الخميني والشاه: كيف تسقط أقوى رجل في الشرق بشريط كاسيت؟
في عام 1920م، ارتكب مسلحون تابعون للشاه محمد رضا خطأً تاريخيًا، بعد ما قتلوا رجل الدين مصطفى الخميني خلال طريقه إلى مدينة آراك.
كان يُمكن لهذه الحادثة أن تمرَّ مرور الكرام، فما أكثر المظالم التي كانت تنال من الإيرانيين في العهد البهلوي، لولا أن ابن رجل الدين، والذي كان في شهره الخامس وقت وقوع الجريمة، أقسم فور بلوغه وتعرّفه على تفاصيلها أن يدفع مرتكبوها الثمن.
ولم يقصد الابن بهذه الفِعلة أن يقتصَّ فقط من قتلة أبيه، وإنما مِمَّن دعّمهم وحماهم وسمح لهم بالترعرع في جنبات بلاد فارس واستباحة دماء الناس.
وهو ما سيدفعه لاحقًا لدخول مواجهة نارية مع النظام البهلوي نفسه، صراع لم يمتلك فيه إلا حنجرته ليواجه أحد أقوى جيوش العالم، والمدهش أن الغلبة كانت للابن في النهاية؛ أزاح الشاه عن مقعده وجلس مكانه.
وهو الرجل الذي نعرفه اليوم بِاسم روح الله الخميني.
الفقيه مناضلاً
خلال نشأته في مدينة خمين، ترعرع روح الله على العلوم الدينية وكراهية الشاه، وهو ما ترافق مع انخراطه في أعمال عسكرية للدفاع عن قريته ضد اعتداءات الإقطاعيين الذين لم يتوقفوا عن نهب القرية بدعمٍ من الحكومة المركزية.
ولهذا حوت رأس الرجل خليطًا بين عِلم الفقيه وجسارة المحارب ونار المُناضل، وتلخّصت رسالته الدعوية التي حملها طيلة حياته في جُملة واحدة: «الموت للشاه.. ولكل شاه».
يقول فريد صقري، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت، في بحثه «ملك آيات الله: إيران والثورة الإسلامية»، إن عائلة الشاه التي استحوذت على حُكم إيران عان 1925م لم تتمكن من امتلاك جذور شرعية عميقة في التربة الإيرانية.
وهو ما جعل كثيرًا من الإيرانيين يعتبرون الأسرة البهلوية حدثًا طارئًا على الدولة الفارسية، حدث مفروض على الإرادة الشعبية بفضل حلفاء الشاه الغربيين وتحديدًا الولايات المتحدة، التي أعادت بهلوي إلى عرشه مجددًا عقب الإطاحة به خلال أزمة تأميم البترول عام 1953م.
وعلى الرغم من كافة المساعي التي بذلها محمد رضا بهلوي من أجل ترسيخ عرشه بجيش ضخم فاق الـ400 ألف مقاتل، وجهاز أمني رهيب كالسافاك لم يمتلك خطوطًا حُمرًا في سبيل الدفاع عن الشاه، فإن عرشه ظلَّ طوال الوقت مهتزًا.
في الوقت الذي أتاحت فيه مداخيل النفط للشاه لإقامة ثورة إنشائية في بلاده تمخّض عنها ارتفاع قياسي في مستويات المعيشة وتطور كبير في العملية التعليمية، إلا أن هذا لم يمنحه المزيد من دعم في عقول وقلوب شعبه، وإنما حدث العكس.
انتقلت معارضة الشاه من رجال الجامعات إلى رجال الدين، وهو ما كان نذير خطر كبير بسبب المكانة الهائلة التي يكنّها الإيرانيون لرجال الدين، والذين لم يُرحّبوا مُطلقًا بالإصلاحات العلمانية التي لا يتوقف الشاه عن تطبيقها، واعتبروا أن علمنة القوانين والمحاكم انتهاك للاحتكار التربوي الذي مارسه رجال الدين على الفُرس عبر الزمن.
في عام 1962م، أراد الشاه تعديل لائحة انتخابات المجالس المحلية، وكعادته سعى لإضفاء لمسة علمانية على بنودها القديمة، فتخلّى عن شروط أن يكون المرشح مسلمًا، وسمح للنائب الفائز بأداء يمين الواجب على أي كتاب سماوي يفضله، كما سمح للمرأة بالمشاركة في الانتخابات لأول مرة.
