خُطفوا من الشوارع لبناء المساجد عنوة: سُخرة المصريين في عهد المماليك

إذا قادتك قدماك إلى شارع المعز لدين الله الفاطمي، أو منطقة الغورية، أو شارع الصليبة في حي الخليفة بالقاهرة، أو غيرها من الأماكن التي تزخر بالمنشآت المعمارية التي تعود إلى العصر المملوكي، فعليك قراءة الفاتحة على روح أناس فقدوا حياتهم أثناء عملهم بالسخرة في تشييد هذه العمائر.

فالمصادر التاريخية تشير إلى أن من السلاطين والأمراء المماليك من لم يجدوا حرجًا من تسخير العامة في أعمال بناء جوامعهم ومدارسهم وباقي منشآتهم المعمارية، ما ترك آثاره على مختلف جوانب حياة المصريين آنذاك، بعدما وقعوا فريسة للبطش والإذعان.

مسجد «لا بالله»

ذلك لا ينفي وجود السخرة في العصور السابقة على العصر المملوكي، فتذكر هدى حماد في دراستها «السخرة المملوكية في العمائر السلطانية (648- 923هـ / 1250 – 1517)»، أن ثمة إشارات تشير إلى وجود شيء من هذا النظام في العصرين الفاطمي (968 – 1171)، والأيوبي (1171- 1250).

ففي عام 1122م أراد ذخيرة الملك جعفر والي القاهرة ومحتسبها في عهد الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله، بناء مسجد بين منطقتي الباب الجديد والجبل، وغلب عليه اسم «مسجد لا بالله» بدلًا من اسمه الحقيقي «الذخيرة»، لأن رجال الوالي كانوا يقبضون على الناس من الطريق ويقيدونهم ويجبرونهم على العمل فيه بغير أجر، فيقول العامة «لا بالله»، ولم يعمل فيه منذ أنشأه إلا صانع مكره أو فاعل مقيد.

ومما شجع الوالي على اقتراف مثل هذا الفعل أن الخليفة آنذاك الآمر بأحكام الله (1101- 1129) كان فاسقًا ظالمًا ذا كبر وجبروت.

واستفزت ممارسات «ذخيرة» غضب وسخرية المصريين آنذاك، حتى إن أحد الشعراء المجهولين قدم نقدًا لاذعًا له وخلد أفعاله الشائنة وطرقه المعوجة لتشييد بيت من بيوت الله، فقال بيتين من الشعر معلقًا على بناء المسجد بالسخرية:

وفي عام 1183 أتم أسد الدين قراقوش، والذي كان يعتمد عليه صلاح الدين الأيوبي في كثير من الأمور، بناء القلعة واستخدم أسرى الحرب وعددًا كبيرًا من الفلاحين الذين سُخِّروا لهذا الغرض للحصول على أيدٍ عاملة دون أجر.

مستشفيات ومدارس بالسخرة

بحسب «حماد»، امتدت السخرة في العصر المملوكي إلى جميع المنشآت المعمارية وفيها البيمارستانات، والتي كان من المفترض تخصيصها لعلاج الفقراء، ففي سنة 1284، أمر السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفي الصالحي (1279- 1290) ببناء البيمارستان الكبير المنصوري في القاهرة، الكائن بشارع المعز لدين الله الفاطمي، فجمع العمال والصناع للعمل فيه إضافة إلى 300 أسير. وقد عاب الناس البيمارستان لكثرة العسف في عمله.

كما تم تسخير الأسرى في الأعمال المعمارية مثلما حدث سنة 1329، عندما قام الأمير قوصون الساقي الناصري باستخدام الأسرى في بناء جامعه الشهير بجامع قوصون.

ومن الأمثلة على تسخير الناس في أعمال السلطان ومشاريعه الخاصة ما حدث سنة 1337، عندما جلب السلطان الناصر محمد بن قلاوون من الصعيد ألفي رأس من الضأن، وجلب من الوجه البحري مثلها، وشرع في بناء حوش لها وللأبقار التي عنده، فوقع اختياره على موقع في قلعة الجبل مساحته 4 أفدنة، وأمر شاد العمائر أقبغا عبد الواحد بتسخير العامة، فوكل «أقبغا» أمرهم لأمير آخر يدعى عنبر السحرتي، وكان ظالمًا غشومًا بهم، فقام بتكليفهم بسرعة إنجاز أعمالهم من غير أن يجد لهم رخصة أو قوتًا للاستراحة، كما امتهن آدميتهم وأبسط حقوقهم الإنسانية، وبسبب صعوبة الجو وقتذاك حيث كان حارًّا فقد هلك الكثير منهم في العمل.

