أرض من هذه؟
-هذه أرضي.
أحد سكان أمريكا الأصليين لإرنسيت بركهارت

 أثار فيلم «قتلة قمر الزهور – killers of the flower moon» لـ «مارتن سكورسيزي» الجدل في الدول العربية في الأيام الماضية، ليس بسبب محتواه الدرامي أو السياسي، لكن بسبب دعم الشركة الموزعة له في دور العرض: «باراماونت – Paramount Pictures» للحكومة الإسرائيلية في خضم قيامها بعملية تطهير عرقي لسكان غزة وللشعب الفلسطيني، وهو من المثير للسخرية لأن الفيلم يسرد حكاية شعب عاش على أرض تم تطهيرها عرقياً منذ سنوات لكنه عازم على تطهير البقية، واستغلال أموالهم وثرواتهم.

يؤطر الموقف الذي أخذته شركة الإنتاج الطبيعة المزدوجة لصناعة الأفلام الكبيرة خاصة في أمريكا، فالمحتوى لا يتعلق بالمبادئ والمواقف الحقيقية، تسعى تلك الشركات للكسب ولهضم السرديات المعادية للاستعمار، والمعادية للفاشية طالما سوف تحقق ربحاً بغض النظر عن مواقفهم الحقيقية عن الشعوب الواقعة تحت الاستعمار، أو أي نوع آخر من أنواع الظلم.

أثار موقف باراماونت السخط كونه معلناً، لكن من المرجح أن بقية شركات الإنتاج والتوزيع الهوليوودية الضخمة تتبع نفس المنهج، فالدعم الهوليوودي للبروباجندا الصهيونية ليس موضوعاً جديداً ولا يتعلق بنظريات المؤامرة، جندت الدولة الناشئة إسرائيل بجهازها الإعلامي العديد من النجوم الهوليوديين في العصر الذهبي وبالطبع شركات الإنتاج، خفتت حدة وجرأة ووضوح تلك المحاولات في هوليوود المعاصرة، لكن لا يزال نجومها المتصدرون يدعمون مجازر حالية ونظام فصل عنصري قائم دون خجل أو معرفة حقيقية بتاريخ الصراع.

دعا الكثيرون عبر شبكات التواصل الاجتماعي -التي تعمل ليلاً نهاراً لإسكات المحتوى الداعم لفلسطين- لمقاطعة فيلم قتلة قمر الزهور، وهي دعوة منطقية بالطبع في ظل الفظائع المرتكبة حالياً، والتي ترتكب يومياً من دون تغطية إعلامية، لكن مشاهدة الفيلم تدعو للنظر في محتواه المثير للسخرية، وقلبه لسرديات بطولة الرجل الأبيض بينما يقوم الرجل الأبيض ذاته بتمويل عمليات الإبادة، إنها حالة ساطعة للممارسة الفعلية مقابل التصريحات الكلامية، ومثال للعمى الرأسمالي عن الحقائق بينما تحدث أمام الأعين كلها،

مشاهدة فيلم يؤطر الثنائية التي يروج لها المستعمرون باعتبارهم رمز التحضر مقابل الواقعين تحت الاستعمار الهمجيين المحتاجين للتمدن، تثبت ببساطة أنه لا شيئاً يتغير، وأن الذنب الأبيض الممثل في المحتوى المرئي هو أداة للاستعراض والتكفير عن ذنب قديم، من دون النظر للجرائم الحالية باعتبارها موازية تماماً لجرائم الماضي.

فيلم قتلة زهور القمر هو فيلم عن الجشع والدناءة البيضاء، يوزعه للعرض الجشع والدناءة البيضاء نفسها من دون وعي أو إدراك بغرابة الموقف.

هوليوود تدين نفسها

أمضى مارتن سكورسيزي مسيرته السينمائية في قص حكايات عن رجال عصابات أو ما يوازيهم، كل أفلامه هي أفلام عن الذكورة والقوة، وبشكل رئيسي الغدر، تُحكى الأفلام من وجهة نظر رجال ذوي نفوس خربة يبررون العنف لأنفسم ويشعرون ببطولة داخلية، رجال هم أبطال قصصهم والمشاهد يراهم كأبطال، كل هؤلاء  يعملون داخل نطاق أمريكي أبيض بهويات أمريكية، يفكك سكورسيزي بطولتهم لكنهم يملكون من الكاريزما والإقناع ما يجعلهم صالحين لكي يكونوا ضد أبطال وليسوا أشرار.

في فيلمه الأخير يتم تكثيف كل تلك السمات للوصول إلى جوهر الأزمة، أزمة الذكورة، الأزمة الأمريكية والأهم أزمة «البياض – Whitness».

