فيلم «Killers of the Flower Moon»: كي لا تتحول المأساة إلى حدث عادي
في الفترة التي تلت إخراجه لفيلم «Mean Streets» كان مارتن سكورسيزي يعمل على مشروع فيلم لم يكتمل آنذاك لكنه سيقوده لاكتشاف صادم. كان المشروع هو أفلمة كتاب دي براون المعنون «Bury My Heart at Wounded Knee» والذي يحكي تاريخ الأمريكيين الأصليين في الغرب الأمريكي في ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر، مع التركيز على الانتقال من طرق العيش التقليدية إلى العيش في المحميات والجرائم التي ارتكبت في حقهم خلال تلك الفترة. عنوان الكتاب مأخوذ من سطر في قصيدة ستيفن فنسنت بينيت «الأسماء الأمريكية». ذهب سكورسيزي المولع بسينما الغرب الأمريكي/ الويسترن منذ طفولته إلى محمية «باين ريج» جنوب داكوتا. وضعته هذه الزيارة في مواجهة لأول مرة مع المذابح والمعاناة الممتدة التي عاشها السكان الأصليون لكن بنيويورك وشوارعها القذرة وعصاباتها لم يستطع آنذاك ان يتفهم تماماً طبيعة هذه المعاناة أو كيف يتفاعل معها. شعر بها كحكاية لا تخصه على نحو ما وإن ظل أثر هذه الصدمة يتردد داخله متسائلاً كيف عانى الهنود الحمر مثل هذه المعاناة داخل ثقافتنا؟
قبل بدء تصوير فيلمه «الثور الهائج» كان سكورسيزي قد لامس قعر جحيمه الخاص، كان على وشك أن يفقد حياته إثر جرعة زائدة من الكوكايين وكان الفيلم مثل ميلاد جديد له. التقى وقتها بصديق شاعر من السكان الأصليين على دراية بمعاناته الخاصة. أخبره صديقه: لقد مت، والآن أنت حي من جديد. فكر بنا، نحن أيضاً متنا وولدنا من جديد. في كل مرة تحتاج لاستعادة قوتك فكر بنا.
في عام 2017 وقع في يديه كتاب ديفيد جران المعنون قتلة قمر الزهور، فتنه الكتاب من عنوانه بسمته الشاعرية حيث يتجاور القتل بعنفه وظلاميته إلى جانب كلمتي القمر والزهور ببراءتهما ورومانسيتهما، بدا العنوان مثل قصيدة هايكو مكتملة تعكس جوهر الحكاية.
يوصف شهر مايو عند شعب الأوساج، بوصف «قمر قتل الزهور» حيث أن تلك الزهور الصغيرة والجميلة التي تنتشر على التلال والحقول كابتسامات يوزعها الرب على هذه الأرض تموت نتيجة نمو نباتات أكبر حجمًا حولها مانعة عنها الضوء. هذا ما فعله البيض، لقد سرقوا الضوء، ضوء الحياة نفسها من هذه الكائنات الجميلة.
يستعرض كتاب جران القتل المنهجي والشرير لأعضاء قبيلة أوساج أوائل عشرينيات القرن العشرين في أوكلاهوما، على يد السكان المحليين البيض الذين سعوا إلى التهام أراضيهم التي ينام تحتها مخزون هائل من النفط. هذه المرة شعر سكورسيزي أن عليه أن يحكي هذه الحكاية.
تبدأ الحكاية بطرد السكان الأصليين من أرضهم الى أرض غريبة وأكثر فقراً يفتتح سكورسيزي فيلمه بمشهد صلاة طقوسي يبكي فيه الأوساج غربتهم وكيف أن أطفالهم لن يعيشوا مثلما عاشوا. ثم بمشهد أيقوني حيث ينفجر النفط من تحت أرضهم، نشاهدهم يرقصون في بهجة تحت مطر النفط بحركة كاميرا مبطأة، هذه هي المرة الأخيرة التي سنراهم فيها بمثل هذه الحرية والبهجة فمع النفظ سيظهر الذئاب في الصورة.
يعود أرنست / دي كابريو من الحرب إلى جناحي خاله ويليام هيل/ دي نيرو الملقب بملك تلال أوساج، يمنحه سكناً ووظيفة ويزرع في عقله فكرة أن الزواج بامرأة من الأوساج يضمن له ثورة مضمونة. يلتقي ارنست ومولي/ ليلي جولدستون ويقعان في الحب. يصير جناحا هيل جناحي الموت نفسه.
