https://youtu.be/OzwU7dbmAyY

في كتابها المعنون «عن الموت والوفاة»، والذي صدر في نهاية الستينيات، طرحت الطبيبة النفسية السويسرية كوبلر روس، ولأول مرة ما عرف فيما بعد باسم «مراحل الحزن الخمسة»، الإنكار، الغضب، المساومة، الاكتئاب، القبول.

في الأثناء نفسها كان مقدم برامج الأطفال الأمريكي ذو الخلفية الكنسية فريد روجرز يخطو خطواته الأولى في برنامج أطفال معتمد على الدمى، استمر عرضه فيما بعد طوال ما يزيد عن الثلاثة العقود، قام خلالها مستر روجرز بتربية أجيال وأجيال من الأطفال.

ماذا لو مر مستر روجرز المبتسم والمثالي دائمًا بفقد عظيم وحزن لا يمكن احتماله؟ كيف يشعر هذا الرجل خارج الشاشة؟ متى يخلع هذا القناع الذي استولى على شخصيته الحقيقية أمام الجمهور؟ هل تصلح طيبة القلب كحل دائم في عالم عنيف وقاسٍ كعالم اليوم؟ وأخيرًا هل أصبح الأمل والحب والصداقة والأخوة وغيرها سلعًا قديمة منتهية الصلاحية لا مكان لها في عالم مادي ما بعد حداثي لا قيمة فيه للبشر؟

هذه الأسئلة هي ما جمعت اثنين من أطفال الستينيات المبدعين، هما المخرج والكاتب الفرنسي ميشيل جوندري والممثل الكندي الشهير جيم كاري في عمل تليفزيوني عن فكرة المخرج والمنتج الأمريكي ديف هولستين. ليقدما لنا رؤيتهما في مسلسل kidding عن شخصية مقدم برامج أطفال يسمى «مستر بيكلز» يمر بمراحل الحزن الخمسة بشكل متداخل، في رحلة نرى فيها طيف المشاعر البشرية على اتساعه، من أقصى لحظات الحزن لأنقى لحظات البهجة، ومن أكثر لحظات التسامح لأقسى لحظات الغضب والجنون.

شاهدنا الجزء الأول من kidding، والذي استمرت أحداثه طوال خمس ساعات مقسمة على عشر حلقات، مدة كل منها لا تتجاوز نصف الساعة، واليوم نقدم لكم مراجعتنا لعودة جيم كاري للتليفزيون بعد غياب دام عشرين عامًا، وتعاونه الجديد مع ميشيل جوندري عقب 14 عامًا من تحفتهما Eternal Sunshine Of The Spotless Minds الفائز بأوسكار أفضل سيناريو ونص أصلي في عام 2014.


عن الأطفال الكبار والكبار الصغار

في حين يبدو اسم المسلسل موجهًا للأطفال يبدو المحتوى للكبار وبشكل واضح للغاية، جيم كاري هنا يعود، ولكنه يعود بشروطه الخاصة، لا مزيد من الكوميديا من أجل الكوميديا، ولكن جرعة الضحك هنا تقدم كجزء من الصورة الكبيرة، صورة رجل مثالي على الشاشة دائم الابتسام والغناء، يتركه الجميع ليربي أطفالهم عن بعد، فيما هو غير قادر في الحقيقة على جمع شتات روحه عقب الموت المفاجئ لابنه.

يبدو التداخل بين الفن والواقع هنا واضحًا للغاية، خاصة ونحن نتابع جيم كاري الذي حصره الجميع في شخصيته الكوميدية على الشاشة فيما كان يعاني في الحقيقة من حزن عميق عقب انتحار حبيبته المفاجئ.

في kidding نشاهد حديثًا صريحًا للغاية بين جيف بيكلز ووالده ومدير الشركة المسئولة عن برنامجه التليفزيوني سيب – يقوم بدوره الممثل الكبير فرانك لانجيلا – يخاطب الوالد ابنه قائلًا: «أنت لست شخصًا حقيقيًّا، أنت رجل في صندوق. يرى الناس فيك ماركة موثوق فيها، لا يراك أحد كإنسان». ثم يشير إلى مأساة فقده لطفله بشكل قاسٍ للغاية قائلًا: «أنت تحتاج لالتئام جروحك، لكن مستر بيكلز بخير».

هنا لا تستولي البيرسونا التمثيلية وحسب على حياة جيف بيكلز فتمنعه من إظهار الحزن على وفاة ابنه، ولكنها أيضًا تتوحش لتصبح مؤسسة رأسمالية تتلاشى معها القيمة الإنسانية للرجل نفسه.

وفيما يبدو الأطفال الذين يخاطبهم جيف بيكلز مدركين لقيمة الحياة الحقيقية من علاقات ومشاعر إنسانية، كما يبدو مستر بيكلز، وخصوصًا بعد ما مر به من فقد، راغبًا في مخاطبتهم بأمانة وصدق. يبدو الكبار على الجانب الآخر مفتقدين كل المعاني الحقيقية للحياة، كما يبدو الكذب والخداع والحديث المليء بالإشارات والإيحاءات المتناقضة دائم الحضور في حواراتهم.

بمعنى آخر يبدو الصغار كبارًا والكبار صغارًا في أحداث kidding، وعلى قدر ما يؤدي هذا لمفارقات كوميدية ومواقف محرجة، يؤدي هذا أيضًا لخليط حلو ومر من المشاعر.


