خليل عواودة: جلد وعظم وحرب وأزمة بين مصر وإسرائيل
فرض الأسير الفلسطيني خليل عواودة إرداته أخيرًا في معركة الجوع ضد سلطات الاحتلال، في انتصار احتاج وصوله إلى «حد الموت» وتصعيد في غزة أودى بحياة العشرات، وأزمة دبلوماسية بين إسرائيل ومصر.. كل ذلك لإنقاذ حياة رجل دخل سجون الكيان فيما يفترض أنه «اعتقال مؤقت» لن يتجاوز الشهور الستة، فاستمر خلف القضبان أعوامًا.
ملحمة الجوع
خليل عواودة عواودة، 40 عامًا، هو فلسطيني من مواليد الخليل في الضفة الغربية المحتلة في فبراير 1981، وهو أب لأربع طفلات.
أمضى داخل سجون الاحتلال ما مجموعه 12 عامًا؛ إذ دخل سجون الاحتلال لأول مرة في عام 2002، بتهمة الانتماء لجماعة مسلحة، في إشارة إلى الجهاد الإسلامي، التي تزعم السلطات الإسرائيلية أنه ينشط في صفوفها، لكن الأسير ومحاميته ينفون.
واجه حينها حكمًا بالسجن خمس سنوات ونصف، أكملها في عام 2007، قبل أن تعيد سلطات الاحتلال وضعه تحت الاعتقال الإداري بعد فترة وجيزة بأمر استمر 33 شهرًا. ومنذ ذلك الحين، تكرر الاعتقال الإداري عدة مرات، فيما تجاوز مجموعه ست سنوات ونصف، أحدثها منذ ديسمبر/كانون الأول 2021.
في 3 مارس/ آذار 2022، بدأ عواودة إضرابًا مفتوحًا عن الطعام احتجاجًا على الاعتقال الإداري، وبقي ممتنعًا عن الطعام 111 يومًا، لتصدر سلطات الاحتلال وعدًا لمحاميته بالإفراج عنه، فيسمح للأطباء بإمداده بالفيتامينات لأسبوعين، قبل أن يتراجع الاحتلال عن وعده، فيعود للإضراب الكامل في 2 يوليو/ تموز 2022.
نتيجة الإضراب، وصل خليل العواودة إلى ما وصفته المؤسسات الحقوقية بـ«الحالة الصحية الحرجة» أو «كأنه هيكل عظمي» لإجبار سلطات الاحتلال على وضع حد لاعتقاله «المؤقت». وتقول محاميته، أحلام حداد، إن وزنه تضاءل تدريجيًا حتى وصل إلى 37 كيلوجرامًا، مع معاناة من أضرار عصبية، ليصل إلى «مرحلة ما بين الحياة والموت»، ويصبح معرضًا لخطر الموت المفاجئ في أي لحظة.
حرب وأزمة دبلوماسية
في أغسطس 2022، دخلت الجهاد الإسلامي في تصعيد مع الاحتلال في غزة، خلف عشرات الشهداء والجرحى والمباني المدمرة، فيما كان الإفراج عن خليل العواودة أحد أهم مطالب الحركة لوقف التصعيد، لتتعهد الخارجية المصرية في السابع من نفس الشهر، ببذل كل الجهود الممكنة لتحريره ونقله للعلاج.
لكن ما بدا أنه ضمانات مصرية لم يؤت أكله سريعًا، إذ قررت محكمة إسرائيلية «تجميد» الاعتقال الإداري بحق العواودة ونقله إلى العلاج، في قرار لا يتضمن الإفراج عنه، ليواصل الأسير إضرابه، وتواصل مصر الضغوط، فيما قالت تقارير إسرائيلية، إن أزمة دبلوماسية اندلعت بين حكومتي مصر والاحتلال في هذا التوقيت.
لكن محكمة إسرائيلية رفضت الإفراج عنه، ونصحته بفض الإضراب تجنبًا لإيذاء نفسه، فأصدر في يومه الـ 180 من الإضراب عن الطعام، رسالة مصورة إلى شعوب العالم، بدا فيها جسده الهزيل ووجهه الشاحب، مسلطًا الضوء على عدالة القضية الفلسطينية، قال فيها:
وأخيرًا، أنهى خليل العواودة إضرابه بعدما قالت محاميته إنها حصلت على وعد مكتوب بعدم تجديد قرار الاعتقال الإداري الساري بحقه حاليًا بنهاية مدته.
الذراع المثلى ضد العزل
الاعتقال الإداري هو احتجاز الذي تقرره جهة ما ضد شخص بأمر إداري، دون توجيه لائحة اتهام، أو الإحالة للمحاكمة؛ بناءً على ملفات سرية استخبارية أو لعدم وجود أدلة أو نقصها.
ويشرعن القانون الدولي الاعتقال الإداري في ظروف استئنائية، كأن يكون الوسيلة الأخيرة لمنع خطر داهم لا يمكن منعه بوسيلة أخرى، وتحت شروط مشددة. لكن سلطات الاحتلال حولته لخيار أول ووحيد تقريبًا لقمع النضال الفلسطيني في الضفة الغربية؛ إذ تمارسه ضد أفراد لم يرتكبوا ما يستوجب المحاكمة، لكنها تشك أنهم قد يفعلون مستقبلًا.