في هذا العام تحديدًا لمع الخميني كواحد من أبرز معارضي الشاه، بعد ما شنَّ حملة ضروس على هذه اللائحة واعتبر أنها «خارجة عن القرآن»، وتهين المرأة الإيرانية وتجرها «إلى ساحات الفساد والفحشاء»، وفي خطاب رسمي قال إن هذه المقترحات: «أعدت بأيدي جواسيس اليهود والصهاينة لتدمير استقلال البلاد وتحطيم اقتصادها».
انتهت هذه المعركة بِانتصار الخميني وإلغاء اللائحة، وكانت فرصة كبيرة لإثبات أن ذلك الفقيه العجوز المقيم في قُم قادر إلى هز عرش الشاه المُحاط بجنوده المدججين بالسلاح في قصره الفاره، وشهدت هذه السنة تحديدًا تبلور الصراع بين مُعسكر العلمانية الذي يقوده الشاه والتيار الديني المحافظ الذي تزّعمه الخميني بلا انتخابات.
بعد ما سعى الشاه لإرسال كارت إرهاب إلى الخميني ومن خلفه من رجال الدين، فأمر رجال أمنه بِاقتحام المدرسة الفيضية، وهي واحدة من أهم مؤسسات تعليم الفقه الشيعي في إيران، رفعت قوات الأمن شعارات مناهضة للخميني: «الخلود للملك»، وحاولوا إثارة الهرج والمرج فوقعت اشتباكات بينهم وبين الطلبة ترتب عليها سقوط العديد من الضحايا، وهي الواقعة التي أكدت أن الصراع بين الرجلين لا خطوط حمراء فيه، ولو حتى منشآت المقدسات الدينية.
الموت للشاه ولكل ما يفعله
في عام 1963م، أطلق الشاه ما سماه «الثورة البيضاء» (انقلاب سفيد)، والتي تضمنت القيام بتوزيع الأراضي على الفلاحين، وكالعادة شابت هذه الخطط الكبرى ثغرات فساد كثيرة مكّنت أسرة الشاه وحاشيته من الاستحواذ على نصيب الأسد من ثمار هذه الإصلاحات.
كما سعى الرجل إلى تحديث بلاده على النهج الأمريكي، ففتح أبواب طهران لاستقبال المئات من الخبراء العسكريين في كافة مؤسسات الدولة عمومًا، والجيش خصوصًا.
وهو ما دفع الأمريكيين لعقد اتفاقية غاية في الغرابة مع الشاه تقضي بفرض حصانة خاصة على كافة المستشارين الأمريكيين الذين يعيشون داخل إيران، وتمنع رجال الأمن الإيرانيين اعتقالهم مهما كانت الأسباب.
اجتهدت حكومة الشاه برئاسة حسن علي منصور في عدم وصول أي نبأ عن هذه الاتفاقية إلى الخميني تحديدًا، وهو ما كان في حُكم المستحيل بعد ما عُرضت على البرلمان لإقرارها بعد عامٍ من توقيعها.
وكالمتوقّع تمامًا، شمّر الخميني عن ساعديه وكال لمعارضيه خطبة من نار اعتبر فيها أن هذه الاتفاقية هي «وثيقة عبودية الشعب الإيراني»، وقال:
وتحدث في خطبة ثانية عن هذه الاتفاقية أيضًا، فقال: الشعب الإيراني أدنى من كلاب أمريكا، فإذا دهس أحد كلبًا أمريكيًا يحاسبونه،حتى الشاه إذا دهس كلبًا يحاسبونه، لكن إذا دهس أمريكي شاه إيران فلا يحق لأحد أن يعترضه.
لتكون العلاقة الوثيقة التي جمعت الشاه بأمريكا وبإسرائيل، كناية عن القمع الشديد لأجهزته الأمنية واحدة من الأسباب الرئيسية التي لم ينقطع الخميني عن الإشارة إليها في أحاديثه كمبررات رغبته العتيدة في الإطاحة بالشاه.
وكان آخر عهد الخميني بالخطابة في إيران هو يوم 3 يونيو (حزيران) عام 1963م، حين خطب بمناسبة عاشوراء في المدرسة الفيضية بمدينة قم، وكعادته فتح النار على الشاه، وقال:
أدى هذا الخطاب إلى اعتقال الإمام الخميني في 4 يونيو 1963م، وحالما سمعت الجماهير بالخبر، اندلعت مواجهات مع الأجهزة الأمنية، وفي اليوم التالي مباشرة لاعتقاله انطلقت مظاهرات في قم وطهران، سقط أثناءها عشرات القتلى ومئات الجرحى ومثلهم من المعتقلين، وظلت الأوضاع مضطربة حتى أُفرج عن الإمام بتاريخ 2 أغسطس 1963، ليوضع تحت الإقامة الجبرة في بيت تحاصره قوات الامن.
