وقفيات الخديوي إسماعيل لزوجاته وأولاده وخُدَّامه
انتهى الخديوي إسماعيل من إنشاء وقفياته الخيرية على المساجد والمدارس والفقراء، في سنوات حكمه الأولى لمصر؛ وفي السنوات الأخيرة من حياته، قام بإنشاء وقفيات أهلية وجعل بها حصصًا خيرية، وخصصها للإنفاق على زوجاته الثلاث وعلى أبنائه وذريتهم، وعلى أفراد من حاشيته وخدمه ومعتوقاته. وكان آنذاك مقيمًا في منفاه الاختياري بقصر «بيركون» الرائع المطل على البوسفور في إسطنبول، وهناك وافته المنية في 6 رمضان 1312هـ/ 2 مارس 1895م، ووقتها كان قد بلغ من العمر 65 عامًا. وفي وثائقه الوقفية على أهله وذريته قرأنا أعظم عبارة عبَّرت عن جوهر الوقف الإسلامي على مر التاريخ لنفاذها إلى صميم فكرة الصدقة الجارية، وقد جاءت هذه العبارة (سنذكرها هنا) على لسان الخديوي إسماعيل شخصيًا.
كانت وقفيته الأهلية الأولى عبارة عن مساحتين من الأراضي الزراعية بمديرية الشرقية جملتهما 17 قيراطًا، و1803 أفدنة، بما على تلك الأراضي من الأشجار والمباني والآلات الزراعية والمواشي. ووثائق حجة هذه الوقفية محفوظة في ملف التولية رقم 7620 بوزارة الأوقاف. وكان ابنه البرنس حسين كامل، هو وكيله في إنشائها، وقد جعل ريعها لأولاد شقيقه المتوفى البرنس حسن باشا بن الخديوي إسماعيل، وكانوا ثمانية هم: عزيز، وعز الدين، وإبراهيم، ومحمد علي، وعزيزة هانم، وعفت هانم، وبهيجة هانم، ورنا هانم، وجميعهم كانوا قُصَّرًا (لم يبلغوا سن الرشد وقت تاريخ إنشاء هذه الوقفية)، وجعل للذكر مثل حظ الأنثيين طبقًا للفريضة الشرعية، ثم جعل نصيب كل منهم لأولاده كذلك، ثم لأولاد أولاده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. فإذا انقرضوا جميعًا كان ذلك الريع مصروفًا في: «مصارف بيت مال المسلمين بمصر المعبر عنه بـ (جهة الميري) على الدوام».
وكان من شروط الخديوي إسماعيل في تلك الوقفية يلتزم الناظرُ بأداء الضرائب والرسوم الأميرية، فيبدأ من ريعها بإصلاح أعيانها وصيانتها، وأن يدفعَ ما عليها من العشور والخراج لجهة الميري، وأن يكون النظر عليها له مدة حياته، ثم من بعده يكون للأرشد فالأرشد من الموقوف عليهم، إلى حين انقراضهم، فيكون لمن يكون خديويًا على مصر حينذاك، ثم لم يلي وظيفته، وهلم جرا.
وقد جرت على هذه الوقفية تصرفات كثيرة كان منها: تنصيب الأميرة عزيزة هانم ابنة حسن باشا بن الخديوي إسماعيل ناظرة على وقف جدها الخديوي، وتنصيب الأمير محمد عمر باشا طوسون مشرفاً عليها بموجب تقرير من محكمة الإسكندرية الشرعية بتاريخ 15 جماد الآخرة 1329هـ/12 يونيه 1911م. ومن تلك التصرفات أيضًا تقرير صدر من محكمة الإسكندرية الشرعية بتاريخ 2 ربيع الثاني 1335هـ/25 يناير 1917م باستبدال لجهة الوقفية بمساحة 12 سهمًا، و21 قيراطًا من فدان فقط، بمبلغ 127.83 جنيهًا قيمة بدل 20 سهمًا، و10 قراريط، وفدان واحد، أُخذت من أطيان الوقف للمنافع العمومية. وفي 7 ربيع الثاني 1343هــ/4 نوفمبر 1924م، صدر قرار محكمة الزقازيق الشرعية بإقامة الملك فؤاد ناظراً على هذه الوقفية.
