًّا كفاية ليتحمل نهايات تراجيدية غير مرضية لأبطاله، ولا ثوريًّا كفاية تاريخيًّا لإعطاء وزن لشخصياته من الأقليات والنساء، لكنه ينجح حينما يركز على كونه دراما تاريخية لصديقين buddy film، حينما يركز على علاقة كيرة بالجن على اختلافاتهما وحبهما بعضهما لبعض، واستعدادهما التام للتضحية بالنفس أحدهما من أجل الآخر، ذلك التأثير الذي ينجح في خلقه بالتركيز على علاقة الصداقة يجعل من بناء الفيلم كنسخة مختلفة من العظماء السبعة أداة سردية تمثل عبئًا على تركيزه الرئيسي.
يقفز الفيلم في ساعاته الثلاثة زمنيًّا إلى الأمام مرات بعد مرات، دون ذروات حقيقية تبرر تلك القفزات، بل يصيغ ذروات قصيرة بعد كل فصل من فصوله غير الرسمية، فمع الوقت تفقد مشاهد المعارك والهجوم تأثيرها المحوري ويصبح من المرهق مجاراة قصة لا تملك خطة حقيقية للتحرك للأمام، يتكون كيرة والجن مع امتداد فترة عرضه من مشاهد متناثرة تمكن صناعه من صياغة مشاهد قتالية مثيرة واستعراض المجهود الرقمي واليدوي في صياغة عالم ضخم ومبهر، وهو كذلك بالفعل، لكنه لا يملك ما يجعل تلك الضخامة محتوًى يصمد في اختبار الزمن، لأنه يتبنى رؤى قديمة وغير متسقة للتاريخ والشخصيات التي يتناولها.
«كيرة والجن» فيلم مصري كبير، ضخم في مقياسه وقيمة أبطاله وموضوعه التاريخي، يؤطر مواهب ومجهودات الكثيرين من العاملين عليه، خاصة في الجوانب الفنية والتقنية، لكنه لا يملك التكثيف أو التحديد الذي يجعله فيلمًا خالدًا في المشاعر التي يقدمها أو في التمثيلات التاريخية لشخصياته الحقيقية والمتخيلة، لكنه يبقى تجربة مشاهدة مثيرة على شاشات السينما، ومتعة مجردة للعين والأذن.