وفي النهاية، نفد صبر الشاه ورجاله على الخميني وأعيتهم كل الحيل عن إسكات صوته، فتقرر إزاحته عن التربة الإيرانية إلى الأبد.
وفي مساء 3 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1964م، حاصر المئات من قوات المغاوير والمظليين منزل روح الله في قم، هبطوا على الدار من السطح، واقتحموا غُرفها وانهالوا على الأشخاص الموجودين فيها بالضرب والإهانة، وأُخذ الخميني بسيارة انطلقت به نحو طهران إلى مطار مهر آباد، وفور وصوله أُودع في طائرة انطلقت به نحو تركيا.
بقي الخميني في تركيا لمدة عامٍ عاش فيها أوضاعًا سيئة بسبب آرائه المناهضة ضد حكومتها العلمانية، فحُرم من ارتداء زيه الديني، ووُضع تحت رقابة أمنية مشددة، وواجهت الحكومة التركية عددًا من الاحتجاجات لأنصار الخميني المقيمين فيها جعلتها تقرر ألا تكون «مكانًا لنفي أحد»، فأمرت الخميني بالرحيل.
ومنها انتقل إلى العراق في 5 أكتوبر تشرين الأول 1965م ليستقر في مدينة النجف الأشرف، المدينة المقدسة عند الشيعة، ومن هناك لم يتوقف عن إطلاق كرات النار من فمه.
الخميني في العراق
خلال هذه الفترة كانت العلاقة بين العراق وإيران في أوج تدهورها، ولم تنقطع المناوشات الحدودية بين الطرفين والتي كادت إحداها تتحوّل إلى حرب بين الطرفين لولا اتفاقية الجزائر 1975م.
وهو ما يفسر الحفاوة الكبيرة التي قُوبل بها معارض الشاه الأول حال وصوله بلاد الرافدين، ففي العراق، استُقبل الخميني استقبال الفاتحين، ورُفعت اليافطات الكبيرة في كربلاء كُتب عليها: «راية الإسلام ترفرف بيد آية الله الخميني»، فيما كُتب على أخرى «جماهير النجف المسلمة تُبدي سرورها بمقدم الإمام الخميني رمز التضحية والجهاد».
أقيمت الاحتفالات في المساجد والمدارس الدينية، وتكالب رجال الدين الشيعة على الاحتفاء به وزيارته في منزله، وخُصِّص له مجلس علمي.
سريعًا أصبحت حوزته الدينية من أهم إعلام النجف، حتى أن الطلبة الإيرانيين كانوا يهاجرون إلى العراق خصيصًا من أجل الاستماع إليه، وهو ما مكّنه من تشكيل كتلة حرجة من الشباب الديني المتحمس القادر على فتح قنوات اتصال بينه وبين الشعب الإيراني طيلة فترة الغياب.
وهو ما أزاح صفة المنفي عن الخميني، وبات متصلاً بقواعده الشعبية في إيران وكأنه يعيش فيها، فكان يُرسل تعليماته إلى إيران ويتلقى أخبارها يوميًا بفضل شبكة تلاميذه العريضة التي غطت كافة أنحاء التراب الإيراني.
ومن بيته في النجف لم يتوقف عن الهجوم على الشاه بشكلٍ شبه يومي في بيانات مكتوبة أو خطب منطوقة يتلقفها الإيرانيون بلهفة العطشان إلى قطرة ماء.
ومن فوق منبره في جامع الشيخ الأنصاري ألقى الرجل عشرات المحاضرات والتي كانت تسجل على أشرطة كاسيت، وتُرسل بصورة منتظمة إلى الخلايا الثورية في إيران، لتنسخ منها مئات الآلاف وتنشرها بين طوائف الشعب فيسمعونها استماع العرب لأم كلثوم في حفل الخميس الأول من كل شهر.
عقب وقوع نكسة 1967م، أصدر الخميني فتوى تحرم إقامة أي علاقة بين الدول الإسلامية وإسرائيل، وهنا كان يُعرِّض بالشاه الذي دشّن علاقة استراتيجية على أعلى مستوى مع تل أبيب، فردت قوات أمن الشاه بالهجوم على منزله ومصادرة كتبه ووثائقه، وإلقاء القبض على عددٍ من أتباعه أبرزهم ابنه أحمد الخميني.