أما الوقفية الثانية، فصدرت من محكمة الباب العالي بمصر المحروسة بتاريخ 23 ذي القعدة 1305هــ/ 31 يوليو 1888م، وهي عبارة عن أطيان أبعادية عشورية مساحتها 20 سهماً، و9 قراريط، و9557 فدانًا بعدة نواحٍ بمديرية البحيرة، وقد وقفها نيابة عنه: البرنس حسين كامل، بموجب توكيل صادر من محكمة «غلطه» بإسطنبول بتاريخ 2 رمضان 1305هــ من والده الخديوي إسماعيل ومن حليلاته الثلاث (زوجاته) وهن: «دولتلو عصمتلو الست شهرت فزا هانم أفندي برنجي» و«دولتلو عصمتلو الست جانينار هانم أفندي، إكنجي»، و«دولتلو عصمتلو الست جشم آفت هانم أفندي، أوجنجي»، وثلاثتهن كن عتيقات الخديوي إسماعيل، وكان –آنذاك- مقيمًا هو وعائلته في منفاه الاختياري بإسطنبول.
ومما ورد في تمهيد حجة هذه الوقفية أن الموكلين الأربعة (الخديوي وزوجاته الثلاث)، «اختاروا أن يقدموا بين أيديهم صدقة مندوباً إليها، محثوثاً من قبل الشارع عليها، ومن أفضلها الوقف الذي عظم في القلوب وقعه، ودام على ممر الليالي والأيام نفعه. وقد انتشر في الخبر، عن سيد البشر، أن ثواب الصدقة لا ينقطع، وصاحبها بها أبداً ينتفع؛ فرغبوا في فعل الخيرات… وطلبوا كتابة هذا الوقف وتحريره، وتعيين شروطه وتقريره…».
واشترط الواقفون الأربعة أن يكون القدر الأكبر من ريع هذه الوقفية مصروفًا على أنفسهم: أبدًا ما عاشوا، ودائمًا ما بقوا من غير مشارك لهم في ذلك، ولا منازع، ولا رافع لأيديهم عن ذلك ولا مدافع، مدة حياتهم بالسوية بينهم، ثم من بعد كلٍ منهم تكون حصتُه بحق الربع ستة قراريط للباقي منهم بالسوية بينهم يتداولون ذلك بينهم إلى حين وفاتهم جميعاً، فيكون ذلك وقفًا على ما يبين فيه: فالحصة التي قدرها عشرون قيراطًا (من أربعة وعشرين قيراطًا ترمز لجملة أراضي الوقف)، تكون لأولاد الخديوي إسماعيل: الذين سيُعين أسماءَهم بالوصية التي ستصدر منه، ويشهد على نفسه بها ويتحرر بها سند شرعي من أي محكمة من المحاكم الشرعية، ويكون نصيب كل منهم حسبما يعينه بالوصية المذكورة، ثم من بعد كل منهم يكون نصيبه لأولاده ذكورًا وإناثًا للذكر مثل حظ الأنثيين، ثم لأولاد أولاده كذلك، ثم لذريتهم كذلك، ثم لنسلهم وعقبهم طبقة بعد طبقة وجيلاً بعد جيل، الطبقة العليا منهم تحجب الطقبة السفلى من نفسها دون غيرها، بحيث يحجب كلُّ أصلٍ فرعه دون فرع غيره، ويستقل به الواحد إذا انفرد، ويشترك فيه الاثنان فما فوقهما عند الاجتماع، على أن من مات منهم وترك ولدًا أو ولد ولد، أو أسفل منذ ذلك انتقل نصيبه من ذلك لولده، أو ولد ولده وإن سفل، فإن لم يكن له ولد ولا ولد ولد ولا أسفل من ذلك؛ انتقل نصيبه لأخوته وأخواته المشاركين له في الدرجة والاستحقاق، ومضافاً لما يستحقونه من ذلك، فإن لم يكن له أخوة ولا أخوات، فلأقرب الطبقات للمتوفى من أهل هذا الوقف الموقوف عليهم.