ورغم ذلك فإن الولاة لم تأخذهم بالعامة المُسخَّرين رأفة ولا رحمة، وأخذوا يسخِّرون من يظفرون بهم ويسوقونهم إلى العمل، وكان أحدهم إذا عجز وألقى بنفسه على الأرض رُمى عليه التراب فمات في وقته هذا، وكان ذلك يتم على مسمع ومرأى من السلطان الذي كان يحضر كل يوم ليرى العمل.

وفي نفس العام أيضًا كثُر تسخير الناس للعمل في عمائر السلطان بالقلعة والقبض عليهم كالمجرمين بمنطقة بين القصرين وهم نيام، ومن أبواب الجوامع عند خروجهم من صلاة الفجر، فابتُلي الناس من ذلك ببلاء عظيم، لأنهم أُجبروا على العمل رغم أنوفهم، وكأنهم عبيد سُخِّروا لخدمة السلطان فقط.

وعند حفر الخليج الكبير المعروف بخليج الخور سنة 1337، أمر السلطان محمد الناصر قلاوون والي القاهرة علاء الدين علي بن حسن المرواني بتسخير العامة للعمل، فقُبض على عدد كبير منهم من المساجد والشوارع والأسواق.

 ونظرًا لما كان يعانيه العامة من إرهاق ومذلة كان الكثير منهم يتسترون في منازلهم خوفًا من السخرة.

وسُخِّر الناس أيضًا عند بناء المدرسة الأقبغاوية، نسبة إلى الأمير علاء الدين أقبغا استادار (المشرف على بيوت السلطان) الملك الناصر محمد بن قلاوون، سنة 1337، وبُلي الناس في بنائها ببلايا كثيرة، منها أن أقبغا قرر على الصناع أن يعملوا بهذه المدرسة يومًا في الأسبوع بغير أجرة، فكانوا يتناوبون في العمل سُخرة، وكان «أقبغا» يقوم بنفسه بمباشرة العمل وضرب الصناع ضربًا مؤلمًا.

ولعل «أقبغا» أراد أن لا يدخل مالًا حلالًا في بناء مدرسته، فجاء كل شيء فيها عنوة وغصبًا، وهو ما حدا بالمقريزي في كتابه «السلوك لمعرفة أخبار الملوك» لأن يصفها بأنها «مدرسة مظلمة ليس عليها من بهجة المساجد ولا أنس بيوت العبادات شيء البتة»، ويعلل ذلك بالظلم والعسف الذي بُنيت به.

سُخرة المساجين

وفي دراستها «السجون في مصر في العصر المملوكي» تلفت هالة نواف يوسف الرافعي إلى استخدام المساجين في أعمال السخرة، حيث كان يتم إخراجهم مقيدين للعمل بالعمائر السلطانية، وعمائر الأمراء، وحفر القنوات، وتنظيف الطرقات، ويُجبرون على العمل الإلزامي.

ففي سنة 1317 بنى الناصر محمد بن قلاوون قصرًا للأمير بكتمر الساقي الذي كان يحظى لديه بمنزلة كبيرة، وكان عماله من المساجين المقيدين الذين أقاموا في عمارته عشرة أشهر. ولولا هذه العمالة المجانية لكلفت عمارته الكثير من الأموال.

فقدان الحياة في أعمال الجسور

يذكر الدكتور قاسم عبده قاسم في كتابه «النيل والمجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك» أن العمال الذين على عاتقهم مهمة إنجاز مشروعات الجسور والترع والقناطر كانوا غالبًا ما يُجمعون من القرى والشوارع والأسواق لتسخيرهم في هذه الأعمال، وكانوا عُرضة لكل ضروب الظلم والامتهان وما إلى ذلك من أشكال التسخير والإجاعة والإرهاق، فضلًا عن إنقاص أجور من يتقاضون أجرًا من العمال وإجبارهم على العمل فوق طاقتهم.

ودفعت كل هذه الممارسات التعسفية بعض كُتَّاب ذلك العصر إلى دعوة شاد العمائر (المشرف على أعمال البناء) إلى اللطف والرفق بالفعلة والعمال لأن استعمالهم فوق طاقتهم من أقبح الحرمات، وتجرؤ على الله تعالى.

