«ممالك النار» في مرآة ثلاثية وليد سيف الأندلسية
40 مليون دولار. هذا الرقم الضخم هو تكلفة 14 حلقة من مسلسل الدراما التاريخية «ممالك النار» الذي بثته للمشاهد العربي شبكة mbc في الأسابيع الماضية من شهري نوفمبر وديسمبر 2019.
أثارَ المسلسل الإماراتي حالةً استثنائية من الجدل المحموم، فهناك ملايين المعجبين الذين أبهرهم ضخامة الإنتاج، وجودة التصوير، والتي يمكن مقارنتها بالإنتاجات العالمية مثل مسلسل «لعبة العروش». امتدح هؤلاء أيضًا اختيار فترة احتدام الصراع العثماني المملوكي، وتسليط الأضواء من خلالها على مناقب آخر سلاطين المماليك الشراكسة – نسبة إلى مناطق شمال القوقاز – في مصر، الذي اعتبره مشاهدون كُثر بطلًا مصريًا يستحق الإشادة.
على الضفة الأخرى، هناك ملايين الغاضبين مما يرونه تزويرًا للتاريخ ارتكبه صناع العمل، واستهدافهم النيل من تاريخ الدولة العثمانية ولو بليّ عنق الأحداث التاريخية، أو اختراعها، وإظهار السلطان العثماني سليم الأول، فاتح مصر والشام – والذي يعتبر عصره فاتحة تحول تلك الدولة إلى إمبراطورية عالمية، وخلافة تضم غالبية الأقطار الإسلامية المركزية – بمثابة آلة من السادية والشر الخالص منذ نعومة أظفاره.
ولأنه لا يمكن لمتابع جيد للدراما التاريخية العربية في تلك الأجواء المحمومة حول التاريخ والدراما، ألا يتذكر أعمال الكاتب الأردني وليد سيف، التي مثلت ذروة سنام المسلسلات التاريخية السورية، خاصةً الثلاثية الأندلسية التي تركت بصمة كبيرةً في ملايين المشاهدين لم تمحُها السنون – رغم أنَّها لم تُكلِّف في إنتاجها مجتمعة المبلغ الضخم الذي رُصِد لممالك النار – فسنحاولُ من خلال ذاكرة تلك الأعمال، أن نستشرف كيف كان سيصبح شكل ممالك النار إن كان كاتبها هو وليد سيف.
لماذا وليد سيف؟
ترك الكاتب الأردني د. وليد سيف بصماتٍ لا تُنسى في الدراما التاريخية العربية، فالنص والجمل الحوارية التي خطّها في ثلاثيته الأندلسية السورية (صقر قريش – ربيع قرطبة – ملوك الطوائف) احتقنت بأصالة وإبداع يصعب الجمع السلس بينهما إلا لشخصٍ صاحب فكرٍ فريد، يقبض به بحزم على خيوط الماضي والحاضر والمستقبل.
مضى أكثر من 15 عامًا على ظهور آخر تلك المسلسلات – ملوك الطوائف – وما زال الآلاف من المشاهدين العرب، من محبي التاريخ، يشاهدون تلك الثلاثية مرارًا وتكرارًا كلما أُعيد عرضها على الشاشات، بشغفٍ كما المرة الأولى، ويتناقلون أروع المشاهد والحوارات البليغة والقوية التي اكتظّت بها حلقات تلك المسلسلات.
لعل أبرع ما تميز به السرد التاريخي في مسلسلات وليد سيف، هو تحقيقه معادلة شديدة الصعوبة بين ثراء الأحداث الواقعية، وخصوبة قريحة الكاتب وخياله. فقد التزم الكاتب في العموم بأوثق الروايات التاريخية كما وردت في المصادر العربية والأجنبية، وبالخطوط العامة لحياة وتفاعلات الشخصيات الكبرى التي تصوغ المسار الرئيس للأحداث.