على أن من مات من أولاد إسماعيل باشا الموقوف عليهم المذكورين قبل دخوله في هذا الوقف واستحقاقه لشيء منه، وترك ولدًا أو ولد ولد أو أسفل منذ لك، قام ولده أو ولد ولده وإن سفل مقامه في الدرجة والاستحقاق، واستحق ما كان أصله يستحقه كما لو كان حيًا باقيًا… يتداولون ذلك بينهم كذلك إلى حين انقراضهم أجمعين، فأربعة أخماس الحصة المذكورة وقدره 16 قيراطًا يحفظه من يكون ناظرًا على هذا الوقف تحت يده مدة سنتين كاملتين، ويشتري به من أرض مصر المحروسة، ويبني عليها منه مدرستين مجاورتين لبعضهما، ودارين. إحدى المدرستين تكون معدة لمأوى وتربية الأطفال الذكور الأيتام المحتاجين من أولاد المسلمين لتعليمهم القراءة والكتابة والعلوم الدينية، والثانية تكون مأوى للبنات اليتيمات المحتاجات من أولاد المسلمين وتربيتهن وتعليمهن بها القراءة والصنائع التي تليق بهن، وإحدى الدارين المذكورتين تكون معدة لمأوى الرجال المسنين والمرضى المحتاجين الفقراء، الذين من ذوي البيوت وعاجزين عن التكسب، ولا يسألون الناس بالطرق، والثانية تكون معدة لمأوى النساء الأيامى والمريضات العاجزات عن التكسب اللائي من ذوي البيوت، وليس لهن أحد يقوم بمعاشهن، ولا تسألن أحدًا من الناس بالطرق.
وتكون أبنية المدرستين والدارين المذكورتين جديدة جدًا، وخالية عن الزخرفة، ويشترى أيضًا ما يلزم للدارين والمدرستين من المفروشات وأدوات التعليم بحسب ما يليق، وبعد تمام ذلك يصرف ريع الستة عشر قيراطًا في مأكل ومشرب وكسوة المتعلمين بالمدرستين والمذكورتين والمقيمين بالدارين… على الدوام… وريع الخُمس الخَامس من الحصة المذكورة وقدره أربعة قراريط؛ يحفظه الناظر مدة ثلاث سنوات، ويحفظه على الدوام على سبيل الاحتياط ليصرف منه ما يلزم للأطيان المذكورة من المواشي والمهمات والآلات وأدوات الزراعة وما يحتاج الحال إليه إذا لا سمح الله حصل لزراعة الأطيان آفة سماوية مثل: شرق أو غرق أو هلكت المواشي وغير ذلك. وكلما صرف من ذلك يحفظ غيره من ريع الخمس المذكور، وما زاد بعد ذلك يشتري به عقارًا أو أطيانًا ويوقفها ويلحقها لوقف الستة عشر قيراطًا المذكورة، ويصرف ريعها في مصالح ومهمات المدرستين والدارين المذكورتين، وما يوجب اتساع إدراتهما وحسن نظامهما على الدوام والاستمرار… إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
ومن الشروط التي وضعها الخديوي إسماعيل في هذه الوقفية أيضًا، أن يكون النَّظر عليها لنفسه مدة حياته، ثم من بعده يكون لزوجته شهرت فزا هانم، ثم من بعدها يكون لزوجته جنانيار هانم، ثم من بعدها لزوجته جشم آفت هانم، وأن يكون للناظر على هذه الوقفية ريع قيراطين من جملة ريع أربعة وعشرين قيراطًا هي إجمالي أراضي الوقفية البالغة 9557 فدانًا وكسور من فدان.