يضع بطل فيلمه «إرنست بركهارت» (ليوناردو ديكابريو) النجم المحبوب في سياق مشابه لأبطال أفلامه من رجال العصابات، لكن تلك المرة في سياق جماليات الغرب الأمريكي، حيث رعاة البقر ومروضو الخيول الذين صنعوا بطولات أمريكية على مر التاريخ.

لا يمتلك بركهارت تلك الكاريزما المعتادة، بل يبدو كشخص خانع وغبي، يصدق في الامتيازات البيضاء التي تعطى له من دون مقابل، يتبع تعليمات خاله «ويليام هيل» (روبرت دي نيرو) بشكل أعمى، يعمل هيل كمثال واضح لأفكار «التفوق الأبيض – White Supermacy» يخفي نواياه أحياناً، لكنه يقولها بعلو صوته أحياناً أخرى.

يرى السكان الأصليين وشعب الأوساج المتبقي على الأراضي الأمريكية كهمج يحتاجون للأنسنة والتحضر. يرى أنه نقلهم إلى القرن العشرين بالمستشفيات والمدراس، وبالطبع الدين المسيحي والكنائس، هم مجرد «حيوانات بشرية» من دون الرجل الأبيض.. هل تبدو تلك اللغة مألوفة؟

ليوناردو ديكابريو وروبرت دي نيرو في killers of the flower moon

في خضم الأحداث الحالية في فلسطين، تعالت أصوات السياسيين الأوربيين والفنانين الهوليووديين بلغة إبادية عنصرية، ترجع أصولها لمئات السنين من الاستعمار والإمبريالية البيضاء ضد السكان الأصليين في الأراضي الأمريكية القديمة، أو الهندية سابقاً، ضد شعوب الأوساج التي يصورها فيلم سكورسيزي، ضد الشعوب الأفريقية التي اجتاحتها فرنسا، وبالطبع ضد العرب وبخاصة المسلمون في فلسطين من قبل الإسرائيليين المستوطنين والغرب الأبيض، بل وبعض من الملونين الذين يتبنون الرؤى الأوروبية البيضاء عن التحضر والهمجية.

يتحدث وزير الدفاع الإسرائيلي على الملأ واصفاً الفلسطينيين بـ «الحيوانات البشرية» التي يجب معاملتها على هذا الأساس، ويبكي المشاهير الغربيين ضحايا هجوم المقاومة الفلسطينية على الإسرائيليين المدنيين، بينما لا تجفل أجفانهم عند رؤية آلاف من القتلى من الأطفال والبالغين في غزة.

فبالنسبة لهم الأطفال الملونون ومواطنو الدول التي لا يستطيعون «أنسنتها»، ولا تلائم نظرتهم العامة عن التحضر هم «أنصاف بشر»، في منزلة أقل من الإنسانية وكأنهم من جنس مختلف لا يستحق التعاطف نفسه الذي يلاقيه طفل أوروبي أو ذو أصول بيضاء.

وفي الوقت الذي يتعامل به جهاز الإعلام الغربي كله بتكاتف لصناعة بروباجندا تحفز الإبادة والقتل الجماعي، تعلن الشركات الكبيرة -ومنها شركات الإنتاج السينمائي- عن دعمها معنوياً ومادياً لـ «دولة إسرائيل»، وكأنها بيد تمول الإبادة، وبيد أخرى تدينها على الشاشة في سياق آخر مضى عليه سنوات، فأصبح من الممكن ممارسة الذنب الأبيض تجاه سكان أمريكا الأصليين كونهم ليسوا ذوي قوة حالية أو رغبة في الثأر،  لكن من المستحيل ممارسته تجاه سكان فلسطين المنتهكين في الوقت الحالي.

رعاة البقر ضد الهنود

في قتلة قمر الزهور تنقلب معاني البطولة، وينكشف الإنسان الأبيض على حقيقته. مجرد كائن استعماري يسعى للكسب ولا يرى الآخر غير وسيلة لذلك، وإذا لم يقتله أو يبيده فإنه سوف يتسلل لثقافته يتبناها ويحتويها لكي يحصل على ما يريد، بينما في الحقيقة تنكشف رؤوس الأموال البيضاء أمام الشعوب التي يتم النظر إليها باعتبارها همجاً متعطشين للدماء، لكنه لا ينكشف أمام نفسه.

لا تنظر تلك الشركات إلى الماضي، ولا حتى لطبيعة المحتوى السينمائي الذي تموله، فتصبح الإنسانية شيئاً انتقائياً ووسيلة نفعية، غطاء غير صادق لصناعة تستخدم الظلم كمحتوى مرئي من دون تفكيكه في نسيج أنظمتهم الحقيقية.