حاول الشاه أن يقلب الطاولة على رجال الدين، فتفتّق ذهنه عن حل سحري وهو تبنّي ثقافة موازية تمامًا لها قدر كبير من الحنين عند الإيرانين، وهي الإمبراطورية الفارسية وأمجادها التليدة
وفي ذات عام النكسة، أقام الشاه سلسلة من الاحتفالات الباهظة بذكرى تتويجه وأخرى بسبب مرور 25 قرنًا على تأسيس كورش للإمبراطورية الفارسية.
أتت هذه الاحتفالات بنتائج عكسية، فبينما كان الإيرانيون يرزحون تحت خط الفقر، أنفق الشاه 140 مليون دولار لاستقبال 86 ملكًا ورئيسًا ومرافقيهم للاحتفال بالإمبراطورية.
وهو ما استغلّه الخميني أحسن استغلال، فنشر خطبة بعد إقامة هذا الحفل بيومٍ واحد، قال فيها:
وهي الجملة التي ترسخت في وجدان رجال الدين وطلبة الخميني، ولم يكفوا عن الاستدلال بها في أحاديثهم وتعليقها على لافتات مظاهراتهم.
وعندما حاول الشاه، عام 1975م، استبدال تاريخ البلاد من التاريخ الهجري إلى التاريخ الملكي لملوك الأسرة الأخمينية، حرّم الخميني هذه الخطوة، وهي الفتوى التي حظيت باستقبال جماهيري واسع دفع الشاه للتراجع مجددًا والعودة للتاريخ الهجري عام 1978م.
وفي الداخل الإيراني، سعى السافاك بكل قوته للسيطرة على المساجد فمنع أي رجل دين مؤيد للخميني من صعود المنابر، وعندما استغل صديق الخميني الصدوق آية الله سيد محمد رضا سعيدي هفوة أمنية خطب بها في أحد المساجد وألقى باللعنات فوق رأس الشاه، اعتُقل في نيسان 1970م، وتوفي في سجنه من كثرة ما تعرض له من تعذيب.
وفي لحظة تهوّر أمني اغتال أحد رجال السافاك مصطفى ابن الخميني وحلقة الوصل الرئيسية بينه وبين الداخل الإيراني.
فتحت هذه الخطوة أبواب الجحيم على الشاه ورجاله، وانتشرت مجالس عزاء لنجل الخميني في كافة أنحاء إيران وهو ما اعتُبر بمثابة استفتاء غير رسمي على مدى تدهور شعبية الشاه والتصاعد غير المسبوق لشعبية الخميني.
غضب الشاه من مواكب الإيرانيين التي تتالت على مجالس عزاء مصطفى الخميني، فأمر وزير إعلامه بكتابة مقالة مسيئة للخميني في مجلة «اطلاعات»، الموالية للشاه، وصفته فيه بأنه «عميل للرجعية».
وكالمعتاد أسهمت هذه التصرفات المتهورة في تأجيج الأوضاع أكثر فأكثر، انتشرت المسيرات الضخمة في الشوارع ودخلت في مصادمات أمنية تسببت في وقوع عشرات القتلى.
وخلال مراسم تشييع هؤلاء الضحايا وقعت اشتباكات مجددًا مع رجال الامن سقط فيها المزيد من الشهداء، وبدا أن إيران دخلت في دوامة عنف لا نهاية لها.
وفي 1973م، حاول الشاه أن يرأب الصدع الذي نشأ بينه وبين رجال الدين في مدينة قم، فأخطرهم أنه سيقوم بزيارة إليهم، وهو الخطوة التي أفسدها برفضه تأييدها وهو الدرب الذي سار فيه باقي رجال الدين ورفضوا استقبال الشاه في مدينتهم.
وحتى عندما حاول الشاه أن يُحدث حراكًا في الحياة السياسية الإيراني، فأسّس حزبه الأول وسماه «رستاخيز ملت»، أي «الحزب الشعبي الأول»، وهو الكيان الذي سخر منه الإيرانيون وسموه «رسواخيز»، أي منبع الفضيحة، وقف له الخميني مجددًا وحرّم على الإيرانيين الانتماء لحزب الشاه، واعتبر أن معارضة هذا الحزب «من أبرز مصادق النهي عن المنكر».