وكان للخيرات نصيبٌ في ريع هذه الوقفية، وهو أن: «يُصرف على سبيل الصدقة في كل سنة من سنين الأهلة مبلغ قدره اثني عشر ألف قرش وخمسمائة قرش صاغ ديواني، أو ما يقوم مقام ذلك من النقود، على: رجل من حملة كتاب الله تعالى المبين، يقرأ بمنزل من يكون ناظرًا على هذا الوقف في كل شهر ختمة قرآن عظيم الشان، حسابًا عن كل يوم جزء قرآن واحد على الدوام والاستمرار، مبلغٌ قدره ألفا قرش وأربعمائة قرش صاغ، حسابًا عن كل شهر مائتي قرش. وما يُصرف لأربعة أنفار قراء من حملة كتاب الله المبين يقرؤون بمنزل من يكون ناظرًا على هذا الوقف في ليالي شهر رمضان عشر ختمات شريفات، حسابًا عن كل ليلة ثلث ختمة، مبلغ قدره ألفا قرش وأربعمائة قرش، لكل واحد منهم ستمائة قرش صاغ، وباقي المبلغ وقدره سبعة آلاف وسبعمائة قرش صاغ يصرف برأي من يكون ناظرًا على الوقف في إحياء ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر وتلاوة القرآن الشريف وقراءة دلائل الخيرات والمولد الشريف بمنزل من يكون ناظراً على هذا الوقف، وما يلزم لمن يحضرون في الليلة المذكورة، من المآكل والمشارب والتنوير، وغير ذلك مما يحتاج إليه الحال على الدوام، ويهدي ثواب ذلك لحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وإخوانه الأنبياء، والصحابة والقرابة والتابعين والأربعة الأئمة المجتهدين، ومقلديهم بإحسان إلى يوم الدين، وإلى أرواح العلماء العاملين والفقهاء والمحدثين، وسائر عباد الله الصالحين، وفي صحائف حضرات الموكلين الأربعة، ثم إلى روح كلٍ منهم بعد وفاته، وإلى أرواح أولادهم وأحفادهم وأصول كل منهم وفروعهم، وأموات المسلمين على العادة في ذلك».
وقد بلغت قيمة الموقوفات التي اشتملت عليها هذه الوقفية ثلاثمائة وسبعة عشر ألف جنيه ومائتين وثلاثة وعشرين جنيهًا من الجنيهات الذهب ضرب مصر. وكان من أهم الشروط التي وضعها الخديوي إسماعيل في حجة هذه الوقفية، أنه احتفظ لنفسه دون غيره باستعمال الشروط العشرة وهي: الإدخال والإخراج، والزيادة والنقصان، والإبدال والاستبدال، والتغيير والتبديل. وهذه الشروط سمحت له بعد ذلك بإجراء تعديلات جوهرية على الوقفية في السنة التي توفي فيها كما سيأتي بيانه.
وفي إجراء لاحق، استعمل الخديوي إسماعيل حقَّه في تلك الشروط العشرة، فجعل النظرَ بعد وفاته لحليلاته الثلاث السابق ذكرهن، مجتمعات، دون تفريق ولا تقديم ولا ترجيح بينهن، وألا يعمل برأي واحدة، أو الاثنتين دون الثالثة، وقد وثَّق هذا التغيير في حجة محررة أمام محكمة الباب العالي بمصر بتاريخين ثانيهما 24 رمضان سنة 1312هـ/ نمرة 7/جزء2/ عدد8.
وقُبيل وفاته، قام الخديوي إسماعيل بعمل «وقف وإلحاق وتعديل» على وقفيته السابق ذكرها وحليلاته الثلاث، وحرر بذلك حجة باللغة العثمانية أمام «محكمة بشكطاش» في إسطنبول بتاريخ 9 شعبان 1312هــ/4 فبراير 1895م، وهي مترجمة إلى العربية، وترجمتها مسجلة بالسجل الخاص بوقف الخديوي إسماعيل وحليلاته الثلاث المحفوظ بديوان الأوقاف الخديويية الخصوصية(سابقًا)، ووارد بالصحيفة الثالثة عشر من السجل المذكور من سجلات وزارة الأوقاف نمرة 3 مسلسلة، تحريراً في 15 نوفمبر 1914م.
أما الوقف الذي أضافه وألحقه بتلك الوقفية، فكان عبارة أراضي “تفتيش حلوان” ومساحته قدرها 2208 أفدنة. وكان هذا التفتيش جاريًا: «في ملكه الصحيح الخالص»، وقد وقفه هو وجميع مشتملاته، وما يتبعه من المباني والأشجار والمنازل والكُشكات، وغيرها من المباني الأخرى، وكذا ما به من المراكب البحرية والبرية والماشية والحيوانات والآلات والأدوات الزراعية.