يفكك فيلم «القتلة» جماليات كلاسيكية، بل ومصطلحات تستخدم في الألعاب الأمريكية حتى يومنا هذا، فهو يعمل داخل صيغة أفلام الغرب الأمريكي أي «رعاة البقر – cowboys» ضد «الهنود – indians».

تدور تلك السرديات عادة حول بطولات رعاة البقر الأمريكيين ضد الهنود البدائيين أنصاف البشر، وهي صيغة قديمة قدم نشأة أمريكا نفسها على أنقاض وأشلاء سكانها الأصليين، لكن تكشف الأحداث عمّن هم الهمج، ومن هم الضحايا، كما أنه يقلب فكرة الخارج عن القانون الجذاب صائد الجوائز، والذي يقتل من أجل المال في مناخ غرب أمريكا الحار في الحانات العتيقة وسط فتيات الليل.

تصبح كل سمة من السمات الأمريكية الكلاسيكية هي وسيلة لتأطير جماليات الاستعمار. يصبح كل ما هو جذاب منفر ومثير للاشمئزاز، لأن حقيقته هي نبذ وتهميش وقتل للآخر، الآخر صاحب الأرض.

ليلي جلادستون وليوناردو ديكابريو من killers of the flower moon

يعمل الفيلم، خصوصاً مع تبنيه وجهة نظر رجل أبيض محدود الذكاء والمروءة، ليقلب التصورات عمّن بين الفريقين هو البطل المتحضر. يظهر الأوساج كأناس هادئين جميلي المظهر، يملكون ثروة حديثة في بدايات القرن العشرين أطمعت البيض بهم، وهم قلة متبقية من عرقهم الذي مُحي منذ أزمنة.

يعتمد الفيلم جماليات الغرب الكلاسيكية كلها من دون أن ينجرف في تأليه البيض، يستخدم عدسات واسعة ومساحات شاسعة، فهو تجربة ضخمة بصرياً على الرغم من كونها قصة حميمة تنقسم إلى حكاية وقوع امرأة من الأوساج تدعى موللي (ليلي جلادستون) في حب سائق أبيض وهو ارنست.

يستغلها ارنست بتوجيه من خاله لكي يستحوذ على أملاكها وثروات عائلتها، فيقومون بتواطؤ من سكان المدينة من البيض بسلسلة دقيقة من القتل المتسلسل لعرق واحد، وبشكل متتابع وغادر يشارك به ارنست عن طريق تسميم امرأته بالبطيء، بجانب خداعها لتصديق أنها تتخيل أن هناك مؤامرة عليها.

في الفيلم يصبح السكان الأصليون القلة هم الضحايا المثاليون، فالبيض يدعون العيش معهم في سلام، كما أنهم يملكون رؤوس الأموال ولا يقاتلون، لكنهم لا يمتلكون الدعم المعنوي أو المادي الذي يجعل قصصهم قابلة للتصديق.

وعلى عكس الرواية التي اُقتبس الفيلم منها لـ «ديفد جران» 2017، والتي تجعل الحكاية وكأنها لغز عن إيجاد القاتل، فإن الفيلم يعمد إلى إظهار القاتل من اللحظة الأولى، فالحكاية ليست لغزاً، بل تأطيراً لاستحالة اتهام البيض بأي شيء، وحتى عندما تأتي الشرطة الفدرالية للتحقيق، فإن المجرمين يسجنون لأقل من نصف مدتهم، ثم يعودون لممارسة حياتهم الطبيعية.

ينتهي الفيلم بمشهد لا ينتمي لأجوائه الغربية المحتدمة، حيث يقص لغز القتل في برنامج عن الجرائم في الإذاعة بشكل مسرحي استعراضي.

هنا تصبح حكاية الأوساج المقتولين من قبل البيض هي حكاية أخرى للتسلية، تكشف عن عوار المجتمع الغربي المتحضر، عن تواريخ الاستعمار، عن دفن قضايا السكان الأصليين مع أجسادهم واعتبارهم موتى وليسوا قتلى مغدورين، عن رؤية البشر بلونين وعرقين ودينين، عن هؤلاء الذين يرون أنفسهم أكثر إنسانية والآخر نصف إنسان لا تهم الكثير إبادته من على الأرض، أو استغلاله لإثراء الذات، مثلما تفعل شركات الإنتاج الهوليوودية الضخمة تماماً، عندما توزع فيلماً يحكي شتى أنواع التكاتف الأبيض والتآمر ضد المظلوم، بينما تستخدم أموالها لدعم الجاني وشيطنة المجني عليه.