الحكي من الداخل
ما يمنح فيلم سكورسيزي الأحدث جانباً من أصالته ويجعله مختلفاً عن أي من الأفلام الأخرى التي تناولت معاناة السكان الأصليين هو انحيازه الواضح للضحايا عبر قلب المنظور التقليدي للسرد. أنه يبدأ مع الضحايا وينتهي معهم. يركز كتاب جران إلى حد كبير على ولادة مكتب التحقيقات – المعروف الآن باسم مكتب التحقيقات الفيدرالي – وعلى وجه التحديد على أحد أبرز عملائه، توم وايت (الذي يلعب دوره جيسي بليمونز). يتم سرد الحكاية عبر تفكيك لغز سلسلة الجرائم المرتكبة في حق قبيلة الأوساج عبر الكشف عن خطة واسعة النطاق من نزع الملكية وإبادة السكان الأصليين التي كانت ولاية أوكلاهوما بأكملها متواطئة فيها تقريباً.
يحرم سكورسيزي سرده من أي غموض نحن شهود على الجريمة منذ بدايتها كفكرة وحتى تنفيذها. تنفيذ الجرائم يأتي خاطفاً ودون مبالغة في إظهار عنفها، لكن الأكثر عنفاً من الجرائم نفسها هو ارتكابها دون مبالاة وكأنها ليست بالأمر الجلل وكأنها فعل الطبيعة وسنتها. يخبر هيل أرنست «لقد ولى زمانهم».
يرى سكورسيزي بعين إيمانه الكاثوليكي أن العالم هو عالم سقوط وخطيئة وأن الروح أرض صراع محتدم بين الخير والشر. يعود هنا للشر الأول أو الخطيئة الأولى، سفر تكوين البداية حيث الدماء التي جرت لتأسيس هذا العالم. الشر هنا يخلو من أية فتنة أو غموض، إنه هادئ ومظلم وعنيف وغير مبال.
يبتعد فيلم سكورسيزي عن إجراءات الشرطة وسردية المنقذ الأبيض، فعملاء مكتب التحقيق لا يظهرون في السرد إلا خلال الثلث الأخير من الفيلم. يركز السرد على الاستكشاف النفسي المكثف للعلاقات بين الأعراق عبر تيمات الحب والخيانة. يقلب سكورسيزي رفقة ايريك روث منظور الحكاية من الخارج إلى الداخل. يجعل من قصة الحب بين أرنست ومولي حكاية معيارية يتكشف من خلالها مدى الموت والشر اللذين لفا القبيلة.
مزيج أنواعي غير تقليدي
مثل كابوس ينضج على مهل يضبط سكورسيزي إيقاع فيلمه. الأمر أشبه بدوامة تسحبك ببطء للأسفل باتجاه قعر مهلك ومظلم. يستخدم سكورسيزي هنا كل خبرة مسيرته المدهشة في خلق سرد هادئ لكن شديد الدينامية، متنقلاً بين جونرات مختلفة كالويسترن والجريمة والتحقيق ودراما المحاكم وبين أدوات سردية مختلفة، إذ يستخدم هنا عدة فورمات ليحكي قصة الأوساج من نشرات الأخبار السائدة في هذا الزمن، لكتب الأطفال المصورة و الدراما الإذاعية.
هذا ويسترن بلا كاوبوي. إنه فيلم عن الضحايا والذئاب. إن كانت ثمة بطولة هنا فهي تكمن فى صمود الضحايا أمام الشر المحدق بهم. ينتمي الفيلم لما يسمى Revisionist Western وهي فئة فرعية من جونرا الويسترن تعيد النظر في الأساطير المؤسسة لسينما الغرب الأمريكي كثنائية المتحضر والمتوحش. يظهر الأوساج هنا في انسجام واضح مع الطبيعة إنهم أكثر روحانية وبراءة وتسامحاً بينما البيض لصوص، قطاع طرق وقتلة بدم بارد. «هل يمكنك العثور على الذئاب في هذه الصورة؟». نعم دون أدنى شك.
هذا فيلم أيضاً لايشبه سينما الجريمة والعصابة التي تشكل أغلب مسيرة سكورسيزي وإن كان يتوافق مع محاولة استكشاف الطبيعة الأنانية الخبيثة للبشر التي دأب سكورسيزي على استكشافها. يتعلق الأمر هنا بنوع مختلف من العنف، يتولد من الجشع والعنصرية والشعور بالاستحقاق. يقدم سكورسيزي تنويعاً على موتيفاته الأثيرة مثل البارانويا وتدمير الذات، الحب والخيانة مع استكشاف هادئ للدروب الملتوية للرغبة. رحلة متمهلة تأملية في قلب الظلام الذي يسكن روح الإنسان وروح أمريكا.
إيقاعات الحب والموت
في افتتاحية فيلم كازينو لسكورسيزي نستمع إلى صوت سام /روبرت دي نيرو : حين تحب شخصاً عليك أن تثق به ليس هناك من سبيل آخر. عليك أن تمنحه مفتاح كل ما هو لك وإلا فما الفائدة. بعد لحظات نشاهده يتجه نحو سيارته التي تنفجر ويطوحه انفجارها في الهواء قبل أن يسقط في جحيم النيران.