وفي هذه الوقفية الأخيرة التي حررها في سنة 1312هــ، أجرى الخديوي إسماعيل عدة تغييرات على وقفيته الأهلية السابقة المحررة في سنة 1305هــ، ومنها: تسليم أعيان وقفية تفتيش حلوان إلى أحمد سليم أفندي الذي عينه متوليًا على الوقف، بدلاً عنه شخصيًا؛ حيث كان قد شرط لنفسه النظر والولاية مدة حياته. وأوصى أن يبقى أحمد سليم أفندي باشكاتبًا في وظيفته. ومنها أيضًا: تعديل المرتبات التي كان قد عيَّنها في وقفيته السابقة لحليلاته الثلاث، ولأشخاص آخرين، مع التوصية بأداء ما عليه من ديون شخصية.
بالنسبة لمرتبات حليلاته الثلاث؛ فإنه لم يعدل مرتباتهن وحسب؛ وإنما كشف في هذه الحجة عما كان بينهن من خلافات جعلت كل واحدة تستقل بمسكنٍ خاص، وهذا يعني أن علاقتهن ببعضهن لم تكن على ما يرام، وأنه لم يكن راضيًا على حالتهن تلك، ورغب في ترتيب شؤون أسرته الداخلية بأن «يَسْكُنَّ سويةً، ويدرن أمور الدائرة الوقفية مجتمعات، بالمخصصات السنوية المذكورة»، على حد ما ورد في نص حجة الوقف، وقد خصص لهن مبلغاً قدره خمسة وعشرين ألف جنيه مصري، لإدارة أمورهن، وجعل هذا المرتب «في مقابلة توليتهن أمور الوقف، وإذا لم يمكن لهن إدارة أمورهن بالمبلغ المذكور، فيأخذن ما يكفي لإدارة أمورهن».
وتضمنت حجة الوقفية أيضًا ما يدل على حرص الخديوي إسماعيل على أن تمتثل حليلاته الثلاث لوصيته تلك، وأن عليهن «كمال التمسك وتمام الاعتناء بها»، وذلك لشعوره فيما يبدو؛ بدنو أجله، وعدم رضاه عن عدم تعايشهن معاً في سنواته الأخيرة بالمنفى الاختياري بقصر «بيركون» في إسطنبول. وفي هذا السياق حثهن كذلك على «أداء» ما عليه من «الديون المعلومة التي عليه»، ورتب لهن طريقة إدارة شئونهن في حياته، ومن بعد وفاته، ثم من بعد وفاتهن أيضًا؛ فمن بعد «ارتحالهن للدار الآخرة، يجري صرف جميع المخصصات والخيرات المبينة من الإيرادات المذكورة في أصل الوقفية وذيلها وملحقها».
وبالنسبة لمرتبات الأشخاص الآخرين، سوى حليلاته، فقد أكد على أن ما بقي من ريع الوقفية بعد صرف مرتبات حليلاته ودفع الديون، يُصرف منه «لسعادة راتب باشا من أمراء مصر مائة وخمسون جنيهًا شهريًا ولحرمه خمسون جنيهًا شهريًا… وإذا توفي أحد الزوجين بقيت حصة المتوفي للباقي منهما على قيد الحياة». ويصرف أيضًا لمعتوقاته الموجودات بالآستانة (إسطنبول) وعددهن تسع معتوقات، ولبعض خدمه الموجودين في مصر آنذاك مبالغ تتراوح بين عشر جنيهات وخمسة وعشرين جنيهًا شهريًا، كما تصرف عشر جنيهات شهريًا إلى معتوقته التي كانت مقمية في مصر آنذاك واسمها: «ملك بيرقلفة»، وخمسة عشر جنيهاً شهرياً إلى محمد أفندي الناغي. وهذه المرتبات تصرف للجميع مدة حياتهم ثم من بعدهم لأولادهم فقط؛ «وأنه لو أراد تخصيص شيء بعد ذلك لأحد أتباعه أو معتوقاته، فيكون ذلك بمقتضى ورقة تحرر منه بختمه تحت شهادة شاهدين، وتصرف هذه المخصصات لمن تترتب لهم». وبعد أن انتهى من ترتيب تلك المرتبات، التفت إلى خدامه الذين طعنوا في السن، ولم يعودوا قادرين على العمل، فأشار إلى أن الهوانم حليلاته لهن أن يرتبن لهم «معاشات بحسب ما يرينه مناسبًا ما داموا على قيد الحياة».
