الخميني والأقليات في إيران: عندما أكلت الثورة أبناءها
تتكون إيران من خمس قوميات أساسية، هي (الفرس، والأتراك، والأكراد، والعرب، والبلوش)، وعلى الرغم من تعمد الحكومات الإيرانية المتعاقبة عدم نشر أي إحصائية رسمية بخصوص نسبة وتعداد الأقليات، فإن التقديرات الأمريكية أشارت إلى أن نسبة الفرس تُقدَّر بـ(65%)، والأذربيجانيون الأتراك (16%)، والأكراد (7%)، واللور (6%)، والعرب (2%)، والبلوش (2%)، والتركمان (1%)، والمجموعات القبلية التركية مثل قشقاي (1%)، والمجموعات غير الفارسية وغير التركية مثل الأرمن والآشوريين والجورجيين (أقل من 1%). ووفقاً لتقديرات أخرى للحكومة الأمريكية، CIA World Fact book، فإن نسبة الفرس لا تتجاوز الـ51%، مقابل 49% للقوميات الأخرى.
الأقليات والأسرة البهلوية
تعتبر مشاركة القوميات الإيرانية في الأحداث السياسية الكبرى في إيران، مشاركة ذات فاعلية عالية، ليس فقط منذ قيام الدولة البهلوية، ولكن أيضاً من قبل صعود رضا بهلوي، حينما لعبوا دوراً مهماً في دفع الحركات المنادية بالثورة الدستورية، التي على إثرها قام رضا خان بانقلاب عسكري 1921، وصعد إلى قمة الحكم، ولكنه سرعان ما تنكّر للأقليات، وحرمها من حقوقها البسيطة التي لطالما نادت بها. وزاد نفور الأقليات منه عندما أقدم على إعلاء القومية الآرية على القوميات الأخرى، مُحاولاً صهرهم جميعاً في قومية دولته الفارسية العلمانية الجديدة.
وباعتلاء محمد رضا بهلوي عرش الحكم، اتضحت رغبته في مواصلة ما بدأه والده، فاستمر في طمس الهويات المختلفة في إيران، بما فيها الهوية الإسلامية، التي اعتبرها ذات مدلولات لصيقة بالقومية العربية أكثر من أي قومية وهوية أخرى، فاحتفل في عام 1971 بمرور 2500 عام، على تأسيس الإمبراطورية الفارسية المجوسية، الأمر الذي أغضب الأقليات من ناحية قومية، وأغضب رجال الدين من الناحية الدينية، حيث استنكروا محاولة الشاه انتزاع إيران من هويتها الإسلامية، التي تعتبر القاسم المشترك بين غالبية الشعب الإيراني، وهي الهوية الوحيدة القادرة على توحيدهم تحت راية واحدة، بحسب ما رأى أغلب المفكرين ورجال الدين في إيران وعلى رأسهم: علي شريعتي والخميني.
نضال الأقليات ضد الشاه
تضررت جميع الأقليات العرقية بلا استثناء من سياسات الأسرة البهلوية بنسب متفاوتة، وكنتيجة لهذا اندلعت عديد من الانتفاضات القومية، تعبيراً عن رفضهم سياسات الدمج القسري، ومحاولات بتر هويتهم وإذابتهم في الهوية الفارسية.
وبالتطرق لمحاولات الأكراد من أجل الإفلات من قبضة السلطة المركزية، تجد أنهم قاموا بعدة انتفاضات ومحاولات للانفصال عن الدولة الإيرانية، مثل انتفاضة سمكو، وانتفاضة جعفر السلطان، وقيام جمهورية مهاباد الكردية عام 1946.
وبالتطرق للآذر والأقليات التركية، تجد أنهم قد طمحوا إلى الحكم الذاتي، فكانت لهم محاولاتهم للفكاك من السلطة المركزية للشاه، حينما أُعلنت الجمهورية الديمقراطية الأذربيجانية، في منطقة أذربيجان الإيرانية شمال إيران عام 1945، بزعامة جعفر بيشوري.
أمّا البلوش فكان اضطهادهم من الأسرة البهلوية قومياً ومذهبياً على اعتبارهم سُنّة، وهم كبقية أقليات إيران رفضوا التماهي في القومية الفارسية، واعتزوا بقوميتهم المستقلة. ولكن تنامي التيار القومي البلوشي في باكستان وإيران وأفغانستان، الذي طمح إلى إقامة دولة «بلوشستان الكبرى»، استدعى قلق الشاه من البلوش في مطلع السبعينيات، الأمر الذي دفعه إلى التعاون مع باكستان لإخماد هذه النزعة البلوشية.