في المقابل أفرد الأستاذُ وليد مساحةً كبيرة للدراما وللجوانب الإنسانية التي تمنح الأعمال روحَها، وتُعْطيه المساحة اللازمة للإسقاط التاريخي والسياسي والثقافي على الواقع المعاصر، بشكلٍ سلس، ودون تكلُّف أو تصنُّع.
لا بطل خارقاً في تواريخ وليد سيف
شاهدنا في مسلسل ممالك النار كيف عُرِض السلطان المملوكي طومان باي – جسّده الممثل خالد النبوي – بأسلوبِ كامل الأوصاف، فهو منذ نعومة أظفاره، قوي، جياش المشاعر، نبيل، رقيق مع الجنس الناعم، يعيد الحقوق لأصحابها، يحارب الشر – كل الشر – بلا هوادة، ينتصر على جواسيس الصفويين بمنتهى الدهاء ثم يواجه العثمانيين في الحرب بضراوةِ، وبسالةِ، أبطال الأساطير.
بطل مُطلَق الخيرية – يتجاوز حتى نور الشريف في مسلسل «حضرة المتهم أبي» – ثابت وراسخ، حتى ملامح وجهه لا تجد ما يدفعها للتغيير والتطور، بغيرِ تعقيدات، ودون امتحانات تجلو جوانب مغايرة في شخصيته، أو مواقف حادة تتضارب بشأنها الآراء فيه .. إلخ. مع أن في تاريخ الرجل متسعاً لكل هذا، فقد لعب على سبيل المثال دورًا كبيرًا في الصراعات الدموية العنيفة على الحكم، والتي دارت رحاها بين المماليك قبل عصر عمّه السلطان قنصوه الغوري، والذي كان طومان باي ذراعه اليمنى.
كذلك في خضم الحرب الشرسة بينه وبين العثمانيين، قتل رسل سليم الأول العثماني مرتين، المرة الأولى، بعد استيلاء الأخير على الشام، عندما أرسلهم للتفاوض معه على أن يدين بالولاء الاسمي للعثمانيين، مقابل تركه حاكمًا لمصر، والمرة الثانية، بعد استيلاء سليم الأول على القاهرة، وفي خضم حرب الاستنزاف التي استمرت أسابيع بعدها، للتفاوض على السلام. المقصود أن الشخصية وأفعالها كانت أكثر ثراء وتنوعًا من العرض الأحادي الذي شهدناه.
دعونا نقارن هذا بما كان في الثلاثية الأندلسية، فلنتذكر معًا بطل أحداث مسلسل ربيع قرطبة، الملك المنصور محمد بن أبي عامر، الذي جسّده الفنان السوري تيم الحسن. هو واحد من أقوى الملوك في تاريخ الأندلس، بل التاريخ الإسلامي ككل. في الكتابات التقليدية يعرضونه بطلًا كامل الأوصاف أيضًا، لكن عند وليد سيف، فالوضع مختلف.
رسم الكاتب بمنتهى الكثافة تطورات تلك الشخصية مذ كان طالبًا للعلم فى ريف جنوب الأندلس، ينضح بالمثالية، والآمال العريضة، والمبادئ المطلقة، حتى ابتلعته دوامة الحياة والطموح في قرطبة، عاصمة الأندلس، وواحدة من أغنى مدن العالم آنذاك، حيث بدأ يقترب من أهل السلطان، ويتعرض للاختبارات تلو الاختبارات، ثم يتاح له الفرصة في فترة اضطراب سياسي للوثوب التدريجي على عرش الأندلس، عبر صراعاتٍ كبرى امتزج فيها الدم والدموع.