وعلى الرغم من الحشد الإعلامي المكثف لهذا الحزب، فإن الشاه أعلن عن هزيمته أمام الخميني بحل الحزب بعد سنوات معدودة على إنشائه.
وفي عام 1975م، حلّت ذكرى اقتحام رجال الأمن للمدرسة الفيضية، وهو الجرح الذي لم يندمل أبدًا في نفوس رجال الدين، هذه المرة كانت المظاهرات أكثر تجرأً على الشاه وحملت هتافات: «يعيش الخميني» و«الموت للسلالة البهلوية»، وحاصرت قوات الأمن المدرسة، وانهالوا على طلبتها بالضرب والشتم واعتقلوا كافة المحتجين واقتادوهم إلى السجون.
خلال أزمة «شط العرب» بين العراق وإيران، حاوت بغداد استخدام الخميني كورقة ضغط على طهران، لكن الخميني كان أذكى من الوقوع في أتون هذا الصراع، فأبلغ الرئيس العراقي، وقتها، أحمد حسن البكر، أنه لن يقوم بأي تنسيق سياسي مع الحكومة العراقية، وهو ما أثار امتعاض بغداد فقررت انتهاز الفرصة المناسبة لإبعاده إلى خارج البلاد.
وحتى بعد أن تحسنت العلاقات بين البلدين لم يأتِ هذا بالخير على الخميني، فبموجب اتفاقية الجزائر طلبت طهران من بغداد إسكات الخميني لأن نصوص الاتفاقية تنص على عدم تدخل كل بلدٍ في لشؤون الداخلية للأخرى.
وفي هذا الوقفت كانت بغداد بعين القلق إلى شعبية الخميني المتنامية في أرضها خوفًا من أن يدبر تحركًا ضدها يومًا ما، ويستولي على الحكم بمعاونة أنصاره الآخذين في التزايد، كما أن الصدر لم يغفر للخميني أنه رفض التعاون معه ضد الشاه.
لهذا ذهب سعدون شاكر مدير المخابرات العراقية إلى الخميني وخيّره بين التوقف عن الهجوم على الشاه أو الرحيل عن العراق، فرفض الخميني هذا الإنذار واختار الرحيل.
في 1978م قرر الخميني مغادرة العراق إلى الكويت، فامتنعت الكويت عن استقباله بسبب ضغوط إيرانية إنجليزية علها، فعاد إلى العراق مجددًا فوقف موكبه حائرًا على الحدود لا يدري إلى أين يذهب.
سمحت له بغداد بالبقاء ليومٍ واحد قرّر فيه السفر إلى باريس والتي كان الإيرانيون يدخلونها من دون تأشيرة، ووفّرت للخميني استقبالاً رسميًا شارك فيه الرئيس جيسكار ديستان بنفسه، وأفسحت وسائل الإعلام الفرنسية لروح الله مساحات شاسعة للهجوم على الشاه كيفما يريد، بعد ما تأكدت باريس من أن سقوط النظام البهولي بات مسألة وقت، فسعت لتوثيق علاقتها بحاكم طهران المرتقب.
ومع تأزم الأوضاع، حاول الشاه إجراء حوار سري مع الخميني، وسّط حسين ملك الأردن ورئيس حكومته السابق علي أميني، لكن الخميني رفض إجراء أي حوار.
طائرة ترحل وأخرى تأتي
ومع نهاية عام 1978، ظهر جليًا أن الصراع قد حُسم في الصراع بين الرجلين، وأن الشاه لن يكون له مكان في مستقبل إيران القريب.
انتشرت أعمال العنف في الشوارع، واحتلت فصائل المعارضة عددًا من الوزارات، وتم تدبير تفجير أمام السفارة الأمريكية.
وإزاء دخول افراد الجيش الإيراني في مصادمات يومية مع الشعب، رفض كثير من الجنود إطلاق النار على المتظاهرين، وهرب قرابة 500 جندي من وحداتهم وانضموا للمعارضة.
وحتى قوى المعارضة المدنية تخلّت عن مطالبها القديمة بإقامة «ملكية دستورية»، وانضمت لرفيقتها الدينية في سعيها لإسقاط النظام الشاهنشاهي من جذوره وإقامة «جمهورية إسلامية» بدلاً منها.