وهذه الوقفية التي أنشأها وحررها في منفاه، هي الأخيرة في سلسلة وقفياته من حيث ترتيب تاريخ إنشائها. ونص حجتها المحررة أمام محكمة بشكطاش في إسطنبول يُعتبر -في نظرنا- درةً نادرةً من دررِ الحُجج الوقفية؛ حيث بلغ فيها الخديوي إسماعيل أعلى درجات التجرد والزهد في متاع الدنيا، وأصاب كبد حقيقة «الوقف» وماهيته. وقد عبر عن ذلك فيما ورد بالحجة، من أنه عدل عن كتابة وصية كان قد وعد بها في حجة وقفيته المؤرخة في سنة 1305هــ، وأنه «لا يرغب أن يُطلب من بعده وصية»، وذلك لأن:
فما هو خلاف الأوقاف المذكورة، سواء كان بالآستانة أو بمصر مما ينسب إليه من جميع الأطيان والأراضي والقصور والأبنية والكتب والعروض والحيوانات والمراكب البحرية والبرية وأثاث البيوت والنقود والمجوهرات والأواني الذهبية والفضية، بل نسبتها إليه من قبيل العارية فقط، وإنما هي ملك للهوانم المشار إليهن (حليلاته الثلاث)، يمتلكنها أثلاثًا على السوية؛ لأن الأملاك والعقارات والأشياء هي ملك مشترك بينهن ومشترى لهن، «وأنه لا يملك شيئًا فيطلق عليه اسم مال خلاف ما على بدنه من الملابس». وهذه الفقرة المقتبسة حرفيًا من حجة وقفيته الأخيرة، عبرت بدقة حقيقة الوقف، وهي أنه اعتراف طوعي بأن الإنسان في هذه الحياة، لا يملك شيئًا ملكية حقيقية، وإنما ملكيته للأشياء هي «من قبيل العارية». وتجلت ماهيته الوقف أيضًا في أنه اعتراف عملي بأن مالكَ المُلك على الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى وحده.
توفي الخديوي إسماعيل بن إبراهيم باشا بن محمد علي باشا عندما بلغ الخامسة والستين من عمره، ووافته المنية في منفاه الاختياري في إسطنبول بتاريخ 6 رمضان 1312هـ/ 2 مارس 1895م. وكان قد ولد في 17 رجب 1245هــ/ 21 يناير 1830م، وحكم مصر في الفترة من 28 رجب 1279هــ/ 18 يناير 1863م، حتى 7 رجب 1296هـ/ 26 يونيو 1879م. ونقل جثمانه إلى مصر ودُفن في مدافن العائلة بمسجد الرفاعي بالقاهرة. وقد حيزت له الدنيا حينًا من الدهر، ثم وجد نفسه معزولاً عن مملكته، وعاش سنواته الأخيرة في منفاه مع زوجاته وأولاده وحاشيته، وظل إلى آخر عمره متشبثاً بفكرة «الوقف»، حتى أدرك ذورتها عندما وقف جميع ما كان ينسب إليه من أملاك ولم يبق له شيء يملكه إلا الملابس التي على جسده، طبقًا لما أثبته في حجة وقفيته التي أنشأها في عامه الأخير. وكانت له أخطاء كبيرة في إدارة شؤون الحكم، مثل الإسراف في الاستدانة من الدول الأجنبية، كما كانت له إنجازات عظيمة خالدة في نهضة مصر، واستحق بها -رحمه الله- أن يلقب بأنه «المؤسس الثاني لمصر الحديثة»، بعد جده محمد علي باشا الكبير.