عرض الكاتب هذه الشخصية المركبة بميزانٍ دقيق، أظهر مكارمَها، ومثالبَها، وتقلباتِها، وتناقضاتِها، وما فعلته الأيام والخطوب بها، من أول الأفكار، حتى منطق اللسان، وصولًا إلى نظرات العين وملامح الوجه (بالطبع يحسب للممثل والمخرج جزء كبير من هذا العرض المتميز). وفي خضم كل هذا، يعرض الكاتب على لسان الشخصية وغيرها، إسقاطاته المباشرة وغير المباشرة على الواقع السياسي والعسكري والثقافي والديني للأمة، بشكلٍ طبيعي، يخلو من التفلسف والتعسف، ومن السطحية، وكذلك من التسيير الفج.
ولم يكن نصيب باقي المسلسلات، والشخصيات، أقل من المنصور في ربيع قرطبة. شاهد مثلًا تطورات شخصية صقر قريش عبد الرحمن الداخل – جسّده السوري جمال سليمان – منذ كان أميرًا أمويًا صغيرًا هاربًا من العباسيين المتربصين، حتى استطاع النجاة إلى الأندلس، والسيطرة عليها، ليحولها إلى ملجأ آمن لبني قومه الفارين من بطش الثورة المنتصرة، وإمارة أمويةٍ مستقلة، ثم تتقلب به دوامات الحرب والسياسة، والصراع على العرش، حتى يفعل بخصومه مثلما فعل العباسيين بقومه، وصولًا إلى قتل بعض أهل بيته الذين حاولوا التآمر عليه.
ولدينا أيضًا شخصية المعتمد بن عباد – تيم الحسن – بطل مسلسل ملوك الطوائف، وكيف تحول من أمير مدلل يتنعم في القصور الوارفة، إلى حاكم أكبر دويلات الطوائف الأندلسية، ثم إلى بطل إسلامي لا يتورع أن يخاطر بعرشه ويستنجد بـ «المرابطون المغاربة» لنجدة الأندلس من الهجمة الصليبية الشرسة، ثم الانقلاب على المرابطين، ومحاولة الاستنجاد بالخصم الصليبي ضدهم، انتهاء بأسر المرابطين له ونفيه إلى أقاصي المغرب.
هذا الثراء في عرض الشخصيات، بجوانبها المركبة، هو روح الدراما التاريخية، وفنّها الفريد، وأحد أهم أعمدة المصداقية والتأثير. أما شخصيات الأبيض الناصع والأسود الحالك، فحتى أفلام الرسوميات المتحركة لم تعد تحب تقديمها.
لا مكان للشرّ الكارتوني: ألفونسو السادس نموذجًا
شاهدنا كيف جُسّدَتْ شخصية السلطان العثماني سليم الأول، بشكل يخلو تمامًا من أي تعقيد. نظرات عينه، وانفعالات وجهه، وحضوره على الشاشة، وأفعاله مذ كان طفلًا صغيرًا، كلها قُدّت من الشر الخام، مثل أشرار أفلام الكارتون. يكره إخوته وأباه، والمجتمع، والناس، والمماليك، وحتى نفسه، لا يبدو أنه يحب سوى طموحاتها المريضة، وأطماعها المتوحشة.
والقارئ عن شخصية سليم الأول، وأحداث عصره الملتهبة، من المراجع العثمانية المختلفة، والأوروبية، وحتى المملوكية – ككتاب ابن إياس وابن زنبل الرمّال – يجد أن تلك الشخصية وتاريخها كانا أكثر ثراءً وتعقُّدًا بكثير من الشكل الأحادي الذي اختزلها فيه المسلسل. فسليم الأول يعتبر المؤسس الثاني للإمبراطورية العثمانية، حيث نقلتها انتصاراته العسكرية ضد الصفويين والمماليك من دولة إقليمية قوية، إلى قوةٍ عالمية.