أقال الشاه حكومة الجنرال غلام رضا أزهري بسبب عجزه التام عن السيطرة على الأوضاع، فشل بعدها في إيجاد بديل له بعد ما اعتذر الأستاذ الجامعي غلام حسين صديقي، وعندما عُرضت الحكومة على السياسي المخضرم كريم سنجابي اشترط موافقة الخميني أولاً!
عجز الشاه تمامًا عن العثور على رئيس لوزرائه، وهي المهمة التي كان يتمنّاها عشرات الإيرانيين، فلم يجد بدًّا من الاستعانة بالدكتور شاهبور بختيار، عضو الجبهة الوطنية، التي يترأسها مهدي بازركان، والذي وصفه الشاه نفسه قبل هذه الواقعة بأشهر بأنه «خائن وأقذر من الشيوعيين».
أعلن الشاه أنه سيُفوض صلاحيات كاملة لشهبور في مهمته متمنيًا أن يُسوّي ما وصفه بـ«سوء التفاهم بين الشاه والشعب».
أعلن الرجل العديد من النوايا الإصلاحية، مثل: حل جهاز السافاك، وإطلاق حرية الصحافة، والسماح للأحزاب السياسية بممارسة نشاطها، وعلى الرغم من ذلك رفض الخميني دعمه قائلاً: «لن أؤيد بختيار، طالما أن الشاه هو الذي قام بتعيينه»، فرد عليه بختيار مهددًا أنه «سيضرب بيدٍ من حديد كل الذين يحاولون تجزئة البلاد».
وفي نفس اللحظة التي كان فيها بختيار يُقدِّم أعضاء حكومته للشاه محمد رضا في قصر نيارفان، كان عشرات الآلاف من المتظاهرين يطوفون شوارع طهران هاتفين: «الموت للشاه»، ونادى الإيرانيون بسقوط الحكومة التي لم تبدأ بعد.
في 16 يناير/كانون الثاني 1979م غادر الشاه محمد رضا بهلوي وزوجته إلى مدينة أسوان في مصر، وكتب قبل مغادرته طهران أنه يأمل أن تقوم حكومة بختيار بوضع المؤسسات المستقبلية الجديدة لإيران، وطلب من الجميع مساعدةً الحكومة الجديدة على إنجاز مهمتها، كان بختيار يظن أن مغادرة الشاه لإيران ستهدئ الأوضاع السياسية وهو ما لم يحدث.
يروي إحسان نراغي في كتابه «من بلاط الشاه إلى سجون الثورة»، إن الشاه قبل مغادرته إيران بيومين أجرى حوارًا صحفيًا قال فيه:
عمَّت مظاهر الفرح إيران بمغادرة الشاه، واستمرت يومين متتاليين، وانتشرت الإضرابات في المجلات التجارية والدوائري الرسمية، ومن باريس أعلن آية الله الخميني: «ليس هذا هو نصرنا الأخير، ولكنه مقدمة للنصر»، ودعا الجيش الإيراني لتحطيم سلاحه الأمريكي
تخوف بختيار من عودة الخميني فأغلق مطار مهر آباد، ونشر قوات الجيش في الشوارع، ووصف الخميني بأنه «صنيعة الإمبراطور محمد رضا بهلوي، ولولا الإمبراطور ما كان الخميني سيحظى أبدًا بهذه المكانة».
فرد عليه الخميني بالدعوة لمظاهرة تُندد بالحكومة الجديدة وفي اليوم التالي خرجت في الشوارع مظاهرة من نصف مليون شخص طالب فيها المتظاهرون بإقالة حكومة بختيار وحملوا لافتات مكتوب عليها «جمهورية إيران الإسلامية».
شعر بختيار بالقلق والضعف، فأعرب عن رغبته في لقاء الخميني وهو ما رفضه الأخير مؤكدًا أنه ليس لديه أي استعداد للتفاهم معه، وهو ما دفع بختيار للتمسك بمنصبه معلنًا أنه لن يسمح بـ«ديكتاتورية جديدة بعد ديكتاتورية الشاه»، وتحت ضغط المظاهرات المتلاحقة أعلن بختيار موافقته على عودة الخميني، وأمر بفتح المطار لآية الله
وفي 1 فبراير/شباط 1979م عاد الخميني بعد 15 عامًا من المنفى، وكان في انتظاره ملايين الإيرانيين، حملوه على الأعنقاف معلنين الإطاحة بالنظام البهلوي وإقامة الجمهورية الإسلامية الحُلم الذي طال انتظاره.
ونال الخميني ثأر أبيه بعد 77 عامًا من الانتظار.