ويزعم الاحتلال أن الاعتقال الإداري ضروري لإبعاد المشتبه بهم الخطرين عن الشوارع دون الكشف عن معلومات استخبارية حساسة. لكن الجماعات الحقوقية المحلية والدولية وحتى الإسرائيلية تقول إنها وسيلة مثلى تستخدمها سلطات الاحتلال لحرمان المعتقلين من حقهم الأساسي في محاكمة عادلة.
وتسمح السياسة باعتقال أي شخص لفترة تصل 6 أشهر، مع سلطة تمديد القرار ما دام ضابط الاحتلال يرى ذلك مطلوبًا، فيما تعترف تقارير إسرائيلية أنه سمح بحبس فلسطينيين لسنوات دون أي إدانة أو دليل.
استخدم ضد مائير وديان
وتقول جماعات إسرائيلية إن ضباط مخابرات الاحتلال يملكون سلطات بلا حدود ضد الفلسطينيين تحت هذا البند؛ إذ يمكنهم استخدامه دون أسباب؛ استنادًا إلى المادة 111 من أنظمة الدفاع لحالة الطوارئ التي فرضتها السلطات البريطانية في سبتمبر/ أيلول 1945، والتي اتخذت في حينه بحق اليهود والعرب على حد سواء؛ إذ شملت من ستصبح لاحقًا أشهر رئيسة حكومة إسرائيلية جولدا مائير، وأشهر وزير دفاع موشيه دايان، قبل أن يرثها الكيان بشكل متصاعد منذ السنوات الأولى لاحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967.
وسجل الخط البياني للاعتقال الإداري انخفاضًا واضحًا في 1977، تحت ضغوط دولية، حتى توقف تمامًا في 1980، ليطلق الاحتلال سراح آخر معتقل فلسطيني إداري في 1982، قبل أن يعود مجددًا مع اندلاع الانتفاضة في 1987، مع أوامر عسكرية جديدة، أعطت سلطة إصدار أوامر الاعتقال الإداري لجنود أدنى في الرتبة العسكرية.
وبحسب هيئة شؤون الأسرى والمحررين، أصدرت سلطات الاحتلال أكثر من 50,000 قرار اعتقال إداري منذ 1967، أكثر من نصفها بعد انتفاضة الأقصى عام 2000، إذ تجاوزت 27 ألف قرار منذ ذلك الحين.
ومنذ مارس/ آذار 2002، لم يمر شهر واحد دون أن تحتجز سلطات الاحتلال ما لا يقل عن 1000 فلسطيني رهن الاعتقال الإداري.
وتحتجز إسرائيل حاليًا نحو 4,400 سجين فلسطيني، بينهم نحو 670 رهن الاعتقال الإداري الذي تصاعد منذ مارس/ آذار عندما كثف الاحتلال حملات اعتقالاته الليلية شبه اليومية في الضفة الغربية المحتلة.
ودخل العديد من الفلسطينيين في إضراب مطول عن الطعام في السنوات الأخيرة احتجاجًا على الاعتقال الإداري. وفي معظم الحالات، أطلقت سلطات الاحتلال سراحهم بعدما تدهورت صحتهم إلى حالة لم يكن تجاوزها ممكنًا إلا بتحقيق المطلب. لم يمت أي منهم في السجن، لكن عديدين منهم أصيبوا بأضرار عصبية لا يمكن الشفاء منها.
ضد القانون الإسرائيلي نفسه
في عام 2016، بدأت مجموعة من الباحثين وقاضٍ إيطالي مشروع بحث مدته ثلاث سنوات حول قانون إسرائيل وممارسات الاعتقال الإداري في الضفة الغربية. كان الهدف الرئيسي للمشروع هو إجراء تقييم نقدي لمدى توافق الاستخدام الإسرائيلي للاحتجاز الإداري ضد الفلسطينيين مع معايير القانون الدولي، لتكشف أن الأسرى ومحاميهم لا يحصلون على أي معلومة؛ إذ يحق للمدعين الاكتفاء بالرد أنهم «يملكون أدلة سرية»، دون الحاجة لمجرد القسم على صحة شهاداتهم.
وخلال مرحلة الاستجواب، يقول المحامون، إن محتجزي الاعتقال الإداري يعرضون بشكل روتيني لمعاملة توصف بأنها تعذيب أو معاملة أو عقوبة قاسية أو لا إنسانية أو مهينة من أجل الحصول على اعترافات أو معلومات أخرى.
ورغم إقرار المحكمة العليا في دولة الاحتلال أن الاعتقال الإداري «وسيلة متطرفة» ينبغي استخدامها بحذر في حالات استثنائية، فإنهم أقروا تقريبًا كل أوامر الاعتقال الإداري التي رفعت إليهم لينظروا فيها.
ويستخدم موظفو جهاز الأمن العام في كثير من الأحيان أساليب مختلفة أثناء الاستجواب، مثل الاهتزاز العنيف، وتقييد المحتجزين في أوضاع مؤلمة، والاستخدام المفرط لعصب العينين والأصفاد، والحرمان من النوم، والحبس الانفرادي، والتعرض لأصوات عالية أو لدرجات حرارة شديدة البرودة أو شديدة الحرارة لفترات طويلة، والحرمان المطول من الطعام والماء، والحرمان من الوصول إلى دورات المياه، والاستحمام أو تغيير الملابس، وهي أساليب تقول المحكمة العليا، إنها محظورة بموجب القانون المحلي الإسرائيلي.