في كل المراحل المهمة من تاريخ الرجل، تتبايَن الآراء كثيرًا حول قراراته الصارمة. فمثلًا، حربه الشعواء ضد الصفويين، يراها الكثيرون أشبه بالجهاد المقدس ضد الشاه الصفوي الذي فرض المذهب الشيعي بالقوة والمذابح في إيران، بينما يرى آخرون في ثناياها مذابح ضد الإنسانية، عندما فتكت جيوشه بأرواح عشرات الآلاف من قبائل القزلباش التركمانية الشيعية في شرق الأناضول والتي كانت موالية للشاه الصفوي. في المواجهة مع المماليك، ظهر جليًّا التباين بين المشهد في الشام حيث احتفى معظم السكان بالعثمانيين، وفتحت بعض الحواضر أبوابها لهم بعد ما فتكت بحاميتها المملوكية، كما حدث في حلب، والمشهد في مصر، حيث مالت كفَّت التعاطف مع المماليك.
دعونا نقارن شرير ممالك النار الخالص، بشخصية ملك قشتالة الإسباني ألفونسو السادس، قاهر ملوك الطوائف سياسةً وحربًا، والذي انتزع طليطلة من الأندلس الإسلامية بعد 400 عامٍ من الفتح. في عرض وليد سيف لتلك الشخصية لا نرى نظراتِ الشر المبالغ فيها، والتنهدات التي تشبه الفحيح، إنما نرى كمشاهدين عربًا ومسلمين خصمَا لدودًا، وعدوَّا محاربًا، لكنه حقيقي، خالٍ من المبالغاتٍ الفجَّة، ويثير فينا مشاعر متناقضة، إذ لا نملك سوى احترام قوته، وسعيِه الدؤوب لعزة قومه وانتصارِهم، في مقابل الحنق على ملوك الطوائف المسلمين الذين فرَّقوا الأندلس وجعلوها لقمةً سائغة.
«مرابطون» وليد سيف و«عثمانيون» عبد الملك
اختزلت أطروحة الكاتب محمد سليمان عبد الملك في ممالك النار، تاريخ العثمانيين في كونهم أسرة دموية، يحكمها قانون لقتل الإخوة من أجل السلطان، سنّه أشهر سلاطينها محمد الفاتح، مولَعين بالسيطرة والوحشية. لا شكَّ أن 6 قرون من عمر الدولة العثمانية، كانت تحمل ما هو أكثر بكثير من تلك الاختزالية، حيث تقاطعت العديد من العناصر الدينية والسياسية والحربية والعِرقية والثقافية المتباينة والمتداخلة، لترسم تاريخ تلك الدولة التي رغم شراستها العسكرية في حروبها في المسارح البرية والبحرية بأوروبا وآٍسيا وشمال أفريقيا، فإنها قد حكمت فسيفساءً دينيًا وعرقيًا استثنائيًا في تنوعه الشديد، وانصهر في بوتقتها عناصر تركية وفارسية وعربية وبلقانية ويونانية وأرمينية وأمازيغية ومغولية وأوروبية.
في هذا السياق، نتذكر عرضَ وليد سيف لدعوة المرابطين ودولتهم في مسلسل ملوك الطوائف. رغم الميل الواضح للكاتب إلى الأندلسيين في مواجهة المرابطين عندما اصطرَعَتْ مصائرهم، فإن عرضه المرابطين بدأ شديد الموضوعية والتوازن.
صورَ وليد سيف كيف بدأت دعوة المرابطين كمعظم الدعوات الدينية نقية مثالية، ثم مع اختبارات الواقع وتقلباته وتناقضاته، بدأت الدعوة تتوارى شيئًا فشيئًا، بينما طغت الدولة، وأحكام السلطان، وتجلّى هذا في بعض التجاوزات التي تخللت استيلاءَهم على الأندلس، وفي فرط القسوة تجاه حكام الأندلس المغلوبين. لكن لم يندفع الطرح إلى الانتقاص من تاريخ المرابطين، وزعيمهم يوسف بن تاشفين، وجهدهم في توحيد كامل المغرب الإسلامي في دولة يسودها الاستقرار، ويغلب عليها العدل، وكذلك بأسهم الشديد في القتال دفاعًا عن الأندلس ضد الإسبان.