عالم سحري وواقع يوشك على الانهيار

موسيقى وألوان ودمى متكلمة، هذا هو عالم مستر بيكلز السحري الذي يقدمه لنا ميشيل جوندري الذي اشتهر بأجوائه البصرية السحرية وتلاعبه بالديكور ومواقع التصوير. نشاهد هنا أدوات موسيقية وأطعمة وخضروات ذات أعضاء بشرية، هؤلاء هم من يرافقون مستر بيكلز في عالمه السحري مع الأطفال.

على الجانب الآخر يمر جيف بيكلز بصراع نفسي يكاد يفتك بعقله في واقعه الذي يوشك على الانهيار، يشاركه في هذا العالم فريق تمثيلي من العيار الثقيل، حيث تقوم جودي جرير بدور جيل زوجة جيف بيكلز التي تتمرد على عالم زوجها المثالي عقب مقتل ابنهما، فتنفصل عنه وترتبط برجل آخر، وتقوم كاترين كينر بدور ديردي الأخت ومصممة العرائس المتكلمة في عالمه السحري، والتي يمر زواجها بمنعطف خطير أيضًا، يقوم المخضرم فرانك لانجيلا بدور الأب سيب، وقبل كل هؤلاء يقوم الطفل كولي ألن بتميز شديد بدوري التوأمين فيل وويل، يموت أحدهما في حادث سيارة ويعيش الآخر، لتمثل هذه الحادثة نقطة انقلاب واقع الأسرة وانكشاف ما فيه من زيف.

هذا الفريق التمثيلي المختار بعناية يزيد من نجاح دراما الشخصيات التي خلقها ديف هولستين، كل من هذه الشخصيات لها ماضٍ نعاينه وحاضر نتتبعه، لكل منها دوافع ولحظة كشف، وهكذا يصبح لوجودهم قيمة كبيرة في صورة واقع عصر ما بعد الحداثة، عصر ما بعد الأسرة.

الفارق بين هذا العالم السحري وبين الواقع الذي على وشك الانهيار عُبِّر عنه بصريًا بعبقرية شديدة في مشهد واحد خلال أحداث الحلقة الثالثة، حيث نتابع التحول المذهل الذي تمر به فتاة تسمى شانيا نتيجة مشاهدتها لحلقات مستر بيكلز، يستمر المشهد المصور في لقطة واحدة تمر من خلالها شانيا بتغييرات عديدة، ويمر من حولها منزلها بنفس التغيرات، يبدو المشهد وكأنه جمع وتلخيص لتحول تم على فترة زمنية طويلة، ولكنه في الحقيقة صُوِّر في أقل من دقيقتين من خلال عمل مذهل على مستوى التصوير وتصميم موقع التصوير والديكور.


دراما الأرواح المكسورة: خليط الشهد والدموع

لا يمكننا نكران أن جيم كاري هو القلب النابض لهذا العمل، تمامًا كما كان الحال في تعاونه السابق مع جوندري منذ 14 عامًا، حينها يذكر الجميع تصريح كاري بأن جوندري اختاره للقيام بدور جول باريش في فيلم Eternal sunshine لأنه رأى في عينه نظرة الفقد نفسها التي يمتلكها جول، كان كاري حينها قد انفصل للتو عن حبيبته السابقة، تمامًا كما كان جول يعاني من انفصال عن حبيبة قد مسحت ذكرياتهما المشتركة.

الآن تتكرر الحكاية ويعود جوندري ليصرح في لقاء مع موقع الجارديان خلال شهر نوفمبر 2018 بأنه اشترك في kidding لأنه أراد أن يخرج ما شعر به من اكتئاب وغضب داخل صديقه جيم كاري.

جيم كاري يفعل كل شيء في kidding، نرى لحظات الكوميديا التي ينتظرها الجميع منه، نتابع لحظات الشجن، وفي كل الأوقات لا يمكننا تجاهل نظراته عينيه التي تبدو كأنها ستفيض بالدموع في أقرب فرصة.

يشير الناقد دانيال سايوبا إلى رمزية التعبير عن الألم النفسي بلفظة breakdown، هذا التعبير الذي يحمل في طياته رمزية الكسر، وكأن التعبير عن النفس البشرية يصبح أقرب للفهم حينما نحوله لشيء ملموس، وهش، يمكن كسره.

يخشى الجميع طوال أحداث المسلسل من لحظة الانهيار العصبي التي ستحدث لجيف بيكلز، يخاطبه والده سيب حينما يشعر أنها على وشك الحدوث قائلًا إنه على حافة الجنون، يرد جيف قائلًا: « هذا ليس جنونًا، هكذا يبدو الصدق حينما تكون مقلوبًا رأسًا على عقب».

يشير سايوبا أيضًا لورقة المحلل النفسي البريطاني دي دبليو وينيكوت التي وصف فيها الانهيار العصبي قائلًا:

الخوف المرضي من الانهيار العصبي هو خوف من انهيار عصبي قد حدث بالفعل، إنه خوف من ألم حدث بالفعل، وقد كُتِمَ التعبير عنه.

هكذا يمكننا تتبع الألم الذي شعر به جيف وقد كُتِمَ حينما فقد ابنه، هذا الألم الذي ربما يعود أصله لطفولة جيف نفسه. هكذا يبدو تجسيد جيف بيكلز وكأنه تجسيد علاجي بالفعل لحزن جيم كاري الشخصي الذي يحظى بمساحة أخيرًا للظهور والاعتراف به.

هذا الأصل العميق لمشاعر الفقد والحزن لرجل ذي قلب مبهج، يترك في النهاية أثره على الشاشة، وهو أثر يمكننا وصفه بأنه bittersweet ، أو كما نعبر عنها بالعربية (خليط الشهد والدموع)، وهذا الخليط هو ما يمنح kidding قيمته ويجعلنا متحمسين للجزء الثاني من حكاية جيم كاري/ جيف بيكلز.