وتجاوز الأمر الحد في تسخير الناس في هذه الأعمال لدرجة أخذهم من المساجد والجوامع، وكذلك من الأسواق وتقييدهم بالحبال وإرسالهم إلى مواقع العمل، ما جعل الناس يلزمون بيوتهم خوفًا من السخرة، خاصة أنهم يكونون عرضة لفقدان حياتهم.

ففي سنة 1316 انقطع أحد الجسور في الجيزة و«جُمع لسده خلق كثيرون، غرق منهم نحو ثلاثين إنسانًا انطبق عليهم الجسر»، وبعدها بوقت قصير قُبض على حوالي سبعين رجلًا غيرهم من شوارع القاهرة «وكُتِّفوا وأُنزلوا في المراكب لسد الجسر فانقلب بهم وغرقوا جميعًا».

ويبدو أن عمال السخرة كانوا يعملون لقاء قوتهم اليومي، فكثيرًا ما تذكر مؤلفات ذلك العصر أن «المُطعمات» عملن أثناء العمل في أحد الجسور أو الخلجان لإطعام العاملين، بل إن تقي الدين المقريزي في كتابه «السلوك لمعرفة أخبار الملوك» يقرر أن جملة ما أُنفق لإصلاح قناطر شبين سنة 1339 بلغ ثلاثين ألف دينار «غير أجرة سخرة البلاد»، وليس معروفًا على وجه اليقين هل المقصود هنا قيمة ما أُنفق على إطعامهم، أم غير ذلك.

وكان اشتراك الناس في هذه الأعمال إجباريًّا، فيخرج المماليك بأجنادهم وغلمانهم، ويخرج الإقطاعيون بفلاحي البلاد الجارية في إقطاعاتهم، ويُنادى في المدن بخروج العامة للعمل، وعادة ما كان النداء مصحوبًا ببعض التهديدات كما حدث زمن السلطان الملك المؤيد شيخ، ما جعل أسواق وشوارع القاهرة تخلو من روادها، خاصة أن التهديدات كانت تصل إلى الشنق حال فتح أي دكان، ولم تكن العامة تملك إزاء هذه المظالم سوى نظم الأشعار والأغنيات الساخرة.

ويذكر أحمد ماجد عبد الله في دراسته «أحوال العامة في مصر في عصر المماليك البرجية» أنه كثيرًا ما كان يتعرض العامة لأنواع الحوادث في أعمال السخرة التي قد تودي بحياة بعضهم بسبب خطورة العمل دون أن يكون لهم أي نوع من التأمين على حياتهم، أو التعويض عما أصابهم من جراء حوادث العمل، وهو ما يسمى بـ «الضمان الاجتماعي»، وكان الأمر لا يخرج عن إطار الصدقة والإحسان من السلطان أو الأمراء.

ففي سنة 1471 وقعت حادثة غريبة، وهي أن نجارًا كان يعمل بالقلعة في بعض الأدوار العليا، فسقط ومات لوقته، وكان له عيال وهو فقير، فوقفوا أمام السلطان الأشرف سيف الدين قايتباي يلتمسون شيئًا من الصدقة، فأمر لهم بمائة دينار وأمر للميت بثوب بعلبكي (كفن) وثلاثة أشخاص يجهزونه بها.

هجرة جماعية

ومثلما تنوعت صورة السخرة وأشكالها، تنوعت مواقف الذين وقعت على كاهلهم وطأة هذا الأمر من الفلاحين والعمال والحرفيين وغيرهم من عامة الشعب. ويذكر سعيد عبد الفتاح عاشور، في كتابه «المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك»، أن الغالبية العظمى من الفلاحين لم يكن أمامهم سوى العمل بالسخرة، بل دفع الأموال التي تُطلب منهم لإصلاح الجسور والترع وهم صاغرون، لذلك لم يكن عجبًا ألا يجد الفلاح ما يستر به عورته، وفي أفضل مأكوله لا يأكل إلا الشعير والجبن القريش والبصل. وقد أدرك المقريزي ريف مصر وأهله يشترون الكثير من حوائجهم ببيض الدجاج ونخال الدقيق.