وبالنسبة للعرب، فكانت درجة اضطهادهم أعلى، فإضافة إلى البعد القومي، كان هناك البعد الاقتصادي للمنطقة التي يقطنها العرب (إقليم عربستان)، الذي يحوي غالبية مخزون إيران من النفط، فتم التضييق عليهم ثقافياً واقتصادياً، إضافة إلى تهجيرهم من الإقليم لإحلال العنصر الفارسي محل العنصر العربي فيه.
ونتيجة لسوء أحوال العرب قامت عدة انتفاضات ضد حكومة الشاه، منها: ثورة كعب الدبيس عام 1940، وثورة الشيخ عبد الله بن خزعل عام 1944، وثورة الشيخ مدخور الكعبي عام 1946، وثورة المحمرة عام 1979، كما تأسست جبهة تحرير عربستان عام 1956، والجبهة الشعبية لتحرير الأحواز عام 1968. وقد كان للعربستانيين دور بارز في الثورة التي أطاحت بالشاه محمد رضا بهلوي.
وبالنظر إلى وضع كافة الأقليات، تجد أن الشاه رضا بهلوي وابنه، لم يدّخرا أي جهد من أجل «فرسنة» الأقليات في إيران، وطمس هوياتها الثقافية المختلفة. وكنتيجة للاستفزازات التي ارتكبتها الأسرة البهلوية، إضافة إلى قبضتهم التعسفية من خلال الجيش والسافاك، شكّلت أقليات إيران العرقية واليسار الإيراني، مع رجال الدين، جبهة موحدة الهدف في نضالهم ضد الشاه.
خطاب الخميني ووضع الأقليات بعد الثورة
اعتمد الخميني -قبل نجاح الثورة- خطاباً مُشجعاً للأقليات العرقية، بخاصة في مسألة انتقاده اضطهاد الشاه للقوميات الإيرانية، وقد انعكس هذا على مسألة التفاف الأقليات وزعاماتها الدينية والسياسية حول الخميني، كمُناد بحقوق جميع الأقليات في إيران.
اتضح موقف الخميني الحقيقي من الأقليات العرقية ومطالبهم بعد نجاح الثورة، فقد اختلف الخطاب السياسي تجاههم، من خطاب مشجع على الحقوق والحريات، إلى خطاب أكثر حزماً، يتهم الأقليات برغبتها في تفتيت الدولة الإيرانية الناشئة.
ورغم اتفاق المنتصرين على «العدو»، فإنهم سرعان ما اختلفوا على «الغنيمة»، فبرز الصراع بين الفرس الشيعة من جهة، والقوميات الأخرى التي أيّدت الخميني قبل الثورة طمعاً في الحكم الذاتي من جهة أخرى، كما دخل الخميني في صراع مع كبار آيات الله (رجال الدين) بسبب حقوق الأقليات في الدستور، والخلاف على مبدأ «ولاية الفقيه».
وبدا أن الثورات -فعلياً- أكلت أبناءها، حيث وصف «موسى الموسوي» في كتابه «الثورة البائسة»، حال الأقليات العرقية بعد نجاح الثورة الإسلامية قائلاً:
لذلك، يمكن القول إن الخميني نجح في توظيف وتوجيه الأقليات قبيل الثورة لخدمة مصالحه، وما إن اعتلى قمة الحكم حتى تنصل لجميع رغباتهم، وكان أكبر دليل هو الدستور والصراع حوله، لتبدأ بهذا مرحلة جديدة من المعاناة والنضال ضد نظام جديد لم يختلف في سياساته تجاههم عن سياسة الأسرة البهلوية المستبدة.
ولم يكن الخميني فقط هو منْ لعب على وتر حقوق الأقليات ليحظى بما خطّط له، ولكن حتى الآن يستخدم المرشحون في الانتخابات هذه الورقة في خطاب سياسي صوري، ليجنوا أكبر عدد من المؤيدين، لا سيما وأن بعض التقديرات تشير إلى أن نسبة الأقليات الحقيقية تقارب الـ50% من مجموع سكان إيران.