هذا هو نمط الحب في سينما سكورسيزي، حب مدمر. حب ينتهي بك مسمراً على الصليب بواسطة خيانة ممن تحب. في قتلة قمر الزهور تحمل علاقة الحب بين أرنست ومولي نفس طابع الحب المدمر، حكاية الحب والثقة وخيانة هذه الثقة. يستكشف سكورسيزي على مهل مجاهل هذه العلاقة. يستغل هيل ضعف وسذاجة أرنست في إشراكه في مخطط القضاء على عائلة مولي ثم لاحقاً تسميمها ببطء. الأمر لا يخلو من طمع أيضاً من جانب أرنست. لكن في أعماق أرنست كان يتشبث دائماً بأمل أن يتوقف كل ذلك أو ألا يصل الأمر إلى مولي. يبدأ في تسميمها ومع ذلك هناك ما يشبه الحلم داخله أنها ستكون بخير. في واحدة من الإشارات النفسية المهمة نجد أرنست يخلط السم الذي يمرره مع الأنسولين لمولي في الكحول الخاص به، وكأنه يحاول أن يقنع نفسه بعكس ما يفعل، إذا لم يقتلني السم لن يقتلها أيضاً.
من جانب مولي فهي ترتكب المخاطرة أيضاً إذ تثق به، فما فائدة الحب دون ثقة؟ إنها لا تتصور أنه يمكنه أن يفعل ذلك بها أو بعائلتها رغم شكوكها التي تملأ كيانها وأحلامها. في واحد من هلوسات مرضها ترى بومة تدخل باب غرفتها، و البومة في ثقافتها تعني الموت. ثم حين تستيقظ يدخل أرنست من الباب وفي يديه الدواء المسموم الذي تواصل تلقيه منه.
هذه التناقضات تحكم سلوك أبطال سكورسيزي دائماً من ترافيس بيكل وحتى أرنست بوركهارت. يقبل أرنست أن يمارس العنف ضد عائلة من يحب ثم ضدها.
قوسا البداية والنهاية
يواصل سكورسيزي هنا استخدام عدد من خياراته الأسلوبية المعتادة والتي تمثل جزءاً من بصمته الإخراجية مثل صوت الراوي، حركة الكاميرا المبطأة في لحظات درامية شديدة الأهمية و استخدام زاوية عين الإله. يرصد سكورسيزي وصول قطار أرنست إلى محطة فيرفاكس حيث تدور الأحداث ودخوله إلى مزرعة خاله من زاوية علوية باعتبار ذلك قوس بداية حكايته ثم ينهي فيلمه أيضاً بمشهد رقصة احتفالية لقبيلة الأوساج في الزمن الحاضر حيث تبدو الرقصة من أعلى كوردة تتفتح. إنهم يزهرون رغم كل ما جرى.
بين البداية والنهاية، يستخدم سكورسيزي الزاوية العلوية في تأطير رحيل الضحايا. إنه يجعلنا شهوداً على ما يجري من نقطة خارج السرد. إن العين الإلهية عند سكورسيزي ليست منتقمة، أو غاضبة بل مراقبة و حاضرة.
سينماتوجرافي رودريجو برياتو فاتن ومعبر. قائم بشكل أساسي على التجاور بين المساحات الواسعة في الكادرات الخارجية المضاءة بضوء طبيعي والمساحات الداخلية والظلال المناسبة للمخططات الظلامية التي تتم فيها. تنجح ثيلما شوميكر مونتيرة سكورسيزي الأثيرة في خلق إيقاع هادئ وتأملي ذي جوهر كابوسي. لا جديد يمكن إضافته كتعليق على أداء لدي نيرو. ليو هنا في أفضل حالاته لكن قلب الفيلم يكمن في السحر الدافئ الذي يشع من ليلي جلادستون.
يظهر سكورسيزي بنفسه في كاميو شديد التعبير في دراما إذاعية تحكي قصة الأوساج ليقرأ النعي الصحفي لمولي حيث لم يذكر أبداً جرائم القتل التي جرت في حق عائلتها.
في مشهد قرب النهاية يدور داخل زنزانة الاحتجاز بين هيل وأرنست، يخبره أرنست أنه سيشهد ضده في المحكمة. يحاول الملك أن يقنعه بالعكس، فيخبره أنه إذا كان ثمة شيء علمته إياه الحياة فهو أن شهادته لن تشكل فارقاً، وأن الناس ينسون ولا يكترثون وأن الزمن كفيل بتحويل ما جرى إلى مأساة يومية عادية. يخبره أرنست لكن ما حدث لم يكن عادياً!
ما يفعله سكورسيزي هنا، حين يصر على سرد هذه الحكاية وعلى هذا النحو هو مقاومة أن تتحول المأساة إلى أمر عادي، إنه يحصنها ضد النسيان عبر شريطه السينمائي الرائع.