غير أن «حماد» تلفت في دراستها إلى أن هناك من رفض السُّخرة بالشكوى والاستغاثة، كما حدث في عام 1337 عند تسخير الناس للعمل في عمائر السلطان الناصر محمد بن قلاوون، إذ استغاث العامة بالأمير الطنبغا المارديني ليخلصهم من العمل في حوش السلطان وما لاقوه من ضرب ومذلة ومهانة، وكان لتوسطه استجابة سريعة من السلطان الذي أمر على الفور بإعفاء الناس من السخرة في هذا الحوش، وأُفرج عمَّن قُبض عليهم منهم.

وبين هذا وذاك دفعت السُّخرة وما تبعها من إلزام الفلاحين بتقديم الهدايا وواجب الضيافة الإجباري للأمراء المشرفين على إصلاح الجسور والقنوات، وأخذ عُشر ما تبقى لهم من الغلال وغيرها من الضرائب. كل ذلك دفع الفلاحين إلى الهجرة من القرى إلى المدن، الأمر الذي ترك أثرًا سلبيًّا كبيرًا على الزراعة بسبب نقص الأيدي العاملة، ما دفع سلاطين المماليك إلى إجبار أهالي الريف على العودة إلى قراهم.

أغاني السخرة

لكن من ارتضوا العمل بالسخرة لم يقفوا يندبون حظهم العاثر، فابتدعوا وسائل لتخفيف وطأة الأمر، إذ كانوا يخرجون على هيئة طوائف مصطحبين معهم بعض أدوات الغناء مثل الدفوف والمزامير، كما شجَّع العمال أنفسهم على العمل في هذه الظروف الصعبة عن طريق الغناء بما يعرف بأغاني العمل، حسبما يذكر «عبد الله» في دراسته المذكورة.

 وروى «عبد الله» أن بعض العمال لم يستطيعوا جر عمودين ضخمين أثناء القيام بتشييد أحد الأبنية تحت القلعة، وعندما رددوا بعض الأغاني تمكنوا من جرهما، فأطلقت النساء الزغاريد ابتهاجًا بذلك، واشتهرت هذه الأغنية حتى تداولتها الألسنة لفترة طويلة بعد تلك الواقعة.

ويرى «عبد الله» أنه رغم كثرة السلبيات لظاهرة السخرة، فإنها خدمت بعض المصالح العامة، سواء باستخدام العامة دون أجر، أو بتشغيل بعض الفقراء مقابل دراهم قليلة، أو بالاستعانة بما يملكه الفلاحون من أبقار وأدوات بناء وزراعة، حيث حققت بعض الأهداف الشاملة لخدمة البلاد، مثل حماية الأرض الزراعية من فيضان ماء النيل، وزيادة كمية الإنتاج الزراعي، وتنوع المحاصيل الزراعية التي تخرجها الأرض سنويًّا، وإقامة الجسور والسدود، وتشييد الزرابي لحفظ الماشية.

سلاطين كرموا العمال وأغدقوا عليهم الأموال

المؤكد أن استخدام السخرة في تشييد العمائر والمشروعات لم ينطبق على جميع الأمراء والسلاطين، فالملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدراي عندما أمر ببناء مدرسته الظاهرية سنة 1261 طلب أن «لا يُستعمل فيها أحد بغير أجرة، ولا يُنقص من أجرته شيء»، حسبما ذكرت «حماد» في دراستها.

ولم يكتفِ «البندقدراي» بذلك، فعند الانتهاء من بناء المدرسة سنة 1263، جمع جميع العمال والصناع والحرفيين ومُدت لهم الأطعمة، ثم وُزعت عليهم الخلع.

وعندما أراد السلطان حسام الدين لاجين المنصوري تجديد الجامع الطولوني، وكل أمره إلى الأمير علم الدين سنجر الدواداري سنة 1296، وأكد عليه «أن لا يُسخَّر فيه فاعل ولا صانع، ولا يُشترى لعمارته شيء مما يحتاج إليه من سائر الأصناف إلا بالقيمة التامة، وأن يكون ما يُنفق على ذلك من ماله».

وكان بعض السلاطين ينعمون على العمال بعد انتهائهم من العمل المكلفين به بالخُلع والأموال، مثلما خلع السلطان قانصوه الغوري على العاملين في جامعه من مهندسين وبنائين ونجارين وغيرهم من أرباب الصنائع، وأعطى الفعلة كل واحد ألف درهم بعد انتهائهم من بنائه سنة 1503.